حلب... يموتون وهم أحياء!

نشر في 28-09-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-09-2014 | 00:02
تسيطر قوات بشار الأسد على غرب حلب وترمي البراميل المتفجرة على الجزء الشرقي من المنطقة كل يوم. الموت يخيم في كل مكان. في الفترة الأخيرة، أمضى فريق صحيفة {شبيغل} أسبوعاً في هذه المدينة التي أصبحت أشبه بمدينة أشباح.
أثناء التجول في ضواحي المدينة الخارجية، سرعان ما نبلغ أرضاً قاحلة وفارغة. تبدو الشوارع والمباني السكنية شبه المدمرة مهجورة ولا يمكن سماع إلا أصوات اللافتات المعدنية المدمرة التي تحركها الريح فضلاً عن هدير مدفعيات بعيدة. تخلى الجميع عن شرق حلب وبات معظم الأحياء السكنية بعيداً عن الجبهة. يفضل كل من بقي في المدينة التجمع في منازل مقابل خطوط المعركة التي بقيت ثابتة في السنتين الأخيرتين. لكن تكمن المفارقة في واقع أن الناس يشعرون بأمان أكبر وهم يعيشون ضمن نطاق دبابات العدو ونيران القناصة. هذه هي القواعد السائدة في حلب. أسباب هذا الوضع براغماتية. في المقام الأول، توفر الطوابق السفلية من المباني الواقعة على طول الجبهة بعض الحماية من قذائف المدفعيات. الأهم من ذلك أن البراميل لا تقع في هذا المكان. تبدو القنابل فاعلة على نحو قاتل، لكنها غير دقيقة لدرجة أن القوات الجوية السورية تمتنع عن استعمالها على مسافة قريبة من قواتها الخاصة. لكنّ بقية أجزاء شرق حلب تُعتبر مستهدفة. يمكن أن تدمر القنابل المليئة بالمتفجرات والشظايا مباني كاملة وقد جرّب الجيش السوري تصاميم مختلفة منها في المدينة. حتى إن البعض ربطها بخزانات البنزين بهدف إشعال النار حين تنفجر. تتوافر أيضاً قنابل ثقيلة لدرجة أنها تتدحرج من المروحيات على عربات أسلحة صغيرة. تظهر المروحيات في الصباح وفي فترة متأخرة من بعد الظهر، وغالباً ما يحصل ذلك في الوقت نفسه من كل يوم، فتحوم لفترة على علو يتراوح بين 4 و5 آلاف متر في السماء قبل إسقاط الرؤوس الحربية المتفجرة. يمكن سماع صوت القنابل التي تسقط قبل ثوان من الانفجار (إنه وقت كافٍ كي يعرف الناس أنهم يوشكون على الموت لكنه ليس كافياً كي يهربوا).

 لكن حتى لو كان الوقت كافياً، تبقى الملاجئ الفاعلة محدودة. لم يبق أحد كي يطلق النار على المروحيات من الأرض. لا نفع من القيام بذلك أصلاً لأن المروحيات تحوم على علو مرتفع جداً بالنسبة إلى الأسلحة الروسية القديمة والمضادة للطائرات التي يستعملها الثوار السوريون. قصصٌ مفجعة نقلت «شبيغل» بعضاً منها.

القواعد في حلب صارمة ومقلقة. وكأن أحداً ابتكر تجربة قاتلة بامتياز: ماذا يمكن أن يفعل الناس إذا كان الموت سيهبط عليهم من السماء في أي لحظة؟ هرب 90% تقريباً من السكان في أواخر عام 2013، حين بدأ القصف المنهجي. منذ ذلك الحين، حصدت المتفجرات حياة 2500 شخص تقريباً. مع ذلك، قرر بين 200 و300 ألف شخص متابعة العيش في الجزء الشرقي من المدينة.

يقول البعض إنه لا يريد المغادرة، بينما يؤكد البعض الآخر على أنه لا يستطيع المغادرة. وتدعي شريحة أخرى أن محاولة الهرب لن تنفع. إذا كانوا على موعد مع الموت، فهو سيجدهم كما يقولون. وإذا لم يشأ حصد أرواحهم، فلن يفعل. هذا ما يدفعهم إلى ملازمة مكانهم والانتظار.

بعد ثلاث سنوات ونصف على بدء الانتفاضة ضد دكتاتورية عائلة الأسد، وبعد سنتين على اندلاع القتال في حلب، أصبحت المدينة منقسمة إلى جزئين. يسيطر النظام السوري على الأحياء الأكثر ثراءً في الغرب، فضلاً عن مراكز الاستخبارات والجيش. يجتمع مليونا شخص في هذا الجزء من المدينة. هرب عدد كبير منهم من الشرق إلى الغرب وكانوا يتوقون إلى الهرب من الموت الذي يهبط عليهم من السماء.

