روسيا تسلك طريقاً لن يوصلها إلى أي مكان!

نشر في 02-10-2014 | 00:01
آخر تحديث 02-10-2014 | 00:01
بدأ الوضع في روسيا يتغير في عام 2011 حين برز ظرفان مهمان، فمن جهة ساهم نجاح الاقتصاد الروسي نسبياً في الدعوة إلى إحداث تغيير سياسي، وتوقع الكثيرون نشوء «بيرويسترويكا جديدة» في عهد الرئيس ديمتري مدفيديف التقدمي والبارع في التكنولوجيا، ومن جهة أخرى اتضح أن روسيا تفتقر إلى التنظيم والقدرة التكنولوجية على تحقيق عصرنة واسعة النطاق.
 فلاديسلاف لنوزمتسيف منذ أن تولى فلاديمير بوتين قيادة روسيا بدأ هذا البلد يندمج بفاعلية في الاقتصاد العالمي، مما جعل عهده أكثر ليبرالية مما كان عليه في حقبة الرئيس السابق بوريس يلتسين على المستوى الاقتصادي، فحلّت روسيا في المرتبة السابعة عالمياً من حيث رسملة سوق الأسهم خلال أزمة عام 2008، وبلغت الأرصدة الخارجية في نظامها المصرفي نسبة %26 ، وتحسنت التجارة الخارجية بخمسة أضعاف تقريباً بين عامي 2000 و2008.

على صعيد آخر ارتفع عدد الروس الذين يسافرون إلى الخارج من 9.8 ملايين في عام 2000 إلى 32.7 مليونا في عام 2008، وكان معدل التنمية في مجال الاتصالات الحديثة ومختلف قطاعات اقتصاد الإنترنت في روسيا من أسرع المعدلات في العالم.

لكن بدأ الوضع يتغير في عام 2011 حين برز ظرفان مهمان، فمن جهة ساهم نجاح الاقتصاد الروسي نسبياً في الدعوة إلى إحداث تغيير سياسي، وتوقع الكثيرون نشوء "بيرويسترويكا جديدة" في عهد الرئيس ديمتري مدفيديف التقدمي والبارع في التكنولوجيا، ومن جهة أخرى اتضح أن روسيا تفتقر إلى التنظيم والقدرة التكنولوجية على تحقيق عصرنة واسعة النطاق وإنهاء اتكال البلد على تصدير الموارد الطبيعية في المستقبل القريب.

هكذا بدأ "انقلاب عام 2012" في روسيا: إنها المرحلة التي فهمت فيها النخبة السياسية أن اقتصاد الغاز والنفط يعطي أفضل النتائج في ظل "سلطة عمودية" غير ديمقراطية، وأن إعادة هيكلة أسس البلد السياسية على أمل تحقيق نتيجة غير مؤكدة، تزامناً مع اشتداد الاحتجاجات الحاشدة، تحمل مجازفة كبرى.

بدأت روسيا تبتعد عن أوروبا والغرب ككل، لكن لم يحصل ذلك خلال الثورة الأوكرانية في شهر فبراير، بل حين بدأ بوتين ولايته الرئاسية الثالثة في عام 2012، وبما أن عدداً كبيراً من قادة الغرب كانوا يتمسكون في السنوات الأخيرة بما سمّاه الرئيس البولندي برونيسلاف كوموروفسكي "الأمل من أجل العصرنة الديمقراطية في روسيا"، فمن الواضح أنهم أساؤوا فهم طبيعة نخبة روسيا ورؤيتها وشعبها.

بحلول عام 2014 أصبحت روسيا مجدداً بلداً لا تنوي فيه القيادة الالتزام بقواعد السياسة الخارجية أو المحلية، إذ كان هؤلاء القادة يتصرفون على الأرجح بطريقة حاسمة لو لم تردعهم الاعتبارات الاقتصادية، لكنّ روسيا تتكل بشدة على الاقتصاد العالمي حتى لو كانت نخبتها السياسية تفكر بطريقة مغايرة.

لهذا السبب لا يعوّل المراقبون على عودة الاقتصاد الروسي إلى "وضعه الطبيعي"، فقد يؤدي المنحى المضطرب الذي اتخذته روسيا بين شهرَي مارس وأغسطس من عام 2014 إلى خسائر اقتصادية كارثية في المستقبل القريب، ومن المتوقع أن تتراجع الاستثمارات بنسبة 10 إلى 15% في عام 2015، وأن تبدأ المداخيل الشخصية بالتراجع تدريجاً، كما ستتباطأ "مشاريع الحكومة الكبرى" أو تتوقف نهائياً.

