الدماغ الإلكتروني الذي يحاكي الدماغ البشري... هل يُعتبر واعياً؟

نشر في 30-09-2014 | 00:02
آخر تحديث 30-09-2014 | 00:02
لجواب الدكتور سكوت آرونسون تأثيرات في شخصية C-3PO، الكون، واحتمال أن تكون أحد أدمغة بولتزمان.
تخيل أنك تقف في حقل شاسع وأنت تحمل دلواً من البالونات المائية مع اثنين من أصدقائك. قررتم أن تلعبوا لعبة تُدعى «العقل». لكل منكم مجموعته الخاصة من القواعد. ربما تخطط مولي لرمي بالون مائي على بوب كلما رميت أنت عليها بالوناً. وربما يحاول بوب إصابتكما أنت وهي كلما مرت خمس دقائق ولم يُصب بأي بالون، أو إذا اشتد الحر، أو إذا صارت الساعة السابعة، أو إذا كان مزاجه سيئاً في ذلك اليوم. لا أهمية للتفاصيل.
تشبه هذه اللعبة الطريقة التي تتفاعل بها الخلايا العصبية، التي تكوّن دماغنا وأعصابنا، إحداها مع الأخرى. فتقبع داخل نملة أو عصفور أو ستيفن هوكينغ وتتبع مجموعة بسيطة من القواعد. فترسل أحياناً إشارات كهربائية-كيماوية إلى جاراتها، وأحياناً لا. فما من خلية عصبية واحدة «تفهم» النظام بأكمله.

تخيل الآن أنكم لستم ثلاثة فقط في ذلك الحقل، بل 86 ملياراً، أي ما يعادل تقريباً عدد الخلايا العصبية في الدماغ العادي. وتخيل أنكم لا تلعبون وفق قواعد اختلقتموها، بل يحمل كل منكم كتيب توجيهات وضعه أفضل علماء الأعصاب والكمبيوتر في العالم: نموذج مثالي عن الدماغ البشري. لا يحتاج أي منكم كتاب القواعد بأكمله، بل ما يتعلق بوظيفته فحسب. وإذا وقف عدد كبير منكم وأنتم تضحكون وتلعبون وفق القواعد كلما أمركم كتيب التوجيهات بذلك، تنجحون عند مرور الوقت الكافي في محاكاة ثانية أو ثانيتين من التفكير البشري.

ولكن هنا تنشأ أسئلة كثيرة: عندما تكونون كلكم في الحقل تلعبون، هل يكون ذلك النموذج واعياً؟ هل مشاعره، التي تجسدها المياه المتطايرة، حقيقية؟ وما معنى كلمة «حقيقية» في ما يتعلق بالوعي؟ وما ماهية محاكاة ترتكز على بالونات ماء؟

قد تبدو لك هذه الأسئلة سخيفة في البداية، ولكن تخيل الآن أن لعبة {العقل} تلك صارت أسرع بمليون مرة. وبدل أن يقف أناس في الحقل، تعِدّ نموذجاً عن الخلايا العصبية في أقوى الكمبيوترات الخارقة حول العالم (سبق أن أُجريت تجارب مماثلة، وإن كان نطاقها أصغر). وتعطي الدماغ الرقمي عينين ليرى العالم وأذنين ليسمع. كذلك تمنح علبة صوت {العقل} القدرة على الكلام. وهكذا نصبح في منطقة وسطى بين العلم والخيال العلمي.

هل يصبح {العقل} واعياً في هذه الحالة؟

تخيل الآن أن مهندسي {العقل} ينسخون شفرته مباشرة من دماغك. فهل تموت نُسخة منك عندما يتوقف الكمبيوتر عن العمل؟

تضع هذه الأسئلة العلماء والفلاسفة الذين يفكرون في الكمبيوترات والدماغ والعقل أمام معضلة محيّرة متواصلة. ويعتقد كثيرون أننا سنواجه ذات يوم تداعيات كبيرة على عالمنا الحقيقي.

