ما بعد أنغكور: أشعة الليزر تكشف مدينة ضائعة

نشر في 29-09-2014 | 00:10
آخر تحديث 29-09-2014 | 00:10
في أعماق الأدغال الكمبودية تقع بقايا مدينة شاسعة تعود إلى القرون الوسطى ظلت مخبأة طوال قرون. وتعمل تقنيات علم الآثار اليوم على الكشف عن أسرارها، بما فيها شبكة معقدة من المعابد والجادات، فضلاً
عن هندستها المتطورة.
في شهر أبريل عام 1858، أبحر مستشكف فرنسي شاب يُدعى هنري موهو من لندن إلى جنوب شرق آسيا. وطوال السنوات الثلاث التالية، سافر في البراري، مكتشفاً حشرات أدغال غريبة لا تزال تحمل اسمه.

لكن ذكره اليوم كان سيُنسى لولا مذكرات رحلته التي نُشرت عام 1863، بعد سنتين من وفاته بالحمى في لاوس عن عمر يناهر الخامسة والثلاثين.

أسرت رواية موهو مخيلة الناس، ولا يعود ذلك إلى الخنافس والعناكب التي عثر عليها فحسب.

ذُهل الناس من وصفه الحي لمعابد كبيرة تغلفها الأدغال. وهكذا عرّف موهو العالم إلى مدينة أنغكور الضائعة من العصور الوسطى في كمبوديا وجمالها الرومانسي المذهل.

كتب موهو: {يحتل أحد هذه المعابد، الذي يضاهي هيكل سليمان هيبة وشيده مايكل انجلو قديم، مكانة بارزة إلى جانب أجمل مبانينا. فهي أعظم من كل ما تركه لنا اليونان أو الرومان}.

عزز وصفه هذا بقوة في الثقافة الشعبية الرواية الخيالية المثيرة عن مستكشفين مغامرين يعثرون على معابد منسية}.

تشتهر كمبوديا اليوم بهذه الأبنية. بُني الأكبر بينها، أنغكور وات، نحو عام 1150، وما زال يُعتبر المجمع الديني الأكثر ضخامة في العالم، محتلاً مساحة أكبر بنحو أربعة أضعاف من مدينة الفاتيكان. يجذب هذا المعلم نحو مليوني سائح كل سنة ويفتخر بتوسط العلم الكموبيدي.

ولكن في ستينيات القرن التاسع عشر، كان أنغكور وات منسياً تماماً. فما كان أحد يعلم بوجوده غير الرهبان المحليين وسكان القرى المحيطة. كذلك ما كان أحد يعرف أن هذا المعبد العظيم كان في الماضي محاطاً بمدينة تضم نحو مليون نسمة.

استغرق رسم خارطة هذه المنطفة قرناً من الأعمال الأثرية الميدانية المضنية. وهكذا بدأت مدينة أنغكور الضائعة تولد من جديد، شارعاً تلو الآخر. ولكن رغم ذلك، بقيت تفاصيل كثيرة مجهولة.

أعلن علماء الآثار السنة الماضية سلسلة من الاكتشافات الجديدة عن أنغكور وعن مدينة أكثر قدماً مخبأة في الأدغال وراءها. وضع فريق دولي، يقوده الدكتور داميان إفنز من جامعة سيدني، خارطة مفصلة بدقة لم يسبق لها مثيل لنحو 370 كيلومتراً مربعاً حول أنغكور. لا شك في أن هذه ليست بالمهمة السهلة نظراً إلى كثافة الأدغال وانتشار الألغام التي تعود إلى الحرب الأهلية في كمبوديا. رغم ذلك، استغرق المسح بأكمله أقل من أسبوعين. فما السر؟

الجواب هو: ليدار، تكنولوجيا متطورة للاستشعار عن بعد تحدث ثورة في علم الآثار، خصوصاً في المناطق المدارية.

وضع الفريق جهاز ليدار على طائرة مروحية جابت المنطقة، فراح يطلق مليون شعاع ليزر كل أربع ثوانٍ عبر أشجار الأدغال، مسجلاً التغييرات الدقيقة في طبيعة سطح الأرض. فكانت النتائج مذهلة.

عثر علماء الآثار على معالم مدينة غير موثّقة في أرض الغابة تضم معابد، طرقات عامة، ومجاري ماء متطورة تمتد في المنطقة.

