تحليل الحمض النووي... إعادة كتابة الماضي

نشر في 22-10-2014 | 00:02
آخر تحديث 22-10-2014 | 00:02
No Image Caption
يتفكك كل يوم حمضك النووي قليلاً. إلا أن إنزيمات محددة تبقي جينومنا سليماً خلال حياتنا. ولكن بعد الموت، عندما ينفد الأوكسيجين، تتوقف عملية التصليح. فيتراكم الضرر الكيماوي وتبدأ عمليةُ التفكك انهياراً خاصاً بها: تتحلل الأغشية، تتسرب الإنزيمات، وتتكاثر البكتيريا. ولكن كم يمر من الوقت قبل أن يختفي الحمض النووي بالكامل؟ منذ اكتشاف هذا الجزيء الحساس، افترض العلماء أن حمض الميت النووي يزول بسرعة بطريقة لا يمكن عكسها. وعندما فكر سفانتي بابو، المدير الحالي لمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانية، للمرة الأولى في هذا السؤال قبل أكثر من ثلاثة عقود، تجرأ على الافتراض أنه ربما يدوم أكثر من الأيام أو الأسابيع القليلة الأولى. ولكن برهن بابو وعلماء آخرون اليوم أن الجينوم قد ينجو طوال عشرات آلاف السنين، إن نجحت تريليونات قليلة من خلايا الجسم في تفادي التلف.
في كتابه الأول، Neanderthal Man: In Search of Lost Genomes (إنسان نياندرتال: البحث عن الجينومات المفقودة)، يؤدي سفانتي بابو إلى ولادة أحد أهم المشاريع العلمية في تاريخ الجنس البشري: تحديد تسلسل جينوم إنسان النياندرتال، كائن شبيه بالإنسان عاش قبل نحو 40 ألف سنة. تشكل رواية بابو في جزء منها رحلة بطولية، وفي الجزء الآخر كتاب توجيهات لتحطيم المسلمات العلمية. بدأ بابو يحلم بالقدماء خلال رحلة إلى مصر من موطنه الأم السويد حين كان صغيراً. وعندما كبر، ذهب إلى كلية الطب ودرس علم الأحياء الجزيئي، إلا أن حبه للماضي لم يخبُ أبداً. فحاول حين كان باحثاً شاباً تحنيط كبد عجل في فرن المختبر ومن ثم استخلص منه الحمض النووي. اعتبر معظم مستشارو بابو الحمض النووي القديم {هواية قديمة الطراز}. إلا أنه لم يستسلم طوال سنوات من النتائج المخيبة للآمال، منتظراً بصبر تحسن التكنولوجيا، ما قد يجعل عمله مثمراً. في هذه الأثناء، اعتاد بابو اختيار الباحثين، الفوز بالتمويل، نشر الدعاية، والعثور على العظام القديمة.

أثمر إصراره في النهاية: في عام 1996، قاد العمل على تحديد تسلسل جزء من جينوم متقدرة إنسان النياندرتال (تبدو المتقدرة أو الميتوكوندريوم، التي تشكل مركز الطاقة في الخلايا، بقايا كائن قديم أحادي الخلية، ولها حمضها النووي الخاص الذي يرثه الأولاد من أمهاتهم. وتُعتبر قراءة هذا الحمض النووي أسهل مقارنة بجينوم الإنسان الكامل). وأخيراً نشر بابو وزملاؤه عام 2010 جينوم النياندرتال الكامل.

قد يُعتبر هذا الإنجاز الأكبر في علم الأحياء العصري. إلا أنه يبقى جزءاً من قصة أشمل عن فائدة الحمض النووي الكبيرة. نعتقد منذ زمن أن الجينوم أداة لتوقّع المستقبل. فهل نحمل مثلاً طفرة هانتينغتون؟ وهل نحن أكثر عرضة لمرض السكري؟ لكنه قد يتمكن على ما يبدو من إخبارنا المزيد عن الماضي: عن الحوادث القديمة وشبكات الحياة والحب والقرارات التي ترتبط بها.

إمبراطوريات

قبل وقت طويل من بدء أبحاث الحمض النووي القديم، قام لويجي كافالي-سفورزا بمحاولة أولى لإعادة بناء تاريخ العالم بمقارنته توزيع الخصال في المجموعات السكانية المختلفة الحية اليوم. فبدأ بفئة الدم. وفي وقت لاحق، تناول كتابه الشهير عام 2001 Genes, Peoples, and Languages (الجينات، الشعوب، واللغات) التاريخ السكاني من خلال اللغات والجينات. ولكن من الممكن أيضاً رسم المخططات التاريخية الكبيرة بالرجوع إلى حمض الأحياء النووي. على سبيل المثال، يتحدر كل الأشخاص غير الأفارقة من مجموعة صغيرة من البشر تركت أفريقيا قبل 60 ألف سنة. ويحدد التوزيع الحالي في أوراسيا لصبغي Y معين (ينقله الأباء إلى أبنائهم) بدقة نسبية أطر الإمبراطورية المغولية، ما يدفع الباحثين إلى الاقتراح أنه يأتي من جنكيز خان الذي راح ينهب ويغتصب النساء خلال فتوحاته في القارة في القرن الثالث عشر.