يشكّل الدكتور سكوت آرونسون، عالم كمبيوتر نظري في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا له مدونة Shtetl-Optimized، جزءاً من مجموعة علماء وفلاسفة (ورسامي صور كرتونية) اعتادوا التعاطي مع مسائل الخيال العلمي الأخلاقية هذه. ففيما ينكب معظم الباحثين على البيانات، يجري هؤلاء الباحثون تجارب فكرية تعتمد غالباً على الكائنات الفضائية، الرجال الآليين، وقوى ما فوق الطبيعة (يسارع آرونسون إلى الإشارة إلى طبيعة عمله التي تعتمد على التخمين إلى حد كبير).

يخبر آرونسون Popular Science أن مفكرين كبار يقدمون تفسيرات واسعة للوعي لأسباب إنسانية. فلو كانت لعبة {العقل} الكبيرة تلك في ذلك الحقل (أو C-3PO أو داتا أو هال) تحاكي فكرة أو شعوراً، فمن نحن لنجزم أن ذلك الوعي أقل قيمة من وعينا؟

في عام 1950، كتب آلان تورنج، محلل شفرات بريطاني بارع وعالم كمبيوتر ، مقاله {آلات حاسبة والذكاء}، مندداً فيه بالعقائد التي تتمحور حول الإنسان.

التفكير وظيفة من وظائف الروح البشرية الخالدة، حسبما يُقال. فقد منح الله كل رجل وامرأة روحاً خالدة، وميزه بذلك عن كل الحيوانات والآلات. لذلك لا يستطيع أي حيوان أو آلة التفكير.

يوضح آرونسون أن طريقة التفكير هذه تقود إلى منحدر زلق حيث تتخيل كل الأشياء المختلفة التي يمكن أن ينطبق عليها ذلك. بدلاً من ذلك يقترح التوصل إلى حل لما يدعوه {المشكلة البالغة الصعوبة}. يوضح آرونسون: {من المهم التوصل إلى معيار ما يستند إلى مبادئ محددة للفصل بين الأنظمة التي نعتبرها واعية وتلك غير الواعية}.

قد يعتبر كثيرون محاكاة عقل في جهاز كمبيوتر تجربةً واعية، وخصوصاً إذا تمكنوا من مخاطبته أو طرح الأسئلة عليه أو تطوير علاقة معه وهذه نسخة من المستقبل يتناولها فيلم Her الحائز جائزة أوسكار.

فكّر في المشاكل التي قد نواجهها في عالم يتحول فيها الوعي إلى مجموعة من البرامج الإلكترونية. فيستطيع عندئذٍ أي شخص تشفير قرص. وبدل صوت سكارليت جوهانسون، كل ما يستطيع يواكيم فينكس سماعه في أذنه مجموعة من البيانات غير المفهومة. رغم ذلك، في مكان ما، يقوم أمر ما بالتفكير.

يأخذ آرونسون هذه المسألة إلى أبعد من ذلك. فإذا كان من الممكن كتابة عقل بواسطة شفرة، فما من سبب يدفعنا إلى الاعتقاد أن من غير الممكن تدوينه على كتيب صغير. فإذا حصلنا على الوقت الكافي وكمية من الورق والحبر تفوق ما يتسع له الكون، يستطيع الإنسان وضع جدول بكل محفز ممكن قد يواجهه الوعي وتحديد كل رد فعل. وهكذا تتحول تلك المعلومات إلى كائن واعٍ مجمد في الزمن ينتظر قارئاً.

يشير آرونسون: {ينشأ كم كبير من الغرابة الماورائية عندما نصف الوعي المادي كأمر يمكن نسخه}.

