عرفت الهوى

نشر في 25-10-2014 | 00:01
آخر تحديث 25-10-2014 | 00:01
No Image Caption
ندى أرجو منك طباعة هذه الأوراق وإرسالها بالفاكس لشركة الاعلانات. التفاصيل كلها في الملف المرفق لهم بما فيها المواعيد حسب اتفاقنا معهم لكن أكدي عليهم بضرورة إبلاغنا خطياً بأي تعديل في المواعيد قبل شهر من التاريخ الجديد حسب العقد، أرسلي أيضاً إيميل اعتذار لرئيفة الجناحي لعدم تمكني من حضور معرض البحرين هذا العام.

ندى من فضلك سجلي كل هذه الملاحظات لئلا يفلت منها شيئاً. وحولي كل إيميلات العمل أثناء غيابي كالعادة إلى ايميلي الشخص.

ندى: شيء هام أيضاً، تابعي موضوع الماسة للمجوهرات لحد الآن لم يتم تسديد بقية المبلغ! مجرد متابعة، حتى لا ترحل الدفعة إلى السنة المحاسبية الجديدة.

ندى ذكريني ماذا أريد منك أيضاً. هل هناك شيء أريد إبلاغك إياه.

هل لاحظت كم مرة كررت اسمك خلال ربع ساعة!! ههه.

تبتسم، يبدو أنك على سفر!؟

نعم، أحضرت لك هذا الكتاب لتصفحه أثناء غيابي، أحضرته الصيف الماضي اطلعي عليه بالتأكيد سيلهمك ويفيدك.

هل تلاحظين تطور في تصميماتك.

يصعب علي ملاحظة نفسي لكن أصدقائي لاحظوا أني أقلد تصميماتك.

مممم... رااائع لا تقلقي كلنا نبدأ بالتقليد وننتقل لبصمتنا الخاصة.

أثناء غيابك أقوم بدراسة تصاميمك وأحاول تقليدها كتدريب.

أوووه برافو ندى، يهمني الاطلاع عليها حين عودتي. بمجاملة متعجلة خجلت منها.

بحماس من صدق مجاملتي: هل أرسلها لك بالإيميل للاطلاع عليها أثناء عطلتك.

خشية إحراجها: يا ليت شكراً.

لا وقت لإطالة الحديث مع ندى، لكن أشعر بضرورة متابعتها من وقت إلى آخر بتركيز كمصممة لديها موهبة لم تتح لها الفرصة بعد، تذكرني ببداياتي حين كنت واثقة من امتلاكي الموهبة دون دراية بأسلوب عرضها وتنميتها.

عند باب المكتب أرتدي عباءتي مودعة: ندى لا تعتمدي على الذاكرة في ما يختص بالملاحظات، سجلي كل شيء، نفذي حرفياً وتابعي معي على الهاتف في حال الضرورة أو بالإيميل، هل توصيني بشيء أسافر لمدة أسبوع بإذن الله.

شكراً مدام سلمى تروحي وترجعي بالسلامة.

اتصال من مدى تتأكد من حضوري إلى المطعم لتناول الغداء معها كعادتنا كل اثنين هي وصديقة أخرى، أنا في الطريق 10 دقائق وأكون عندكما اطلبي لي شيئاً خفيفاً... لست جائعة سأحضر للسلام عليكم فقط.

هكذا أنا دائماً قبل السفر تنتابني حالة من التوتر.

قلق من جدوى الرحلة، هلع من احتمال التقصير في مسؤولياتي.

شك في حاجتي لها بالفعل أم أنني أعب متعاً.

هل اخترت التوقيت المناسب أم أنها على حساب أولوياتي.

فإذا انتهيت من هذا النوع من القلق انتقلت للمرحلة التي تليها في الأهمية، أقسم التوتر إلى أولويات، أخطط له.. وأنجزه بتفوق.. أتدرب بشكل مستمر حتى يصبح لاواعياً فلا أحتاج إلى بذل أي جهد لاستدعائه، وأتدرج به تنازليا لأعود تصاعدياً.

المهم أن أكون في حالة قلق! يبدو أننا كبشر نعيش حالة قلق اختيارية كمكسب ثانوي نكفر به عن شعورنا الدائم بالذنب نعاقب أنفسنا لنثبت لله أننا نشعر بالندم ونرجو المغفرة! ترى هل ندمت حواء بشدة فأورثتنا نحن معشر النساء قلقاً ممتداً ليوم العرض، أم أنه شكل من أشكال التقلب بين الخوف والرجاء...

لعلنا نرشو القدر موهمين إياه بأن لدينا ما يكفي من أعباء فلا داعي ليدلي بدلوه.