ولكن خلال السنوات القليلة الماضية، توصل علماء الوراثة إلى طرق لا تقتصر على البحث عن حوادث كبيرة، بل أيضاً عن التفاعلات بين البشر على مر العصور. استخدمت دراسة عام 2014 الحمض النووي لمزارعين قدماء وآخرين من الشعوب التي اعتمدت على الصيد والجمع في أوروبا بهدف الإجابة عن السؤال القديم: هل اجتاحت الزراعة القارة وتبنتها الشعوب التي تعتمد على الصيد والجمع، أم أنها اجتاحت القارة وحلت محلهم؟ أخذ الباحثون عينات من أشخاص قدماء حددوا ما إذا كانوا مزارعين أو صيادين انطلاقاً من الطريقة التي دُفنوا بها والأغراض التي دُفنت معهم. فلاحظوا اختلافاً كبيراً في الحمض النووي بين المجموعتين، ما يشير إلى أن المزارعين حلوا محل الصيادين في الغالب، رغم أن العلماء شهدوا تدفقاً محدوداً لحمض الصيادين النووي إلى مجموعة المزارعين الجينية.

تناول بيتر رالف وغراهام كوب التاريخ الأحدث، فقارنا أجزاء صغيرة من الجينوم في مختلف مناطق أوروبا ووجدا أن أي أوروبيَّين عصريَّين يعيشان في مجموعات سكانية مجاورة، مثل بلجيكا وألمانيا، تشاركا في سلفين إلى 12 سلفاً خلال السنوات الألف والخمسمئة الماضية. بالإضافة إلى ذلك، حددا اختلافات مذهلة أيضاً. على سبيل المثال، يبدو أن معظم أسلاف الإيطاليين المشتركين الذين عاشوا قبل نحو 2500 سنة يعودون إلى زمن الجمهورية الرومانية التي سبقت الإمبراطورية الرومانية. ومع أن الإيطاليين العصريين تشاطروا الأسلاف خلال السنوات الألفين والخمسمئة الماضية، يبدو أنهم تشاركوا في عدد أقل منهم، مقارنة مع ما يتشاطره الأوروبيون الآخرون مع مواطني بلدهم. والمثير حقاً للاهتمام أن الإيطاليين من مناطق مختلفة داخل إيطاليا يملكون العدد ذاته تقريباً من الأسلاف المشتركين تماماً بقدر ما يتشاطرونه مع شعوب من بلدان أخرى. ويعكس هذا الجينوم واقع أن إيطاليا، حتى القرن التاسع عشر، كانت مجموعة من الدول الصغيرة لا البلد الكبير الذي نعرفه اليوم.

تشير الحوادث المهمة في التاريخ البريطاني إلى أن جينات ويلز وبعض أجزاء اسكتلندا البعيدة يجب أن تكون مختلفة عن جينات سائر بريطانيا. وقد أدى تحليل عادي للشعب البريطاني إلى فصل هاتين المجموعتين. لكن فريقاً من العلماء يرأسه بيتر دونيلي في أكسفورد اكتشف هذه السنة علاقة أكثر دقة بين الجينات والتاريخ. فمن خلال تتبع أنماط خفية في جينومات بريطانيين عصريين عاش أسلافهم في مناطق ريفية معينة، توصلوا إلى ما لا يقل عن 17 تكتلاً مختلفاً تعكس على الأرجح مجموعات مختلفة في تاريخ الشعب البريطاني. ويمكن لهذا العمل أن يوضح ما حدث خلال العصور المظلمة حين لم توضع أي سجلات مكتوبة. فيحدد مثلاً كم تبدل الحمض النووي البريطاني القديم بسبب غزو الساكسون في القرن الخامس.

يخبرنا الاختلاف في بعض الجينات في الشعوب العصرية عن الحوادث والخيارات الثقافية أيضاً: بعدما قرر بعض المجموعات شرب حليب ثدييات أخرى، طوَّر القدرة على تحمّل اللاكتوز. لكن المتحدرين من هذه المجموعات الذين لم يتخذوا هذا الخيار لا يتمتعون بقدرة عالية على تحمل اللاكتوز حتى اليوم.