غرابة ومقارنات

تزداد الغرابة غرابة عندما تفكر في أن مفكرين كثراً يعتبرون أن أدمغة محتملة كثيرة في الكون قد لا تكون بيولوجية أو آلية. فوفق هذا التفسير، لا تبدو غالبية العقول شبيهة بما قد نصادفه أنا وأنت. إليك مثالاً على ذلك: تشير الفيزياء الكمية (هذا الفرع من العلوم الذي ظهر في القرن العشرين وكشف السلوك الغريب والخفي للجسيمات التي تشكل كل الأشياء) إلى أن ما من أمر مطلق. فلا يكون إلكترون ما غير مراقب في نقطة محددة من الفضاء، بل ينتشر في الكون بأكمله كتوزيع للاحتمالات. لكن غالبية هذه الاحتمالات تتركز حول المدار الضيق المحيط بالذرة لا كلها. وينطبق هذا الأمر أيضاً مع الانتقال إلى مسائل أكبر. فماذا عن تلك المسافة الفارغة من الفضاء بين هنا وبلوتو؟ قد تكون فارغة، أو ربما (أكرر ربما) تضم صورة الرسوم المتحركة الجميلة تلك التي ظننت أنها سقطت من محفظتك وأنت عائد إلى المنزل من المدرسة في الصف الثاني.

فيما تمر العصور وتنطفئ النجوم ويزداد الكون فراغاً، مقارنة بما هو عليه اليوم، تصبح تلك العشوائية الكمية بالغة الأهمية. فمن المحتمل أن يكون خلاء الفضاء الصامت  فارغاً على الأرجح. ولكن من حين إلى آخر، ستتحد كتل من المادة معاً وتذوب في تلك العشوائية اللامتناهية. ويعني ذلك، وفق التوقعات، أن تلك الكتل سترتب نفسها أحياناً بطريقة مثالية ودقيقة لتكتسب قدرة على التفكير، ربما للحظة، إلا أنها ستكون كافية لتسأل: {مَن أكون؟}.

هذه هي أدمغة بولتزمان، التي تحمل اسم عالم الفيزياء لودفيغ بولتزمان من القرن التاسع عشر. فيعتبر البعض أن هذه الكائنات الكونية الحديثة والغريبة ستفوق عدداً في النهاية البشر، الحيوانات، الكائنات الفضائية، والرجال الآلين الذين عاشوا أو سيعشون عموماً. ولكن إذا اعتبرنا هذه الفرضية صحيحة، تكون أنت أيها القارئ إذاً أحد أدمغة بولتزمان. فثمة نسخة «حقيقة» واحدة منك. لكن مجيء أدمغة بولتزمان إلى الوجود لن يتوقف، فيما تتخيل مهلوساً هذه اللحظة من حياتك مع كامل ذاكرتك وتجاربك. لن تتوقف هذه الأدمغة، بل ستواصل الظهور والاختفاء في الفراغ إلى ما لا نهاية.

أسئلة محيّرة

تناول آرونسون في خطاب ألقاه في شركة IBM عدداً من الخلاصات المفاجئة التي توصل إليها المفكرون بغية حلّ هذه الغرابة.

قد تقول: صحيح أن هذه الأسئلة محيرة، ولكن ما البديل؟ إما نعتبر الوعي نتاج احتساب التعقيد الصحيح أو التكامل أو التكرار (أو شيء ما) الذي يحدث في مكان ما في دالة الكون الموجية، أو نعود إلى القول إننا الكائنات الوحيدة الواعية، بخلاف كل الأمور الأخرى، وذلك لأن الله أعطانا روحاً وما إلى هنالك. أو أعتقد أننا نستطيع القول، على غرار الفيلسوف جون سيرل، إننا واعون، وإن كل تلك الأشكال الأخرى ليست كذلك لأننا وحدنا نتمتع {بقدرات سببية بيولوجية}. وممَّ تتألف هذه القدرات البيولوجية؟ لا يُفترض بك أن تطرح سؤالاً مماثلاً. عليك أن تتقبل فكرة أننا نتمتع بها فحسب. أو يمكننا أن نقول، على غرار روجر بنروز، إننا واعنا بخلاف سائر الأشياء لأننا وحدنا نملك أنابيب دقيقة حساسة تجاه تأثيرات الجاذبية الكمية التي لا يمكن احتسابها [يشير آرونسون في موضع آخر من خطابه إلى أن ما من دليل واضح ومباشر يدعم هذا الادعاء]. ولكن لا يبدو في رأيي أن هذين الطرحين يحققان تقدماً يُذكر.

