يافا... حكاية غياب ومطر

نشر في 01-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 01-11-2014 | 00:01
No Image Caption
أكتب الآن وأنا أعرف أن ساعي البريد قد غاب للأبد، وأن زمن الرسائل الورقية انتهى مذ اقتحمت التكنولوجيا بكل سطوتها وجبروتها تفاصيل حياتنا، مذ صرنا معلقين بالهواتف النقالة، والبريد الإلكتروني الذي جمَّد عواطفنا، وقضى على الكثير من اللهفة، أكتب وأنا أعرف أن الحكايات التي أثقلنا بها الغيم الأبيض لن تُمطر علينا واقعاً أجمل، وأن الذين رحلوا لن يعودوا، والذين أكلتهم الغربة لا يغريهم الوطن بعد أن سلبتهم الغربة عقولهم ببريقها وبذخها.

وبعيداً عن كل شيء، عن الغربة والغياب والراحلين، هدأ الكوكب، أو ربما هذا الحي الريفي الذي صار كوكبي بعد أن هزمتني المواعيد التي لم تنجب لي قصة الحب التي انتظرتها طويلاً، والحكاية التي حلمت بها، والفارس الذي رسمت صورته في مخيلتي. وبين أوراقي وفي قصائدي وأدق تفاصيلي، الحكاية التي أردت أن أحياها، لا أن أكمل ما تبقى من حياتي وأنا أحلم بها.

الغرفة هادئة كما اعتدتُ كل مساء، لا أحد يشاركني طقوس المساء بين الجدران الأربعة التي تحيط بي، فبعد تناول طعام العشاء يتفرق أفراد العائلة كلٌ إلى “وكره” كما أقول لهم دائماً على سبيل المزاح، فأمي تُعد الدروس التي ستقوم بشرحها لطلبتها غداً، وأبي ينشغل بمتابعة الأخبار التي لا جديد فيها بعد أن غرقت برائحة الدم، والبارود. وأما الإخوة والأخوات فكلٌ وشأنه الذي يختلف باختلاف اليوم.

وحده صوت الموسيقى الدافئة kiss the rain يدق أبواب الذاكرة، وصوت صرير القلم الذي يتعارك مع الصفحات البيضاء الهاربة من حمى البوح، والشموع المعطرة بنكهة اللافندر، يشاركونني كهفي الصغير هذا.

ما زال ضوء غرفتها مشتعلاً كشمسٍ تتوهج في صباحٍ صيفي، منذ انتقالنا لهذا المنزل لم ألمحها إلا من خلف الستائر البيضاء التي تغطي نوافذ غرفتها، ولم أسمع من شرفتها إلا أنغام الموسيقى الحزينة، التي تنبعث في وقتٍ متأخر من المساء، ولا تتوقف حتى الفجر على وتيرة واحدة.

أعرف في قرارة نفسي أن وراء الأبواب الموصدة حكاية عميقة علّمتها العزلة، والصمت، واجتناب ثرثرة البشر، والجارات السيئات اللواتي يجتمعن كل صباح على فناجين القهوة والنميمة، كمجلس الدولة الأعلى لبحث أمور الحي التي من المفترض أن لا تعنيهن، لكن الفضول القاتل يحرضهن على عدم تفويت جلسة من هذه الجلسات التي تكسر الروتين الذي تسير عليه أيامهن في هذا الحي الهادئ.

أنا لا أراها، لكني أشعر بحركتها في أروقة البيت جيئة وذهاباً، وأشعر بالنسيم يتسرب من الشرفة المفتوحة مقتحماً الغرفة ليعبثَ بأطراف ثوبها الطويل الذي تكاد تتعثر به في مشيتها.

ما زالت سراً مدفوناً في بئر عميق، حتى ليخيَّل إليَّ أحياناً أنها لا تحدث الجدران كما أفعل، لأن “للجدران آذاناً”  تنصت إلى كل صغيرة وكبيرة، وقد تشي بالحكاية لجدران البيوت المجاورة.

أكتب إليكَ من الوطن، من مدينتا، وشوارعنا عسى أن تحمل الكلمات أشواقي إلى بلاد الغربة الباردة التي تسكن فيها، أكتب إليك الآن وأنا أحاول ترتيب أبجدية كادت تفلت من يدي، وتطيح بي عن عرشها، بينما اصطاد الغيم على سرير الوحدة والحنين. أحاول تجاهل رحيلك، وغربتك، ومسافات كبيرة امتدت بيننا من دون أن نملك حولاً ولا قوة لتغيرها كما تهوى أنفسنا، ومن دون أن نملك في جعبتنا شيئاً يسد ظمأنا للقاء عاجل يجمعنا على أرض الوطن.

