الأمان المُخيف!

نشر في 30-10-2014
آخر تحديث 30-10-2014 | 00:01
 مسفر الدوسري نعتقد أن الأمان سورنا وحصن قلوبنا الذي يحميها من كرنفال الشوك، واحتفالية الأذى، وسوء النوايا، يسكننا إيمان عميق بأنه حرزنا ضد عمل الشيطان، وشر الإنسان، وعثرات الدروب الموحشة وظلمتها، للحد الذي أصبح فيه الأمان هاجسنا، ومطلبنا ومبتغانا الإنساني، وجوهر نشاطنا في الحياة وعلاقاتنا مع من سوانا فيها، وأصبح هو العامل المشترك لكل ما ننشده ونفعله في حياتنا، نصادق، نحب، نتزاوج، نعاهد، نصاحب، نمتهن عملاً، نفعل كل ذلك وخلافه بحثاً عن ذلك الشعور المسمى بالأمان والذي يمنحنا الطمأنينة والسكينة في الحياة، ولكن، إلى أي حدٍّ نحن على صواب؟!

إلى أي حدّ إيماننا هذا لا يقبل الشك، واعتقادنا هذا لا يقبل الخطأ؟!

إلى أي حدّ تعتبر دائرة الأمان التي نسعى الى إحاطة أنفسنا بها هي من عمل الخير لذواتنا؟!

وما هي مساحة الأمان الواجب علينا توفيرها لكي نحظى بالحماية الكافية لأنفسنا؟! فمساحة هذه الأمان مرنة لدرجة أن البعض يضيّقها حتى لا تتسع لسواه، والبعض قد يوسّعها لدرجة أنها قد تشمل كل الحياة!

سألت صديقي: ما الذي حدث؟! عرفتك هادئاً، خجولاً، تكاد تخشى الحديث حتى مع ظلك، ولا تكاد تختلط سوى مع نفر قليل ممن تعرفهم، وإذ بي أجدك بعد سنين متشعباً في علاقاتك، جريئاً في التعبير عن آرائك، بل وجريئاً أيضاً في ألوان ملبسك... فما الذي جدّ؟!

فأجابني: خرجت من دائرة أماني!

صديقي هذا يملك صوتاً عذباً بطعم الماء الزلال، إلا أنه لم يكن يصب صوته إلا في كأس صغيرة من الأصدقاء المقربين منه جداً، رغم محاولة عدد من كبار الملحنين عندما كان في مقتبل العمر تبنّي ذلك الصوت واحتضانه، بحجة الخجل تارة، وتارة بحجة التقاليد القبلية التي ترتبط باسمه!

إلا أن الحقيقة هي أنه كان مستكيناً بدائرة الأمان الضيقة التي أحاط نفسه بها، يسكب صوته فيها لتزهر أرواح من هم حوله فقط، فلم يتعد العطر مساحة تلك الدائرة! ورغم أنني كنت مشمولاً بتلك الدائرة وبذلك العطر، إلا أنني لطالما أبديت حسرتي بألا تتسلق الزهور سور تلك المساحة وألا يسافر الشذا في المدى!

دائرة الأمان الشخصية أحيانا مخيفة، إنها المعطّل لطاقاتنا، والعائق أمامنا لاكتشاف أنفسنا، واكتشاف الحياة، واكتساب خبرات أوسع في هذه الدنيا، إنها السجن الذي نحرص على بنائه حجراً حجراً ليحجب الشمس عنا، ويختصر الهواء لنا باسم الحماية!

نحن لا نأمن سوى ما نألف، نختار السفر لأماكن نعرفها، خير من أخرى نجهلها، نفضل الحديث مع شخص نعرف سلفاً ما قد يقول، بدلاً من آخر نجهل ما قد يثرينا به أويثيرنا، نسلك درباً عبرناه آلاف المرات ليس بالضرورة حبّا فيه، لكن خوفاً مما قد يعترضنا في غيره، الأمان في مقابل الخوف هذا غالبا ما يحكم اختياراتنا، والمفارقة أن العلاقة بينهما عكسية، فكلما اتسعت دائرة الخوف، ضاقت دائرة الأمان لتصبح سجننا الخانق، وغرفتنا المحكمة الإغلاق التي تمنعنا من رؤية مباهج الحياة،

"المرء عدوّ ما يجهل"، وبالتالي نظن أن المعرفة هي حبل أماننا، متناسين أن ما نعرفه الآن هو ذاته ما كنّا نجهله في الأمس.

عندما خرج صديقي من "دائرة أمانه"، تجنّح صوته فتكاثرت العصافير وزادت أهازيج الشذا، أما كيف فعل ذلك، فتلك حكاية أخرى لن ترويها شهرزاد... فقد أدركها "الصباح"!

back to top