قلقي مراحل وأقسام فإذا انتهت أولوياته تفرعت جزئياته! يزيد من حدته عندي أنسنتي للأشياء وولائي لها كالأشخاص، أحب قميصاً معيناً، فنجاناً، فرشاة، مقعداً، مقهى، وسادة... أغنية حتى أحب أشيائي البسيطة تلك التي تعني الكثير مع أنها لا تساوي شيئاً، كسبحتي الخشبية المقطوع آخرها أرتاح للإمساك بها حتى ولو لم أكن أسبح، وجودها في المتناول يمنحني شعوراً الأمان.

كتاب الأذكار يشعرني بالطمأنينة، يحدث أن أغلقه لأقولها من الذاكرة، فأذكر جزءاً لأنسى الآخر.. يبدو أن الخوف من النسيان يسبب النسيان والتركيز على التذكر يعمل بشكل عكسي أشعر بالضياع لو لم يكن معي كتاب أذكاري الصغير الذي يوزع مجاناً ولا يباع.

قلمي الأزرق الجاف ماركة ستدتلير الخط العريض، يزعجني سن القلم الحاد الرفيع أشعر بأن حديته لا تناسب طبيعتي سيملي علي أفكاراً حادة ربما يعيق سلاسة أفكاري، أما الحبر السائل فيشعرني بالميوعة، وأنه سيتقيأ في أي وقت على الورق دون استئذان فيشغلني بتنظيف مخلفاته، أفضل الحبر الجاف مشدود منضبط مطيع يكتب بدقة ما أمليه عليه، لا يسبقني لمعاني وحروف لم أعنيها موظف محترف يحترم موقعه في الهيكل التنظيمي، إلا أني وبالرغم من اكتمال مواصفات الأقلام وتواجدها أصمم وأكتب بالقلم الرصاص، أصطحب الأزرق في سفري تحسبا لتغير مزاجي في الكتابة تبعاً لتغير الأجواء لكنه لم يتغير مذ كنت في الثالثة عشر، عل لونه الرصاصي الباهت هو الأنسب لحالة الشك والتفقد الملازمة تجاه أفكاري واعتقاداتي، فلا شيء يخيفني مثل تجمد الفكر عند تصور قاطع!!

عله تخوف من كتابة قرارات لا أقوى على محوها.

تخيفني الحدية في كل أمر... بل لعل شعور اللاعودة هو ما يخيفني حقيقة.

عطري والذي غالباً ما أختاره حسب طبيعة الرحلة وتوقيتها، وبما أن هذه الرحلة فريدة من نوعها! طال انتظارها، أخطط لها وأتمناها منذ فترة، فقد ابتعت لها عطراً فريداً وقعت في غرامه من أول قطرة، حين رآني البائع أبحث بتوتر من فقد القدرة على إيصال مبتغاه اقترب مني وسألني عن مطلبي وجدت نفسي أشرح له بتلقائية - حاسبت نفسي عليها في ما بعد كالعادة - حاجتي إلى عطر مختلف يعطيني مشاعراً مختلفة، لا أدري ما هي لكني أريده عطراً غير متداول، لا يرتطم به أنفي في كل مكان، أريده لطيفاً خفيفاً ثابتاً في آن، ليكن نادر الطلب، تأملني البائع وقال: اعذرني فضولي هل تعملين في مجال الكتابة؟

لا أنا مصممة مجوهرات.

يبدو أن مدير المعرض كان يتابعنا منذ فترة فتقدم أنيقاً، واثقاً، ما جعلني أتوقع اقتراحاً مبشراً فقدم لي عبوة بثقة لا يخالطها شك، وبفخر من يقدم جوهرة أنيقة:

هذا ما تبحثين عنه

الكاميرا محاولة تجميد اللحظة بالصورة، توثيق الذاكرة التي ربطتها بالرائحة لاستعادتها متى أردت، استعادة مسحوبة الدسم بالطبع من كل نكهة، لكنها تظل ملامح لحظة ودافعاً لإعادتها بأخطاء جديدة.

حذاء مريح لرحلات الاستكشاف، والتسكع فور وصولي بلا هدف وبنية الضياع مع سبق الإصرار والترقب، أسير على غير هدى أحرر يداي من أي أحمال، أمرجحهما في الهواء، أملأ جيوبي بالضرورات وأصحب تأملاتي، حماسي المستنفر بمتعة المغامرة والاكتشاف، ممزوجاً بنكهة الخوف اللذيذ من الضياع مضافاً إليه شجاعة التحدي.

في كل مرة أقف فيها أمام باب الفندق أتلفت يميناً ويساراً لاتخاذ قرار الانطلاق وتحديد وجهة السير تنتابني تلك المشاعر مع اختلاف البلدان، الفصول، تزداد حدة في الشتاء فتزداد جرعة الترقب! يتبعها زيادة في إفراز جرعة التحدي لأسير بشغف.

من أشيائي الهامة أيضاً وليست ثمينة: كتبي، قصصي عادة ما أصحب معي عدد لا بأس به من الكتب حسب طبيعة الرحلة.