ألغاز

لا شك في أن تحليل حمض الأحياء النووي أكثر سهولة من تحليل الحمض النووي القديم، الذي يكون عرضة دوماً للتلوث. أُجريت التحاليل الأولى لحمض المتقدرة النووي لإنسان النياندرتال في مختبر معزول عُرّض للأشعة ما فوق البنفسجية كل ليلة لتدمير الغبار الذي يحمله الحمض النووي. كذلك كان الباحثون يضعون أغطية على وجوههم، يرتدون قفازات معقمة، وغيرها من عدة ضرورية. وإذا دخلوا مختبراً آخر، ما كان بابو يسمح لهم بالعودة إلى مختبره في ذلك اليوم. رغم ذلك، شكّل التحكم في التلوث مجرد خطوة أولى أمام فريق بابو. حلت الثورة الحقيقية في مجال تحليل الحمض النووي القديم في أواخر تسعينيات القرن الماضي مع الجيل الثاني من تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي. فاستبدل بابو تسلسل سانجر، الذي ابتكر في السبعينيات، بتقنية تُدعى سلسلة البايرو، ما يعني أنه بدل أن يحدد تسلسل 96 جزءاً من الحمض النووي القديم، صار بإمكانه التوصل إلى تسلسل مئات الآلاف.

فتح هذا التقدم كله الباب أمام الإجابة عن أحد أقدم الأسئلة عن إنسان النياندرتال: هل تزاوج مع الإنسان؟ لم تتوافر أدلة كثيرة تؤكد ذلك. واعتقد بابو نفسه أن هذا الاتحاد كان مستبعداً لأنه لم يعثر على أي أثر لجينات النياندرتال في حمض متقدرة الإنسان النووي. نتيجة لذلك، ظنَّ أن البشر والنياندرتال لم يكونا متلائمين بيولوجياً. ولكن بعد تحديد تسلسل كامل جينوم النياندرتال اليوم، نلاحظ أن 1% إلى 3% من جينوم غير الأفارقة الأحياء اليوم يحتوي على متغييرات تُدعى الحليلات يعود أصلها على ما يبدو إلى النياندرتال. ويشير هذا الأمر إلى أن البشر والنياندرتال تزاوجوا وأنجبوا الأولاد، وأن أولاد الأولاد هؤلاء أدوا إلى الكثير منا. كذلك يوضح واقع أن الأفارقة في أفريقيا السوداء لا يحملون حمض النياندرتال النووي ذاته إلى أولاد البشر والنياندرتال الهجناء وُلدوا فيما كان البشر يتوسعون خارج أفريقيا قبل نحو 60 ألف سنة وقبل أن يستعمروا ما تبقى من العالم.

لا شك في أن الحمض النووي القديم سيعقد فرضيات أخرى، مثل رواية الأصل الأفريقي مع مجموعة البشر المهاجرة الواحدة. يكشف الحمض النووي القديم ظاهرة ما من سبيل آخر إلى معرفتها. فعندما استخرج بابو وزملاؤه الحمض النووي من عظام صغيرة قليلة وأسنان عُثر عليها في جبال ألتاي في سيبيريا، اكتشفوا مجموعة شقيقة جديدة بالكامل: الدينيسوفان. وقد يحمل الأستراليون الأصليون، الميلانيزيون، وبعض المجموعات في آسيا نحو 5% من الحمض النووي الدينيسوفاني، فضلاً عن حمض النياندرتال.

في وقت قصير جداً، نجحت فرق حول العالم في تحديد تسلسل جينومات عدد من القدماء. فسهلت مكتبة متنامية من الجينومات نشوء نوع جديد من علم الوراثة البشري. ولكن ما التفاصيل التي لا يستطيع الحمض النووي إخبارنا بها عن الماضي؟ ترتبط هذه المسألة برمتها بما حدث خلال اللحظات إلى الأيام الأولى بعد الوفاة. فإذا جفت الخلايا بسرعة لسبب ما، إذا متّ في الصحراء أو في كهف جاف، أو إذا تجمدت أو حُنطت، فمن الممكن وقف التلف الذي يلحق بالحمض النووي بعد الموت. ولكن من المستحيل على الأرجح تحديد تسلسل الحمض النووي في المناخات المدارية الرطبة. رغم ذلك، تقدم لنا البقايا القليلة التي عثرنا عليها حتى اليوم معلومات كثيرة عن التاريخ القديم. ويشير بابو إلى أن أحد الألغاز المتبقية هو: لمَ انتشر البشر العصريون، على غرار أقاربهم القدماء، في كل الكرة الأرضية وعرضوا البيئة لتبدلات جذرية؟ ماذا جعلنا مختلفين؟ يعتقد أن الجواب يكمن في الجينومات القديمة التي حددنا تسلسلها.

back to top