محال

نشر في 21-10-2014
آخر تحديث 21-10-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس وأنا بصدد الكتابة عن رواية "محال" ليوسف زيدان، استذكرت بأنه سبق لي أن كتبت عن "عزازيل" و"ظل الأفعى" و"اللاهوت العربي" لذات المؤلف. واستحضرت أيضاً ما كتبته عن الفيلم الكويتي "تورا بورا"، وتصويره للوضع في أفغانستان من عدة وجهات نظر متعاكسة. وذلك لأن كاتب رواية "محال" خرج –على غير عادته في التأليف– من مُنقّب في التاريخ الغابر إلى شاهد على أحداث العصر الراهن، ومن مشتغل بتفكيك الماضي وإعادة تجميعه إلى راصد لمجريات ما يدور الآن في أفغانستان بأبعاده السياسية والإنسانية والأمنية.

إن القارئ لرواية "محال" قد لا تعنيه الخلفيات الإخبارية حول الأطراف المتصارعة في أفغانستان، أو كيفية إدارة أميركا لقضية "الإرهاب" وإفرازاتها اللاإنسانية المعقدة، فتلك القضايا من الممكن متابعتها في البرامج الإخبارية أو من خلال الأفلام الوثائقية، لا من خلال رواية أدبية تبني حجارة أساسها من الخيال والفن. وعليه فرسالة الرواية ستظل تحفر في مسارها الإنساني المحض، وهو التأمل في معاناة الإنسان وشقائه الدنيوي، وفي مكابداته لأقدار وجوده ومصادفات حياته ومساراتها الحلزونية، بينما يقف هو شاخصاً وفارغاً من الحيلة والإرادة.

ماذا سيفعل "من لا اسم له" في الرواية، حين يجد نفسه نصف سوداني نصف مصري، وحين يجد أبواب الرزق أضيق من ثقب إبرة، وفي حاجة والأمر كذلك إلى مجاهدة وتنقّل وتغرّب، وإلى تصادم دائم مع الخيبات والانتظارات، وإلى قبول لا إرادي بما تأتي به الظروف ويرسمه قدر اللحظة الراهنة. ثم تكرّ المصادفات القدرية تباعاً على رأس من "لا اسم له": من لقائه "بنورا" وارتباطه القلبي بها، مروراً بصعوبات تحقيق حلمه بالزواج منها، وانتهاءً بسفره إلى الخليج للعمل، ثم انخراطه من حيث لا يعلم بتعقيدات "الجهاد" في أفغانستان، وما جره إليه هذا الظرف من نهاية مأساوية تمثلت في أسره، ثم ترحيله إلى معتقل "غوانتانامو".

والقص في مجمله أشبه بالمونولوج الداخلي، فيه شفقة على الذات، وفيه شكوى آملة، وفيه رجاء خافت متبتّل، وفيه تسليم صوفي لمشيئة عليا تتخذ شكلاً من أشكال الإيمان الفطري، الممزوج أحياناً بالتساؤل وأحياناً بمتاهات النفس الأمّارة بالخضوع. فالذي "لا اسم له" يبدو طافياً على بحر الحياة، متنقلاً في "مَحال" وأصقاع كيفما تأخذه ملابسات الظرف، وكأن المبادرة إلى إدارة دفة المصير تغدو من "المُحال"، بعد أن أدرك إيمانياً –أو هكذا خُيّل له- أن ما يحدث له هو تدبير من الله "شديد المِحال"، أي شديد المكايدة أو القوة أو العقوبة.

هكذا يوحي لنا الكاتب بتضعضع بطل روايته من خلال اختياره لعنوان "محال" دون تشكيل أو ضبط، مع نثر شتى المعاني المتعلقة بالكلمة في تضاعيف الفصول. ولكن المتأمل قد يتساءل عن سرّ التمثيل بالتعبير القرآني "شديد المِحال" حين استقراء أحوال وتحولات "من لا اسم له"؟ وهو الكائن المتدين بالفطرة، المستسلم لإرادة خالقه، المستظلّ بالحائط، القانع بحظوظه في متع الحياة في حدودها الدنيا!

رغم ارتكاز الرواية على البُعد الإنساني، وانحيازها لقضايا المعذبين وضحايا الحروب والأزمات السياسية، إلا أنها تُعدّ أيضاً مرجعاً توثيقياً لواحدة من أهم القضايا السياسية والأمنية المعاصرة، وهي قضية أفغانستان، وما يُسمى بالحرب ضد الإرهاب، والتي انطلقت من هناك لتغدو قضية عالمية على جانب من التعقيد والتشابك. وفي الرواية أيضاً شذرات متفرقة عن سيَر شخصيات ذات صلة بالقضية كابن لادن والملا عمر وأحمد شاه مسعود، وسياحة في أمكنة شهدت تلك التقلبات والحروب كقندهار وكابول وطشقند وسمرقند وغيرها.

وعليه فإن رواية "محال" أشبه بنافذة تجعل القارئ يطل على أكثر القضايا السياسية سخونة وتعقيداً، لكن من زاوية تبدو أكثر احتفاءً بالهمّ الإنساني، وبفضح ما تخلفه الحروب والمنازعات من بؤس وكروب.

back to top