لعطلاتي أصحب معي بعض الروايات التي لم يتسنى لي قراءتها خلال العام أرصها في حقيبة السفر، أنظر إليها باستمتاع مستحضرة مشاعري وأنا أقرأها، ثم لا ألبث أن أعود إلى مكتبتي أنظر إليها من بعيد لعلي أجد ضالة أخرى أضيفها إلى المجموعة، علني لم أمشط الرفوف جيداً، ينتابني شعور بالبرد من أن تنتهي قصصي أثناء سفري ولا أجد شيئاً أقرؤه فأقوم بإضافة المزيد، أنظر إلى الحقيبة مرة أخرى فأشك في قدرة بعض القصص على إمتاعي أشتم رائحة مأساوية في بعض العناوين - خاصة الروائيين اليابانيين - فأسحبها من الحقيبة وأستبدلها بأخرى ثم لا ألبث أن أقلق من تناقص العدد فأقرر الذهاب إلى المكتبة لشراء المزيد أو الاستعانة بالمكتبة الرسمية: مكتبة مدى! يكفي أن أتصل لأحدد نوع المذاق الذي أشتهيه أو أتخيله لتشير علي باسم الروائي والقصة.

اتصال واحد مني بمدى كفيل بأن يقض مضجعها ثم لا ألبث أن أجدها في اليوم التالي في بيتي ظهرا بعد أن تكون قد استيقظت مبكرا كعادتها تؤمن ما كنت قد طلبته ليلاً، أجمل ما فيها أنها دافئة حنونة وصاخبة... ذكية وعفوية... طيبة وقوية، أجمل ما فيها أنها أمي بعد أمي منذ كنت طفلة وأنا أشعر بأنها أمي وأختي وصديقتي... ضميري الذي لا يهدأ ولا ينام تنتقد برودة أعصابي وأنني أترك نفسي دوما للوقت الأخير، وتتهمني بأن لا أحد يستطيع أن يشتري لي شيئاً لصعوبة خياراتي!! ورغم حقيقة ما تقول، ورغم معرفتها الوثيقة بي نتيجة التصاقنا الشديد إلا أنها لم تدرك مشاعر اللاعودة الملازمة لي، وكيف تدركها وأنا التي أدركتها عني مؤخراً، أعيده لأتأكد أنه غير مفروض علي وأن بإمكاني التحرر منه متى شئت، كما أني أظن أن لي نفساً زاهدة وتواقة في آن تزهد بأشياء، وتتوق بشدة لأشياء وفق معايير لم أحددها بدقة لكن توقها أقل من زهدها بكثير، منذ كنت في السابعة لم أتق إلا إلى ثلاثة أشياء لم أكن حينها قادرة على امتلاك ثمنها، وحين بت قادرة على شرائها جميعاً أجلت شراءها لسنوات طويلة كي لا أفقد متعة التوق والترقب بحصولي عليهم لكن طارق ابتاعها كلها لي اعتقاداً منه بأني أحرم نفسي من متع بسيطة يمكن تحقيقها وهكذا لم يتبق لي توق مادي سوى كوخ منعزل على الشاطئ الآزوري.

ورغم أن مدى أعادت هذه التصنيفات على مسامعي مئات المرات مذ كنا طفلتين إلا أنني لا أطمئن إن كنت مقبلة على سفر إلا حينما أتصل بها لتشير علي، وتنظم شعثي.

أقض مضجعها ليلاً قبل السفر بيومين، تأتي ظهرا في اليوم التالي محملة بالأكياس تطلب قهوتها في الطريق إلى غرفتي، تنظر إلى الحقيبة نظرة متفحصة خبيرة في التسوق تزن بعينيها حجم الملابس ونوعياتها تقلب باستخفاف ما لا يعجبها وتوجه لي نظرة مفادها:

لماذا تسأليني ما دمت مقررة ؟

أحاول تجنب نظراتها فتبدأ بالإلحاح بأني قد أحتاج هذا!

وماذا لو احتجت لذاك! وعندما تمل من معاندتي من زيادة عدد الحقائب.

تقول جملتها المعهودة والتي لا بد أن تنهيها بجرعة قلق تفلح في إيصاله لي: أنت حرة!! تصمت قليلاً لتعطي جملتها القادمة وقعاً مخيفاً ومؤثراً يفت في عضد عنادي.

على الأقل خذي الأشياء الهامة والثمينة في حقيبة صغيرة معك بيدك في حال ضاعت الحقيبة لا تكون خسائرك فادحة.

تقصد بالأشياء الثمينة الجلديات الغالية الثمن من حقائب وأحذية، وأوشحة.

لطالما أزعجت مدى بطفولتي التي لا تنضج أبدا حتى بمرور العمر، لطالما تماسكت أمام العالم أجمع وبكيت أمامها، لطالما اتصلت بها ليلا لأعرض عليها فكرة أو تساؤل قض مضجعي.

back to top