كذلك ستواجه شركات روسيا الخاصة تحديداً المصاعب، حتى لو تابعت الحكومة تمويل خطط الإنقاذ للمؤسسات التي تملكها الدولة برئاسة شركاء مقربين من بوتين، ومع ذلك ستواجه الشركات الخاصة في النهاية مشاكل إضافية بسبب التدابير الانتقامية التي ستتخذها الحكومة الروسية وتحركات المؤسسات التي تملكها الدولة كونها ستعمد إلى رفع كلفة خدماتها وتقليص سيولة السوق.

خلال السنوات القليلة المقبلة لن تنجح روسيا بأي شكل في الاستفادة من "التحول نحو الشرق"، وسيترسخ فشل ذلك المشروع بكل وضوح تزامناً مع تراجع المواقف المعادية للغرب في روسيا، مما يفسح المجال أمام تجدد مشاعر الحسد تجاه الازدهار الغربي والرغبة في تجديد الصداقة.

لا تستطيع روسيا الصمود من دون العالم الخارجي، وتتجاوز الديون الخارجية في بنوكها ومؤسساتها حجم احتياطي النقد الأجنبي، إذ تمول روسيا أكثر من نصف ميزانيتها عبر تصدير المواد الخام وهي تستورد جميع حواسيبها وأجهزة الاتصالات المحمولة وتكنولوجيا الاتصالات وأنواعا عدة من المعدات، وفي ظل ظروف مماثلة، سيؤثر الاقتصاد في مسار البلد السياسي.

يعترض الكثيرون لأن العولمة في بداية القرن العشرين لم تمنع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهذا صحيح لكن منذ مئة سنة كانت القوى الأوروبية تتقاتل دوماً أو تحارب في مستعمراتها، وقد فقدت حياة البشر معناها وبدت الحرب أشبه بوسيلة مناسبة لحل مشاكل عدة.

اليوم، لا أحد مستعد للتضحية بحياته من أجل "غازبروم" أو "روزنيفت"، ويفهم معظم المواطنين والسياسيين أنه لم يعد ممكناً حل المشاكل الجدية عبر المواجهة المباشرة، وستفشل مقاربة "مهاجمة الخارج"، ليس بسبب هزيمة على الجبهة، بل بسبب قلة الدعم من الداخل، وكلما عزلت روسيا نفسها عن النظام الدولي حصل التمرد في وقت أقرب.

الانقلاب الروسي الذي حصل بين عامي 2012 و2014 هو مجرد مناورة بلا نهاية وهو يحرم البلد من أي وسيلة للعمل بطريقة منطقية وبناءة، وفي ظل ظروف مماثلة يجب أن يتبنى الغرب مقاربة حذرة جداً للتعامل مع استفزاز روسيا، ولا حاجة إلى عزل روسيا عن نظام "سويفت" لتحويل الأموال: يكفي تهديدها بالقيام بذلك مرات عدة وستسارع موسكو إلى إصلاح شبكتها المغلقة.

ولا حاجة كي يعيق الغرب قطاع الإنترنت في روسيا، بل يجب أن تعمد واشنطن بكل بساطة إلى تذكير موسكو بـ"نقاط ضعفها في قطاع المعلومات" كي تعزل روسيا نفسها عن العالم سريعاً، فالطريقة الوحيدة لوقف "تحول روسيا الجذري" تقضي بإقناع الشعب الروسي بأن قادته يتحملون مسؤولية مشاكل البلد وإخفاقاته أكثر من أي أعداء منظورين في الغرب.

لا داعي لفرض أي عقوبات إضافية، فالعقوبات المفروضة حتى الآن تكفي لحث قادة موسكو على اتخاذ تدابير انتقامية من شأنها أن تغير مسار الاقتصاد الروسي، وحين يحصل ذلك ستتجه روسيا مجدداً نحو الغرب (كما فعلت في مناسبات عدة سابقاً) بحثاً عن الاستثمارات والتكنولوجيا والابتكارات، وفي تلك المرحلة سيحتاج الطرفان إلى بناء روابط اقتصادية وسياسية على أن تكون قوية بما يكفي لمقاومة مكائد ومغامرات حفنة من رجال الأعمال النافذين الذين تربطهم علاقة وثيقة مع الكرملين.

back to top