عنكبوت التمويل

نشر في 24-10-2014
آخر تحديث 24-10-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن النظام العالمي الذي يحكم التنظيم المالي معقد بدرجة مذهلة، وهو لهذا السبب، بين أسباب أخرى، متعذر على الفهم، ولكي أشرحه لتلامذتي في معهد العلوم السياسية في باريس، ابتكرت مخططاً للتوصيلات الكهربائية يبين علاقات الارتباط بين الهيئات المختلفة المسؤولة عن مختلف مكونات المراقبة والإشراف، وهو يجعل لوحة الدوائر الإلكترونية تبدو إلى جانبه واضحة ومباشرة.

إن كثيرين قد تبدو عليهم علامات التعرف عندما تُذكَر لجنة بازل للإشراف المصرفي، والتي تحدد معايير رأس المال للبنوك، وربما سمعوا أيضاً عن بنك التسويات الدولية، وهو البنك المركزي للبنوك المركزية، والذي يضم لجنة بازل بين جدرانه، وربما تكون المنظمة الدولية لهيئات الرقابة على الأسواق المالية (الإيسكو)، التي تضع معايير الهيئات التنظيمية لأسواق البورصة والأوراق المالية، معروفة في بعض الدوائر، ولكن عندما نتحدث عن الرابطة الدولية لمراقبي التأمين، ترتفع الحواجب تعبيراً عن الاستغراب وعدم التعرف عليها.

وهناك العديد من التجمعات الأخرى، فيقوم مجلس معايير المحاسبة الدولية تقريباً بما قد تتوقع منه، وإن كان الأميركيون رغم أنهم من بين أعضائه لا يطبقون في واقع الأمر معاييره التي يطلق عليها الآن على نحو لا يخلو من الإرباك معاير التقارير المالية الدولية، ولكن مجلس معايير المحاسبة الدولية انبثقت عنه لجان أخرى للإشراف على المراجعة، بل هناك حتى هيئة دولية تراجع عمل الهيئات التي تراجع عمل مراجعي أو مدققي الحسابات، وهو ما يذكرني بأحدث روايات هيرمان هيس "لعبة الخرزة الزجاجية".

ويوحي مسمى "فريق العمل المعني بالإجراءات المالية" بأنه هيئة ديناميكية نشطة أشبه بفرق الانتشار السريع التي قد يرسلها المرء إلى بلد تعمه الاضطرابات، وهو في واقع الأمر جزء من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ويعنى بمراقبة تنفيذ معايير مكافحة غسل الأموال، ولا أحد يستطيع أن يفسر الغموض وراء كونه جزءاً من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية برغم اختصاصه العالمي.

بدأ تجميع هذه البنية المتطاولة (وهناك المزيد منها) تدريجياً في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وقبل اندلاع الأزمة المالية الآسيوية، كانت أشبه بشبكة بلا عنكبوت في مركزها، وعندما طلب وزراء مالية مجموعة الدول السبع من هانز تايتماير، رئيس البنك المركزي الألماني الأسبق، مراجعة مدى فعالية هذه الشبكة، أوصى بعنكبوت جديد، يعرف باسم منتدى الاستقرار المالي، لكي يتولى دراسة النظام المالي ككل ومحاولة تحديد نقاط الضعف التي قد تتسبب في إحداث مشاكل في المستقبل.

كنت عضواً في منتدى الاستقرار المالي لمدة خمس سنوات، وأعترف بأنني أخاف من العناكب، ولكن حتى المصابون برهاب العناكب من أمثالي لم يجدوا سبباً وجيهاً للقلق، ذلك أن منتدى الاستقرار المالي لم يكن مخلوقاً مخيفا، وكانت الهيئات التنظيمية الفردية، الوطنية والدولية، متروكة لتقديرها إلى حد كبير، وبطبيعة الحال كانت العواقب التي بتنا نعرفها جميعاً بائسة.

قبل عام 2007، لم تكن هناك مصلحة سياسية كبيرة في الاستعانة بمعايير عالمية أكثر صرامة، وكانت البلدان تقاوم بشكل فردي فكرة تدخل هيئة دولية في حقها السيادي في الإشراف على نظام مصرفي غير سليم؛ لذا، فعندما اندلعت الأزمة التالية، تبين أن منتدى الاستقرار المالي ضعيف ويفتقر إلى الكفاءة، وفي عام 2009 قررت حكومات مجموعة العشرين أن الحاجة ملحة إلى نموذج أكثر صرامة، أو مجلس الاستقرار المالي. والآن يعمل مجلس الاستقرار المالي منذ خمس سنوات، وهو يعكف حالياً على درس بعض الاقتراحات الجديدة للتعامل مع البنوك الأكبر من أن يُسمَح لها بالفشل، والذي من المقرر أن يكون على قائمة اجتماع مجموعة العشرين المرتقب في بريزبين (حيث طعام البحر والبر، وحلوى البافلوفا، وغير ذلك من الأطعمة الأسترالية الشهية).

