خلف الأنا

نشر في 25-10-2014 | 00:01
آخر تحديث 25-10-2014 | 00:01
No Image Caption
{يا له من يوم رائع للموت!}.

لم تكن تبالغ، لقد كان يوماً جميلاً بالفعل، شمس دافئة، نسيم عليل، وفكر صافٍ.

الموت بالنسبة إليها، منذ يوم الولادة، صديق عزيز، ستضطر إلى مرافقته إلى الأبد في يوم ما.

لم تعرف أبويها، توفيا قبل ولادتها، كانت وحيدة، إلا من صحبة نفسها وصحبة الموت الذي لا تقابله إلى الآن.

اعتمدت على نفسها في كل شيء، الأكل، الشرب، المتعة، الانطلاق. لم تتعلق بالحياة كثيراً، لم تكن تتحمل فكرة الفراق.

{يا له من يوم رائع للموت!}.

قالتها لصديقة عمرها، بعد أن قالتها لنفسها.

أنت تصيبينني بالاكتئاب.

ليس صحيحاً، أنا أحاول أن أعرّفك بصديقنا المشترك شئت أم أبيت، وأقرّب نفسَك له، إنه جميل، ويجب أن تشعري بجماله، لتتخلصي من اكتئابك المزمن.

أفضّل صحبة يومي، عن صداقة غدي.

صحبة يومك مصيرها محتوم، وصداقة غدك هي الدائمة.

لما لا أستمتع بالاثنين معاً؟

لا أظن أن ذلك ممكن، لأنهما شديدا العداء لبعضهما.

سأحاول أن أكون ناضجةً، وأصاحب الاثنين، من دون أن أتدخّل في ما بينهما، لأنه ليس لي في شيء.

هل من الممكن فعل ذلك؟

لمَ لا، عداوتهما أزلية، منذ بدء الخليقة، ترعرعت تلك العداوة في بحر الاختلافات.

لكنك يجب أن تفضلي أحدهما على الآخر، فالعدل بينهما مستحيل.

سأصاحب يومي، وعندما يأتي الغد... سأصاحبه أيضاً.

تفكير انتهازي.

بل إحساس متفائل.

يكفي الموتَ وفاؤه. إنه سيكون في انتظارك بعد انتهاء صحبة الحياة، مهما طال الوقت، فهو البداية الأخرى.

الموت في قاموس تفكيري هو النهاية.

يا له من قاموس محدود.

...........

إنه كذلك، لأنه يحصر الأقوال المحدودة، في الأفعال المطلقة.

ها قد عدنا إلى الفلسفة.

هاهاها، وهل ابتعدنا عن الفلسفة يوماً، حتّى نعود إليها؟

أفففف، اتركيني أستمتع بالحياة قبل أن أتعرّف إلى صديقك العزيز.

كأنك خائفة؟

أنا بالفعل والقول خائفة، ولا أخجل من الاعتراف.

اعترافك شجاعة، ينقصك التعرّف إليها.

التعرف إلى الشجاعة؟ إنني أملكها.

وهل كنا نعرف ما نملك؟

سأحاول التعرف إلى شجاعتي، إذا كان لدي الوقت الكافي لذلك، ربما يعرّفني إليها الموت، عندما أقابله.

طبعاً ستتعرفين إلى شجاعتك في يوم من الأيام، ولكن حتّى وقتها ستمارسين الاكتئاب.

حسناً، لا مانع لدي، ولكن دعيني أستمتع بما أملك الآن.

لقد وُلدنا بالأمس، وسنموت اليوم، هل لديك وقتٌ كافٍ للتمتّع؟

نعم، سيكون لدي، عندما تقف هذه المناقشة.

حظاً سعيداً.

مع إطلالة الغروب كانت الفراشتان تتعرّفان إلى الموت.

لم يعيشا طويلاً.

بالأمس كانتا في شرنقتيهما، واليوم هو موعد موتهما، ذلك الموعد الذي حدّده الله، مساراً لنوعهما.

كلٌّ له يوم... وسيأتي...

لتبدأ صحبة الأبد...

خلاص

مبنى قديم...

نوافذه قليلة... تتجنّب ضوء الشمس...

مجمّع لتعليم البنات...

تقف واحدة منهن أعلى السطح، على شفا السقوط...

انزلي... ما الذي تفعلينه هناك؟... سوف تسقطين من الأعلى...

ما الذي تفعله هذه المجنونة؟

عيب يا بنت، كفى لعب أطفال.

سأتصل بوالديكِ، إن لم تنزلي في الحال.

لن أتراجع...

