«تُركوا ليموتوا»... مأساة {مركب اللاجئين} قرب مالطا

في مطلع الشهر الجاري، غرق 500 شخص، معظمهم لاجئون من قطاع غزة، عندما تحطّم مركبهم في البحر الأبيض المتوسط. وتُعتبر هذه المأساة الأسوأ في صيف حافل بالمآسي. سافرت «شبيغل» إلى غزة وكريت لمعرفة تفاصيل الكارثة.
في اليوم الثالث في البحر قرب سواحل مالطا، بدأ شكري العسولي يهلوس. فراح يرى الشوارع والمنازل وأمه التي رحبت به بابتسامة في موطنه في قطاع غزة. كان يرتدي سترة نجاة رجل غرق ويتمسك بحاوية معدنية فارغة. بدأت قواه بعد ذلك تخور. فقد بدّل التعرض لماء البحر المالح لون بشرته، وشعر بخدر في ذراعيه وساقيه بسبب برودة الماء وصراعه لتفادي الغرق. وأخيراً رأته فرقاطة وانتشلته مع خمسة ناجين آخرين من الماء. ظن العسولي أنه يلهوس. يخبر: {كنت قد أدركت أنني سأموت}.

نُقل العسولي بمروحية إلى مدينة شانيا في كريت، حيث أمضى خمسة أيام في المستشفى. كان يمشي في ممر العيادات بخطى غير ثابتة، وعيناه حمراوان، والتجاعيد على جبينه ازدادت عمقاً وبروزاً. صحيح أنه أُنقذ، لكنه خسر كل ما يملك. وضع رأسه بين يديه وراح يبكي. سأل: {كيف يسمح الأوروبيون بحدوث جريمة كهذه؟ أين زوجتي؟ أين أولادي؟}.

شكري العسولي (35 سنة) حلاق عاطل عن العمل في خان يونس في قطاع غزة. بدأ رحلته إلى أوروبا في أغسطس مع انتهاء الحرب. فسافر مع زوجته هيام (25 سنة) وابنته رتاج (4 سنوات) وابنه يأمن (8 أشهر).

أسوأ تحطُّم

لا شك في أن زوجته وولديه ماتوا. كان هذا مصير كل الركاب الذين صعدوا إلى القارب في دمياط بمصر لينقلب بهم قبالة سواحل مالطا بعد أربعة أيام في السادس من سبتمبر. كانوا قادمين في معظمهم من الأراضي الفلسطينية، في حين أتى الركاب الباقون من مصر وسورية والسودان. سقطوا في الماء، فجرفتهم التيارات، وابتلعهم البحر الأبيض المتوسط. وبحلول يوم الجمعة، عُثر على 10 ناجين فقط. فنُقل اثنان منهم إلى صقلية، واثنان إلى مالطا، وستة إلى كريت.

وصفت المنظمة الدولية للهجرة في جنيف هذا الحادث بـ{تحطم السفن الأسوأ منذ سنوات} في البحر الأبيض المتوسط. وكما لو أن الوضع لم يكن سيئاً كفاية، فقد غرق مركب آخر يحمل نحو مئتي لاجئ في الأسبوع عينه قبالة السواحل الليبية. خلال فصل الصيف، لقي ما لا يقل عن 2200 شخص حتفهم غرقاً، فيما كانوا يحاولون العبور إلى شمال أوروبا. ويفوق هذا العدد بنحو ثلاثة أضعاف وفيات كامل السنة الماضية. لكن حادث الغرق قرب مالطا لم يكن مجرد حادث. قابلت شبيغل وReport Mainz، برنامج تحقيق يُعدّ بالتعاون مع شبكة البث الألمانية ARD، ثلاثة ناجين في كريت. ويشير وصفهم الأحداث إلى جريمة مريعة.

عندما وصل العسولي إلى كريت، اتصل بأمه، مخاطباً إياها بصوت مخنوق خالٍ من أي مشاعر. قال لها: {أمي، صلي أن تكون هيام والولدان آمنين، وأن يحميهم الله أيضاً}.

في خان يونس، كانت فتيحة العسولي تعلق مناشف داكنة على نوافذ شقتها لتحميها من الحر الخانق. وعلى الدرج في الخارج، كان هدير المولد يُسمع بوضوح. في الداخل، جلست امرأة عجوز في السرير ويداها مشبوكتان وفي حضنها صورة لابنها شكري، هي واحدة من صور عدة له تملكها. في الصورة، ظهر شكري بمظهر أنيق ولحية مشذبة بعناية، وكان يقف أمام ورق جدران مزين بأشجار نخيل. وما انفكت توجه نور مصباح نيون إلى الجدار حيث علقت صورة لحفيدتها رتاج في إطار ذهبي. كذلك كانت تضع صورة صغيرة للطفل يأمن في الزاوية.