يذكر الدكتور إفنز: {مررنا بلحظة اكتشاف مميزة، عندما استعرضنا البيانات على الشاشة للمرة الأولى ورأينا أمامنا بكل وضوح تلك المدينة القديمة}.

بدّلت هذه الاكتشافات الجديدة بعمق فهمنا لأنغكور، أكبر مدينة على الأرض تعود إلى القرون الوسطى. ففي أوجها في أواخر القرن الثاني عشر، كانت مدينة كبيرة ناشطة تحتل مساحة ألف كيلومتر مربع (كانت ستمر 700 سنة إضافية قبل أن تبلغ لندن مساحة مماثلة).

كانت أنغكور في الماضي عاصمة مملكة الخمير الجبارة التي حكم ملوكها المقاتلون المنطقة طوال قرون، مسيطرين على كمبوديا اليوم ومعظم أجزاء فيتنام ولاوس وتايلاند وميانمار. لكن أصولها وولادتها ظلا دوماً لغزاً محيراً.

يشير بعض الكتابات البسيطة إلى أن الإمبراطورية تأسست في مطلع القرن التاسع على يد ملك عظيم يُدعى جايافارمان الثاني، وأن عاصمته الأصلية، ماهندرابارفاتا، كانت في مكان ما في تلال كولن، هضبة تغطيها الغابات في الجانب الشمالي الشرقي الذي بُنيت عليه أنغكور لاحقاً. لكننا ما كنا نعلم ما إذا كانت هذه المعلومات دقيقة، إلى أن وصل فريق ليدار.

أجرى ليدار مسحاً للتلال وكشف معالم غير واضحة على أرض الغابة تعود إلى معابد مجهولة، فضلاً عن شبكة غير متوقعة البتة من الجادات الاحتفالية والسدود والبرك من صنع الإنسان. وهكذا عثروا على هذه المدينة الضائعة.

يُعتبر الأكثر أهمية بين كل هذه الأدلة الهندسة المائية الواسعة النطاق، علماً أن هذه تشكل إحدى العلامات المميزة لإمبراطورية الخمير.

مع انتقال العاصمة الإمبراطورية جنوباً إلى أنغكور نحو نهاية القرن التاسع عشر، كان مهندسو الخمير يخزنون ويوزعون كميات كبيرة من مياه الأمطار الموسمية الثمينة، مستخدمين شبكة معقدة من الأقنية والخزانات الضخمة.

منحهم استغلال الأمطار الموسمية أمناً غذائياً وجعل النخبة الحاكمة فاحشة الثراء. وخلال القرون الثلاثة التالية حوّلوا ثروتهم هذه إلى أعظم تجمع معابدة في العالم. بُني أحد هذه المعابد، بريا خان، في عام 1191 واحتوى على 60 طناً من الذهب. وكانت قيمته ستبلغ اليوم أكثر من 3.3 مليارات دولار. ولكن رغم ثروة هذه المدينة المهولة، كانت المشاكل تلوح في الأفق.

ففي الفترة عينها التي بلغ فيها برنامج بناء المعابد في أنغكور ذروته، كانت شبكتها المائية الحيوية تتداعى في أسوأ مرحلة ممكنة. شهدت نهاية القرون الوسطى تبدلات جذرية في المناخ في مختلف أرجاء جنوب شرق آسيا.

تكشف حلقات الأشجار تقلبات مفاجئة بين الخفاف الشديد والمطر الغزير. كذلك تُظهر خارطة ليدار أضراراً كبيرة خلفتها الفياضانات في شبكة الماء الحيوية في المدينة. مع تزعزع هذا الشريان الحيوي، دخلت أنغكور دوامة من التراجع لم تتمكن من الخروج منها مطلقاً.

في القرن الخامس عشر، هجر ملوك الخمير مدينتهم وانتقلوا إلى الساحل، حيث بنوا مدينة جديدة، بنوم بنه، عاصمة كامبوديا الحالية. وهكذا خبت الحياة في أنغكور تدريجاً.

عندما وصل موهو، لم يجد إلا معابد حجرية عظيمة، كان الكثير منها في حالة يُرثى لها. أما معالم المدينة الباقية، من المنازل العادية إلى القصور الملكية، فقد زالت لأنها كانت مصنوعة من خشب. نتيجة لذلك، ابتلعت الأدغال تلك المدينة الكبيرة التي كانت تحيط سابقاً بالمعابد.

back to top