أين أنتَ الآن؟ أية بقعة من هذه الأرض تحتضنك؟

هل تتذكرني بين وقت وآخر، وتهمس لنفسك “اشتقت جنونها”، أم أنك انشغلت بالعمل وفوضى الانتقال إلى بلد غريب لا يُشبهك؟

هل حدثت البحر عني (كما وعدت)

أم أنك ألقيت بي إلى اليَّم

وأصدقاؤك؟

هل رأوا المرأة المجنونة في عينيك

أم سمعوا كلامي الذي يجري على لسانك؟

(2)

مرَّ الصيف وها هي تقف على نوافذ الذاكرة تودع صيفاً محملاً بالكثير من العابرين، تراقب المارة الذين كانوا جزءاً من حكاية لا تنتهي إلا لتبدأ، ولا تبدأ إلا لتنتهي. تكنس الغبار من رفوف قلبها، تلمع الأيقونات التي احتفظت بها هناك على جدران روحها لكل الأشخاص الذين أحبتهم فتفرقوا فوق الأرض وتحتها.

حكاية بدأت من هناك من الأفق البعيد، مشبعة بالكبرياء والعزة، بالفرح والمعاناة، بالحزن والبهجة، بالانتظار، باللهفة، بالفراق، باللقاء، بالغياب، بالبكاء.

تبتسم ساخرة مما آلت إليه حالها حين تعود بذاكرتها للأعوام الماضية، فقد حملت هذه السنين أجمل أحلامها ورحلت تاركةً خلفها أنثى مهزومة، وحيدة في ركنٍ لا يلجه البشر. تملأ ساعات فراغها الطويلة بالكتابة في مفكرتها السوداء ما تجود به قريحتها، وذاكرتها، ووجع يفرك جسدها فيتحول إلى كلمات تنهمر على الورق كما المطر، تجد حولها بعض الأقلام، والقصاصات الورقية المتناثرة على أرضية الغرفة، والكثير من الذكريات، والجثث التي تملأ ثنايا ذاكرة أتعبتها طيلة خمسة وعشرين عاماً.

تتساءل ما الذي أوصلها إلى عالم العقلاء بعد أن كانت أنثى الجنون والجرأة والطموح؟

كيف طرق اليأس بابها هي التي كانت تراقص الأمل وتداعب المستحيل في كل خطوة من خطواتها؟

أيعقل أن يأخذنا الحب والحزن إلى هذه النقطة البعيدة كل البعد عن الحياة؟ أن يجعلنا أمواتاً في جسد حي ما زال يطلب الطعام والشراب، يتعب ويمرض ويتأثر بما يحيط به؟

كم مرة أرعبها اسم هذا الرجل الذي ما زال محفوراً في ذاكرتها كوشم على الرغم من كل سنوات الغياب؟

كان في حياتها أمراً استثنائياً، حدثاً غير عادي، حكاية خالدة، عرساً وطنياً، وبطلاً تهتف باسمه الجماهير حتى يومنا هذا. كيف للأبطال أن يموتوا وأسماؤهم تزين أسماء الشوارع، وجدران البيوت، وألقاب دفعات الخريجين، وشعارات الثورات، والحركات الوطنية.

وهو تحديداً كيف تنساه وإرثه الأدبي يتربع بكل فخر في مكتبتها العتيقة، الروايات، والقصص، والأبحاث، والصحف التي كان يكتب بها. وتلك الصحيفة الملعونة التي طبعت اسمه على صفحتها الأولى بالخط العريض.

كان أمر الإطاحة به عن عرش ذاكرتها أمراً عصياً، لكن رائحة جثة الحب لم تترك لها سبيلاً آخر. ضاقت ذرعاً بامتلاء حياتها به، ولتنصف نفسها من مقصلة الحب الذي ترك في روحها ندوباً مستديمة، وجراحاً لا تندمل، ستكتبه في رواية لتمنحه خلوداً أدبياً، وموتاً استثنائياً آخر.

تتساءل أحياناً عن البطل الحقيقي لحكايتها تلك. من المنتصر؟ أم أنه القدر هو الذي انتصر عليهم جميعاً حين فرقهم فوق الأرض، وتحت ترابها. فلم يعد يجمعهم إلا ماضٍ مضى ولا سبيل للعودة إليه، حتى لو اجتمعت كل قوى الأرض.