لا توجد (حتى الآن) مجموعة دولية تراجع فعالية مجلس الاستقرار المالي، ولكن إذا كانت هناك هيئة من هذا القبيل فماذا كانت ستقول عن أداء مجلس الاستقرار المالي حتى الآن، تحت قيادة ماريو دراجي ثم مارك كارني، والذي كان كل منهما يقوم بهذه الوظيفة في وقت فراغه في حين يدير بنكاً مركزياً مهما؟

على جانب الأصول من الميزانية العمومية، سوف يكون لزاماً على المراجعين والمدققين أن يلاحظوا أن المجلس قام بالكثير من العمل المفيد، ذلك أن التقارير الدورية التي يقدمها إلى مجموعة العشرين تجمع بين كل الفروع المتنوعة من التنظيم بطريقة واضحة وشاملة. وليس هناك مصدر أفضل للمعلومات.

وسوف يسجلون أيضاً أن الضغوط التي يمارسها مجلس الاستقرار المالي كانت سبباً في تسريع وتيرة عمل الهيئات التنظيمية القطاعية، فقد استغرق إبرام اتفاق بازل الثاني أكثر من عشر سنوات؛ في حين صيغ اتفاق بازل الثالث في مدة لا تتجاوز العامين إلا قليلا (ولو أن التنفيذ يستغرق وقتاً طويلاً للغاية)، كما تم شحذ أداء المنظمة الدولية لهيئات الرقابة على الأسواق المالية والرابطة الدولية لمراقبي التأمين بسبب اضطرارهما إلى رفع التقارير حول تقدم عملهما من خلال مجلس الاستقرار المالي.

كما أصدر المجلس بعض التحذيرات القيمة في تقريره المسمى تقييمات "نقاط الضعف"، فقد أشار إلى توترات ناشئة في النظام، من دون الوقوع في فخ التنبؤ بعشر من الأزمات الثلاث المقبلة، وتعمل آلية مراجعة الأقران التي يتبناها على حث البلدان على تعزيز مؤسساتها التنظيمية بشكل فردي.

ورغم هذا فإن التقييم الصريح لابد أن يقر بأن هذا العنكبوت لم يوقع في شبكته سوى قِلة من الذباب حتى الآن، أو هو أشبه بكلب حراسة بلا أسنان، فهو لا يستطيع أن يصدر تعليماته إلى الهيئات التنظيمية الأخرى بما يتعين عليها أن تفعل (أو لا تفعل) ولا يستطيع إرغام البلدان الأعضاء على الالتزام بالقيود التنظيمية الجديدة.

الواقع أن صرح التنظيم المالي العالمي بالكامل مبني على أساس "أفضل المساعي"، وينص ميثاق مجلس الاستقرار المالي الذي تم تنقيحه في عام 2012 على أن الموقعين لا يخضعون لأي التزامات قانونية على الإطلاق. وعلى النقيض من منظمة التجارة العالمية على سبيل المثال، لم تبرم معاهدة دولية تؤسس لمجلس الاستقرار المالي، وهذا يعني أنه لا يستطيع فرض عقوبات على البلدان التي تتقاعس عن تنفيذ المعايير التي تلتزم بها ظاهريا.

من العدل إذاً أن نقول إن مجلس الاستقرار المالي لم يفعل ما يقل أو يزيد على المهام التي كان سادته من الساسة على استعداد للسماح له بالقيام بها. ولا تتوافر الإرادة السياسية اللازمة لإنشاء هيئة قادرة حقاً على مراقبة المعايير الدولية ومنع البلدان من الانخراط في التحرر من القيود التنظيمية بشكل تنافسي، ومنع البنوك من الانخراط في المراجحة التنظيمية. ويبدو أننا لابد أن ننتظر الأزمة التالية قبل أن ينشأ القدر اللازم من العزيمة، وحتى يحين ذلك الوقت، فإن مجلس الاستقرار المالي، رغم كل نقاط الضعف التي تعيبه، هو أفضل ما لدينا.

* هاورد ديفيز رئيس هيئة الخدمات المالية البريطانية ونائب محافظ بنك إنكلترا ومدير كلية لندن للاقتصاد سابقا، وأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس حاليا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top