بدلاً من ذلك، اقترح آرونسون قاعدة لمساعدتنا في فهم أي أجزاء من المادة واعية وأيها لا.

يذكر أننا ننظر إلى الأشياء الواعية عبر {سهم الوقت}. ويعني ذلك أن العقل الواعي لا يمكنه العودة إلى حالة سابقة، كما يمكنك أن تفعل مع كل دماغ في جهاز كمبيوتر. فعندما يحترق عود أو تتصادم نجوم أو يفكر الدماغ البشري، يحدث تفاعل كمي على مستوى الجسيمات الصغيرة لا نستطيع قياسه أو محاكاته، ويحدد طبيعة النتيجة بدقة. وبذلك يكون وعينا لحماً وعصائر كيماوية، ولا يمكن فصله عن الجسيمات. فعند القيام بخيار ما أو المرور بتجربة ما، ما من طريقة لإعادة الدماغ إلى نقطة قبل حدوث ذلك لأننا نعجز عن إعادة إنتاج حالة الدماغ الكمية سابقاً.

عندما يتألم الوعي أو يكون سعيداً، تصبح هذه التجربة جزءاً منه إلى الأبد. صحيح أن وضع دماغك في رسالة إلكترونية وإرساله إلى فيجي قد يبدوان طريقة مميزة للسفر. لكن آرونسون يعتقد أن هذه النسخة منك في الطرف الآخر من العالم تشكّل وعياً مختلفاً تماماً. فقد ماتت النسخة الحقيقية منك مع دفن جسمك في بلدك.

بالإضافة إلى ذلك، يوضح آرونسون يجب ألا تقلق حيال كونك أحد أدمغة بولتزمان. فهذه الأدمغة ليست واعية أساساً كي تتمكن من محاكاة الوعي البشري الحقيقي. فما إن ينتهي هذا الشكل النظري من عملية التفكير، يختفي مجدداً في الأثير من دون أن نلاحظ ذلك، عائداً بفاعلية إلى حالته السابقة، ما يجعله بالتالي غير ذي أهمية.

لكن هذا لا يعني بالتأكيد أننا، نحن الكائنات الحيوية، يجب أن نبقى وحيدين في الكون للأبد. فقد يجد كمبيوتر كمي أو حتى كمبيوتر عادي متطور كفاية نفسه عالقاً في سهم الوقت مثلنا تماماً. لا شك في أن هذا وحده ليس كافياً لنعتبر تلك الآلة واعية. فيذكر آرونسون أن همن الضروري أن تتحلى هذه الآلة بالكثير من الخصال قبل أن نتمكن من رؤية شيء منا فيها (اقترح تورنج نفسه اختباراً شهيراً، ولكن كما تشير Popular Science، يدور بعض الجدل حول قيمته اليوم).

إذاً، قد تنسى أنت ومولي وبوب بمرور الوقت تلك اللعبة الجميلة والتسلي بالبالونات المائية في الحقل، ولكن لا يمكنكم مطلقاً الادعاء أنكم لم تعيشوا تلك التجربة. فتأثير ذلك اليوم سيتردد في التاريخ السببي لوعيكم ليشكل جزءاً من سلسلة متواصلة من الأفراح والأحزان السائرة نحو الحاضر. فلا يخسر الإنسان مطلقاً أياً من التجارب التي اختبرها.

back to top