لغاية اللحظة لم تدرك ولن يفعل أحدٌ آخر، فبعد انتهاء الحكاية ذهب كل واحد منهم في سبيله، وتركوا لها شبكة العنكبوت وتخلوا عن خيوطهم بعد أن تخدرت أطرافهم لفرط تمسكهم بها، هدهم التعب فألقوا أطراف الحكاية على عتبات بابها لترتبها كما تشاء، وبما يسمح به جنونها.

لم تدرك أيضاً من كان أكثرهم حظاً وأعظمهم غنائم. أم أنهم متساوون في الخسارة والجرح والألم، من دون أن يغلب أحد الآخر ويفوقه في معاناته.

(3)

بتذكر آخر مرة شفتك سنتا

بتذكر وقتا

آخر كلمة قلتا

وما عدت شفتك

كانت الأغنية تنبعث من شرفتها بنرجسية تامة، كأن فيروز تغني لأجلها فقط، فالأغاني والقصائد والروايات ليست ملكاً لمن كتبها، بل لكل واحد قرأها فشعر أنها موجهة إليه، وكتبت لأجله، فطابقت حاله تمام المطابقة. وهكذا فإن هذه الأغنية على ما يبدو ملك هذه الغريبة التي تحتضن سراً ما لا تبوح به لأحد.

كانت جحافل الأوراق الصفراء تتسابق أيضاً لتقف بباب بيتها كأن حفلاً موسيقياً أقيم هناك على شرفها، حفلاً لم تدعُ إليه بشراً، بل طبيعة جاءت من أقصى الأرض لتكون بقربها في هذا الصباح الخريفي.

أيقظني صوت أمي من شرودي لأدرك أنني تأخرت عن العمل، وأطلت الوقوف بباب الجارة الأكثر غموضاً في حيِّنا، فتابعت طريقي إلى العمل ودوامة من الأفكار تدور في رأسي المتعب، وفضول عميق يقرع الأجراس في عمق قلبي لأعرف ما وراء ذلك الباب الذي ظل مغلقاً في وجه أهل الحي لعشرة أعوام متتالية.

لم تكن تستقبل فيها الزوار، ولم يمر عليها أصدقاء ولا أقارب كأنها “مقطوعة من شجرة”، لم تخرج يوماً للتسوق، ولم تعد يوماً حاملة حزمة أكياس من البقاله، لم تتشاجر مع الجارات مثلاً على الماء الذي تنظف به باب بيتها فيوسخ الشارع الذي يلعب به الصغار، ويعودون إلى أمهاتهم بأحذية متسخة تحول ساحة البيت إلى لوحة من طبعات الأرجل الطينية، ولم تقم عرساً صاخباً يعكر صفو المساء ويمنع طلاب المدارس والجامعات من التركيز في مذاكرتهم، ولا عزاءً حزيناً يبكي أهل الحيِّ فيه، كانت وحيدة وهادئة كأن لا شأن لها بكلِّ ما يفعله البشر.

الصمت المنبعث من أرجاء منزلها يكاد يقتلني، وحتى الموسيقى الهادئة التي أسمعها من حين لآخر تزيد من شدة فضولي لاختراق ذلك الباب الذي ظل يحول بيني وبينها.

ستقول وأنت تقرأ رسالتي هذه:

- لأبعد، أبعد حد أنتِ مجنونة.

ولن أكترث لأنني في عالم يتنافس فيه البشر ليبدوا عقلاء، أحاول قصارى جهدي أن أحافظ على جنوني، وروح الطفلة الشقية المشاغبة التي ما زالت تركض بمرح في دهاليزي الداخلية، وتقطف زهر الياسمين من حديقة البيت لتضعه في مزهرية أنيقة على مكتبها الخشبي، وتلعب الكرة مع أطفال الجيران.

- حدسي يقول إن هذا الصمت صمت الخيبة.

استطيع استنشاق رائحة حزنها من خلف جدران القوقعة التي تغلقها حول نفسها. أراها كل مساء في الحلم تحكي لي. أسمع صوتها بارداً وكئيباً يشبه البكاء. صدقني حدسي لا يخطئ في مثل هذه الأمور.

- دعيها وشأنها.

إن كان إغلاق بابها حزناً فلماذا تريدين إشعال حرائق ذاكرتها من جديد؟

لماذا تسعين للعبث بجمرات ذاكرة همدت نارها، فتنفثين فيها الجحيم؟

لا أجد لأسئلتك أجوبة فربما تتضح بعض الإجابات بعد الانتهاء من هذا الكتاب أو ربما في ذلك الوقت سيتوقف زمن الأسئلة.

back to top