قبل مغادرة غزة، أخبر شكري والدته فتيحة: {أمي، سأبقى فترة طويلة في مستشفى في السويد}. فقبل سنتين، خلال الحرب ما قبل الأخيرة بين غزة وإسرائيل، تعرض شكري العسولي لإصابة. ومنذ ذلك الحين، يعاني من شظايا قذيفة في ساقه اليسرى لا تنفك تتحرك. فنصحه قريب له بتلقي العلاج في أوروبا حيث يمكنه اللجوء إلى أطباء أفضل. أراد أن يسافر بمفرده، إلا أن زوجته ظلت تصر على مرافقته هي وولداهما. فاستسلم في نهاية المطاف.

نحو الكارثة

منذ بداية الحرب الأخيرة، انطلق مئات الفلسطينيين من قطاع غزة إلى أوروبا. عبَرَ غالبيتهم أنفاقاً سرية إلى مصر، في حين حصل آخرون على تأشيرات سفر بطرق مشروعة أو بالتزوير، أو حتى اشتروها. دفع شكري العسولي ألفي دولار للمهربين لقاء رحلته هذه نحو الكارثة.

على غرار كثيرين قبله، طلب شكري العسولي المساعدة، على ما يبدو، من رجلين في متجر يبعد بضعة شوارع عن منزل والديه. كانت علامات دولار صفراء ملصقة على واجهة المتجر التي علاها الغبار. كان الرجلان يجلسان أمام جهاز كمبيوتر وضعا قربه دفتراً صغيراً يضم أعمدة طويلة من الأسماء والمبالغ التي تتراوح بين ألفي دولار وخمسة آلاف. يدّعي الرجلان أنهما ليسا مهربين، بل يقصدهما الناس عندما يرغبون في مغادرة غزة. قبل الحرب، كان نحو 20 شخصاً يطلبون مساعدتهما كل أسبوع. لكن العدد ارتفع اليوم إلى 20 في اليوم.

أتى أحمد عصفور (25 سنة) من خان يونس أيضاً. وقد دفع 2500 دولار لقاء العبور إلى أوروبا. من المرجح أنه كان مع ثلاثة من أقاربه على متن القارب الذي غرق قرب مالطا. يمسك والده سمير عصفور بهاتفه الخلوي، منتظراً ليلاً ونهاراً اتصالاً من ولده، إلا أن الهاتف يأبى أن يرن.

تحدث سمير إلى ابنه آخر مرة في السادس من سبتمبر. كان قد صعد إلى القارب. يخبر والده أن أحمد كان خائفاً لأن القارب بدا متداعياً. فرجاه والده: {عد، الوضع خطر. قد تموت}. لكن ابنه أجاب: {لا حياة لي في غزة في مطلق الأحوال}. فلم يستطع سمير عصفور مجادلة ولده في هذا الواقع المرير.

كاد محمود (26 سنة)، أحد معارف أحمد عصفور، أن يعاني المصير ذاته. لكن محمود لم يتمكن من صعود المركب لأنه أخبر والده بخططه للهرب. فعمد والده في الحال إلى أخذ جواز سفره وكل ماله. يؤكد محمود اليوم أن هذا السبب الوحيد لنجاته.

بعد دفع المال، نُقل شكري العسولي وزوجته وولداه إلى الإسكندرية في مصر. فاحتجزهم مهربوهم في شقة حيث اضطروا إلى الانتظار أياماً. في النهاية، نقلوا بواسطة حافلة صغيرة، وحمل قارب مطاطي صغير الركاب، عشرين منهم في كل مرة، إلى المركب الذي كان راسياً عند الواجهة المائية. يخبر العسولي أن طول المركب الذي اكتظ بالركاب لم يكن يتخطى العشرين متراً. ويؤكد أنه رأى الكثير من النساء على متنه، فضلاً عن مئة ولد تقريباً. كان العدد كبيراً حتى إنه عجز عن مدّ ساقيه. عندما بدأ المركب يمخر عباب البحر، راح يتمايل وشعر العسولي بالغثيان. كانت ابنته تبكي وتصيح: {أريد العودة إلى جدتي}. فحاول أن يهدئ ولديه، قائلاً: {لا تخافا. سنصل قريباً إلى أوروبا}.

{لم يتسنَّ لنا الوقت لنتحرك}

بعد أربعة أيام في البحر، ظهرت سفينة أخرى كانت تحمل مهربين أيضاً. بدا جلياً أن الرجال يحتاجون إلى مركبنا الصغير لأنهم أرادوا نقل اللاجئين الكيلومترات القليلة المتبقية من الرحلة بواسطة مركب أصغر حجماً. لكن الركاب رفضوا. نتيجة لذلك، عمد المهربون إلى صدم المركب بدون سابق إنذار. يخبر العسولي: {لم يتسنَّ لنا الوقت لنتحرك}. فظهرت فجوة بسرعة في جانب المركب الذي امتلأ بالماء في غضون دقائق. لم يتمكن الثلاثمئة الذين كانوا يختبئون داخل المركب من الهرب وغرقوا في الحال. نادى العسولي زوجته وولديه، إلا أنه لم يستطع العثور عليهم.