الخلاص على بُعد خطوة منّي...

كفى...

ما يحدث لي أكبر منّي...

ربي... كما عرفته، لا يرضى بما يجري.

أنا خائفة...

غثيان...

خائفة...

أريد الخلاص...

ها هو... على بعد خطوات، خارج النافذة.

قالوا لي: “من يموت... يذهب إلى الله”.

قالوا لي: “الله هو المعين”... أريد من الله أن يعينني.

قالوا لي: “الله هو المنقذ”... أيد من الله أن ينقذني.

قالوا لي: “الله هو الذي يفرج الكرب”... أريد من الله أن يريحني من الألم.

أريد أن أذهب...

لأسأل الله... عن الخلاص.

بداية تاريخ

سأتزوجها...

فرصة، لن أدعها تمر.

الحي أمواله غزيرة، أريد أن ألتهم منها...

أريد أن أكون شخصاً، غير الذي كنت في مدينتي البعيدة...

يجب أن أنسى، وأن ينسوا، سنين سجني المشينة... وتاريخي المزري...

أريد أن أبدأ حياة جديدة... بأناس جدد... بسمعة جديدة...

أن أبدأ كتابة تاريخي... من جديد.

إمام المسجد...

قدوة الحي...

المرجع لهم، الكبير في أعينهم، الصوت الأعلى في آذانهم وعقولهم...

سأتزوج ابنته...

ابنة الثلاثة عشر، ها هي الفرصة، تأتي على طبق من عبث سحري...

سمعتي ستكتب من جديد...

من سيتذكر ماضي الشخص الذي ناسب إمام المسجد؟

سأعيد كتابة تاريخي... فأنا هنا المنتصر، أو سأكون على أساس ما سوف يكون.

ما الذي يهمني؟

ستحمل اسمي...؟

ستنجب طفلاً يُنسب إليّ...؟

ما الفارق؟

ستخدمني... من دون مقابل، نفسها وعينها ستظلان مكسورتين، لن تقوى على مواجهتي أو على الاعتراض على أي شيء، طوال ما حييت أنا.

سأسكن معهم... في دارهم، وآكل من أكلهم، وأتستر على ما سأفعله بسمعتهم.

هذه بدايتي الجديدة...

لا شيء يُعطى مجاناً...

كل شيء له ثمن...

الصغيرة قالت لي: «أنت خلاص ربي»!

لم أفهم... لا يهمّ أن أفهم...

ما الفارق؟

ستكون حياتي أفضل... نظرات الناس ستتغير... سيكون كوني هادئاً... وطريقي الوعر سيتمهد.

ستكون هي الحبر... الذي سيخط أول سطور تاريخي... الجديد.

لأنني المنتصر...

وانتصاري نهائي، لأن شرفهم يحمل اسمي، والشرف في هذه المدينة ليس له ثمن... إلا الدم.

وجودي الآن مثل عدمه... وموتي مثل حياتي، موت متواصل.

سأتزوجها...

سأنتصر... سأعيد تكويني...

وغير ذلك لا يهم ولا يفرق...!

حجرة...

فتحَت صندوقاً قديماً، مهملاً منذ زمن، في ركن هاجر منه العنكبوت بعد أن ملّ سكنه.

أشياء كثيرة...

قديمة بالطبع... لكنها جديدة بالنسبة إليها.

صور... كتب... أوراق... ملابس بالية...

و... شريط صوتي!

شمَّت رائحةً تفوح من الأوراق والملابس، تشبه رائحة عرق رجل.

سمعتَ للمرّة الأولى صوته...

لم تسمع الكلام، فقط نبرة الصوت، بعد أن كان بالنسبة إليها، مجرد حِبر منثور على ورق، مسجونٍ في إطار ثمين، يقال عنه صورة.

اكتملت لديها ثلاث حواس، من أصل ستة.

قنعت بما اكتمل لديها، واستعانت بالخيال لتعويضها عمّا نقص.

شعرت بأن نصفه واقعي ونصفه الآخر خيالي، يكون... كما تريده أن يكون.

تلك التي تراها توقعات لما قد يحدث من جانبه، فتخيلته كما أرادت أن تعرفه... إنسان، فيه من الملائكة وفيه من الشياطين.

واقعيتها أراحتها من امتطاء جواد الأمنيات... واحتمالات السقوط في مستنقع الخيبات.

أرادت أن يكون إنساناً كما باقي البشر، شخصاً عادياً، لا يفوق غيره.

شعرت بأنها تنحر انبهارها به...

أراحها بأنها تنحر انبهارها به...

back to top