باتريك موديانو... «نوبل» ومعناها

نشر في 23-10-2014 | 00:02
آخر تحديث 23-10-2014 | 00:02
قبل ست سنوات فاز جان-ماري غوستاف لو كليزيو بنوبل في الآداب، وهو كاتب أوروبي غير معروف عموماً في الولايات المتحدة، متخصص في أعمال صغيرة، داخلية، وغامضة.
وأخيراً جاء دور باتريك موديانو، مؤلف نحو 30 كتاباً، ثلثها فقط تُرجم إلى الإنكليزية. لماذا؟ ديفيد يولن تطرق إلى هذه القضية في {لوس أنجليس تايمز}.
ناقشت إيما بروكس هذه النقطة بطريقة غير منطقية إلى حد ما. فقد ذكرت في صحيفة The Guardian أن حكام جائزة نوبل يميلون إلى التعامل بتعالٍ مع فيليب روث بالطريق الأكثر علانية التي قد تتخيلها، كما لو أن الجائزة بحد ذاتها ما هي إلا خدعة متقنة.

كتبت بروكس: {تتكرر القصة ذاتها منذ سنوات. يسافر روث إلى نيويورك وينتظر في مكتب عملائه الاتصال، فيما يكون برنامج إعلاني واسع معداً للطباعة والإطلاق. يجلس هناك في صالة اجتماعات جُهزت، حسبما يُفترض، ببعض المرطبات. ولكن في نهاية النهار، يقوم برحلة العودة الطويلة والحزينة إلى كونيكتيكت. يستطيع تشارلي كوفمان إعداد فيلم مميز من هذه القصة}.

لا شك في أن روث يتوق إلى الفوز بجائزة نوبل، علماً أنها الجائزة الأدبية الكبيرة الوحيدة التي لم ينلها. لكن هذه القصة تبدو مختلقة.

ولا داعي لأن أذكر أنها غير ملائمة، وأنها تعبير عن خطاب سَئِمَ. لماذا؟ يعود السبب الأكثر وضوحاً إلى إصرار على الهيمنة الأميركية أو هيمنة اللغة الإنكليزية. لنقل إنه نوع من الاستعمار الأدبي.

علاوة على ذلك، تتجاهل هذه القصة احتمال أن يكون موديانو كاتباً يستحق فعلاً الجائزة. وأقول {احتمالا} لأنني، على غرار قراء كثر خارج فرنسا، لم أتعمق في كتاباته، مع أن ما طالعته بدا عميقاً ومؤثراً.

إليكم العبارات الأولى في روايته Missing Person عام 1978: {أنا نكرة. لست سوى شكل باهت أو طيف على رصيف المقهى في تلك الأمسية أنتظر أن يتوقف المطر. كان العرض قد بدأ عندما تركتني هوت}.

تشكل Missing Person نوعاً من قصة عن تحقيق يسير في الاتجاه المعاكس: رواية عن محقق يبحث عن هويته الخاصة. ويبدو أن محاور مماثلة تسكن روح كتابات موديانو. فقد كتب مايكل وود عام 2000 في مجلة London Review of Books: {لا يقوم موضوعه الرئيس على الوقت العابر بل الأشخاص المفقودين}.

ويبدو هذا منطقياً، نظراً إلى تاريخه. فقد وُلد عام 1945 وترعرع منفصلاً عن والده، الذي جنى المال، حسبما يُقال، في السوق السوداء خلال سنوات فيشي. وكانت علاقتهما مضطربة جداً. على سبيل المثال، عندما نُشرت رواية موديانو الأولى La Place de L’Etoile عام 1968، حاول والده شراء كل النسخ لأنه كره هذا الكتاب كرهاً شديداً.

نتاج احتلال

في مقابلة عام 2010، أشار موديانو إلى نفسه بأنه {نتاج معمعة الاحتلال، ذلك الوقت الغريب الذي يلتقي فيه شخصان ما كان يجب أن يلتقيا ويُنتجان بالصدفة ولداً}. لا يشمل ما يشير إليه هذا الكاتب الخسارة فحسب، بل انفصالاً مباشراً أيضاً عن التاريخ، الشخصي وغيره. ذكر موديانو: {على غرار كل ما ليس له أسس أو جذور، أنا مهوس بما يسبق تاريخي}.

تشكل Missing Person خير مثال على ذلك، شأنها في ذلك شأن روايته Dora Bruder، التي تخلط بين عناصر من سيرته الذاتية وإعادة ابتكار خيالية لحياة شابة يهودية تختفي عام 1941. يسأل: كيف يمكننا أن نبني علاقة مع الوقت ومع الهوية، في حين أن الوقت والهوية كليهما يتألفان من أجزاء ولا نملك أي سبيل إلى جعل هذه الأجزاء تتحد؟

لا يعني ذلك كله أن علينا التغاضي عن ميل الأكاديمية السويدية الأوروبي المتواصل، الذي يتجلى (في رأيي) من خلال تجاهلها غير المبرر للكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو. فقد كتب رون تشارلز في صحيفةWashington Post عما يُعتبر إحصاء مريعاً وفق المقاييس كافة: {يولد نحو 70% من الحائزين جوائز` نوبل في الآداب في أوروبا}.

منذ عام 2004، كان ثمانية من 11 كاتباً حازوا هذه الجائزة أوروبيين، في حين أن الآخرين (ماريو فارغاس ليوسا من بيرو وأليس مونرو من كندا وحتى مو يان، فنان يعاني نوعاً من الحظر الرسمي في بلده الأم الصين) لا يشكلون ممثلين فعليين عن العالم النامي.

إذاً، يكشف لنا كل هذا الأمر أن الأكاديمية السويدية، بالتالي جائزة نوبل، تبدو محدودة التفكير بقدر كل ما تحاول التصدي له.

ولكن ماذا نتوقع؟ لا شك في أن حكام هذه الجائزة ناقصون بطبيعتهم. فهم أفراد لهم ميولهم وتفضيلاتهم، سواء أقروا بها أو لا. فضلاً عن ذلك، تُعتبر فكرة منح الجوائز للأعمال الفنية أو الأدبية متناقضة لأنها تحول هذه الأعمال إلى مباراة، مع أنها في الواقع تمرين جماعي. أوضح الناقد مالكوم كولي ذات مرة: {تمجد الكتابة المميزة كل الكتّاب. لا نخوض منافسة}. طالعنا الكثير من الكتب لأسباب شتى، وما من مقياس واحد يلائمها جميعها.

من هذا المنطلق، يُعتبر اختيار موديانو جيداً، إذا تأملنا فيه بمعزل عن الاعتبارات الأخرى. فلا شك في أن الهوية والتاريخ يشكلان موضعاً مهماً للعالم العصري، فهما يعكسان غياب الجذور الذي يشعر به كثيرون منا. صحيح أن الانفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة ليسا خطوة أكيدة، إلا أننا لا نملك أي خيار آخر أمام تلاشينا، هذا الشعور الطاغي بأننا لا نملك أي شيء، وأننا لا نستطيع بكل معنى الكلمة أن نحدد مَن نكون.

أعتقد أن هذا ينطبق على كل إنسان، بغض النظر عن بلده. تشكل هذه تجربة نقر بها جميعنا. كتب موديانو: {يحتاج ما محي إلى الوقت ليُعاود الظهور على السطح. لكنني رجل صبور. أستطيع أن أنتظر ساعات تحت المطر}.

back to top