بعد غرق المركب، اضطر الناجون الثمانون إلى النضال للبقاء على قيد الحياة في مياه البحر الباردة. فشكّل الناجون القلائل الذين كانوا يضعون سترات نجاة حلقة وحاولوا مساعدة الآخرين ليظلوا طافين. ولكن في اليوم الثالث في البحر، ازداد الطقس سوءاً وراحت الأمواج ترتفع إلى أن بلغت الأمتار.

يخبر عبد العزيز الهلال (24 سنة)، ناجٍ آخر: {مع كل ساعة، كان البحر يسلبنا شخصاً إضافياً}. كانت حروق الشمس بادية بوضوح على ذراعيه ووجهه مليئاً بالندوب. على متن القارب، التقى بمحمد رعد (25 سنة). ما كانا كلاهما قد اشتريا أي طعام ليتناولانه، إلا أنهما امتلكا سترة نجاة. راحا يبولان في قنانٍ ويشربان منها. كذلك راحا يراقبان، فيما كان اللاجئون يغرقون الواحد تلو الآخر، وفيما تركت الأمهات أطفالهن ينزلقون إلى الماء عندما خارت قواهن. يدّعي الهلال أن أربع سفن مرت قربهم، إلا أنها لم تتوقف. يقول: {تركتنا لنموت}. هرب كلا الرجلين من غزة بعدما دمر القصف منزليهما. علِمَا أن الرحلة ستكون خطرة، إلا أنهما لم يتوقعا أنها ستكون مأساوية إلى هذا الحد. نُقلا كلاهما إلى كريت بعد إنقاذهما، ويرغبان اليوم في متابعة  رحلتهما شمالاً معاً.

سرد ناجيان آخران قابلتهما المنظمة الدولية للهجرة في صقلية رواية مماثلة. في الوقت عينه، أفاد المدعي العام في كاتانيا بصقلية أن أكثر من 400 راكب كانوا على متن المركب، وأن المركب {صُدم عمداً}. لذلك وصف المدعي العام ما حدث بـ{الجريمة المروعة جداً}. وبحلول يوم الجمعة، لم تكن البحرية الإيطالية قد نجحت في انتشال أي من الحطام أو الجثث.

تبديل سياسات الحدود في الاتحاد الأوروبي

يوضح كريستوفر هاين، مدير المجلس الإيطالي للاجئين، أن تفكيك شبكات التهريب لا يكفي وحده لوقف الموت في البحر الأبيض المتوسط. ويتابع: {نحتاج إلى تغيير سياسات الحدود في الاتحاد الأوروبي}، لأن الناس مضطرون أولاً إلى السفر إلى الاتحاد الأوروبي قبل التقدم بطلب لجوء. ويعتبر لاجئون كثر أن درب البحر الخطر هو خيارهم الوحيد. ولا شك في أن المجلس الأوروبي (هيئة الاتحاد الأوروبي الأقوى التي تمثل قادة 28 دولة في هذا الاتحاد) يعي أيضاً هذه المشكلة. يفيد تقرير يعود إلى أواخر 2013 أن تعزيز ضبط الحدود واتخاذ تدابير تجرّم الهجرة غير المشروعة لم يقودا إلى خفض عدد اللاجئين. بدلاً من ذلك، زادا شبكات المهربين والمتاجرين بالبشر.

رداً على ذلك، دعت سيسيليا مالستروم، المفوضة الأوروبية الحالية للشؤون الداخلية، إلى إصدار تأشيرات دخول إنسانية للمهاجرين. بالإضافة إلى ذلك، اقترحت أن يُسمح للاجئين بتقديم طلب اللجوء من دول مجاورة للاتحاد الأوروبي، مثل تونس وتركيا. لكن معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي رفضت هذا الاقتراح، خوفاً من أن يؤدي إلى ارتفاع عدد طالبي اللجوء. بدلاً من ذلك، بدت مستعدة لقبول موت هذا العدد الكبير من الناس.

بعد خروجه من المستشفى، هام شكري العسولي في شوارع شانيا. تجول في السوق وأمام المطاعم. كان من الممكن أن تخاله سائحاً. لكنه سارع إلى القول إنه يحلم بالعيش في أوروبا مع عائلته، متحدثاً كما لو أنهم ما زالوا على قيد الحياة.

في تلك الأمسية، ركب العسولي مركباً بخارياً متوجهاً إلى أثينا. فمن هناك سيتابع  رحلته شمالاً.

back to top