في الجزء الشرقي، من الأصعب أن نحدد من يسيطر على الأجزاء المتبقية من مناطق الطبقة الوسطى والأحياء الفقيرة هناك، فضلاً عن جزء كبير من وسط المدينة التاريخية. احتشد عدد صغير من ألوية الثوار  هناك في البداية. ثم انتشرت أكثر من 400 جماعة ثورية صغيرة. ونجد اليوم ستة ألوية كبيرة. حضر عناصر {الدولة الإسلامية} المتطرفة أيضاً لكنهم هربوا مجدداً. ما من حكومة مركزية في شرق المدينة، لكن تحتفظ المنطقة بمجلس المدينة ووحدات الشرطة ومتطوعين في الدفاع المدني وهم يتحركون بعد التفجيرات لاستعادة الجثث وإنقاذ المحاصرين.

هذا الشهر، أوقف الثوار مقاتلي {الدولة الإسلامية} بعد فترة قصيرة من وصولهم إلى بلدة مارع، على بُعد 40 كلم من شمال حلب. كان يكفي أن تتقدم قوات الأسد من جهتها لبضعة كيلومترات كي تصدّ الثوار وتضيّق الخناق عليهم في محيط حلب. ثم ستصبح في موقع يخولها طرد الناس من الجزء الشرقي من المدينة بسبب قلة المواد الغذائية.

الوضع مأساوي لكنه كذلك منذ أشهر.

باللباس الأسود

في أول أسبوع من شهر سبتمبر، كان الجميع لا يزالون أحياء: صاحب المتجر أبو عبدو زكريا، وجارته الشابة سمر هياسي، والكهربائي محسن، والمرأة المسنة التي ترتدي الأسود، و12 عاملاً مياوماً من حي الحيدرية الذي يشمل سكاناً من الطبقة العاملة. هم 16 شخصاً من مختلف أجزاء المدينة وما كانوا يتقاسمون أي نقاط مشتركة، حتى صباح يوم الاثنين، عدا قرار بقائهم في حلب.

في فترة بعد الظهر من يوم الاثنين، بدأت أجهزة شرطة الثوار والدفاع المدني تصدر الأصوات. هذه المؤسسات تحافظ على أدنى مستويات النظام وسط الجحيم السائد. كانت امرأة تسير على جسر ساشور، وهو تقاطع مهجور يتّصل بالطريق السريع. سيكون الصعود على تلك الطريق قاتلاً على الأرجح. قال أحدهم عبر الجهاز اللاسلكي: {يا إلهي، ماذا تفعل هناك؟ لا شك في أنها مجنونة!}.

تحت الجسر، كان المكان لا يزال آمناً ووفّر الإسمنت السميك ملجأً لواحدة من آخر محطات سيارات الأجرة المتبقية في المدينة ولباعة الفاكهة أيضاً. لكن يبقى الجانب العلوي من الجسر تحت أنظار القناصة. نشأت حواجز من الحافلات المحروقة والأنقاض لمنع الناس من محاولة عبور الطريق. لكن تجاوزت المرأة باللباس الأسود الحواجز وبدأت تعبر الجسر.

تحتاج الرصاصة الأولى إلى بضع ثوانٍ كي تخترق الهواء. أصبحت الأصوات عبر الأجهزة اللاسلكية أكثر اضطراباً مع استمرار إطلاق النار: {ماذا يجب أن نفعل؟ هل نردّ إطلاق النار؟ لا، هذا الأمر سيستفزهم. يا رب...}. انحنت المرأة نحو الأمام ثم تابعت السير. انطلقت طلقة سابعة ثم ثامنة. فوقعت المرأة على الأرض.

لا أحد يعلم ما كانت تفعله هناك. هل كانت تجمع الأكياس البلاستيكية المستعملة لبيعها؟ أو ربما كانت تحاول التعرض للقتل؟ أم أنها فقدت صوابها بكل بساطة؟ هز الناس أكتافهم لأنهم لا يعرفون الجواب. لا أحد يعرف اسمها أصلاً. استعادوا جثتها في الظلام فلم يبق منها أي أثر.

قال متطوع في الدفاع المدني حين كان يتولى الحراسة: {ما زلنا أحياء لكن إلى متى؟ يوم أو أسبوع؟ نحن أموات أحياء كتلك المخلوقات التي نشاهدها في الأفلام! كائنات الزومبي! نعم زومبي! هل تريد قهوتك مع أو من دون سكر؟}. شرق حلب هي مدينة {الزومبي} المهذبين. إنها بلدة مريبة وقد تعبت لدرجة أنها ما عادت تستطيع الشعور باليأس.

يوم الاثنين الفائت، كان زكريا يشرب قهوته في الحديقة، كما يفعل في كل صباح. يعيش هذا الخياط الذي يبلغ 60 عاماً وحده في منزل يعود إلى قرون غابرة. كان يدير متجراً قبل أن يؤجره لكن مات المستأجر الآن للأسف. يعتني زكريا بالنباتات التي تحيط بالبئر في الباحة الداخلية. يذهب في العادة لزيارة صديقه القديم يوهانس في الصباح ويجلب له إبريقاً من الماء الباردة.

موت غير مألوف

في التاسعة صباحاً من يوم الثلاثاء، كان زكريا يشرب قهوته مجدداً في الباحة. فسمع فجأةً صوت صفير قنبلة، فركض إلى غرفته على أمل أن يجد الأمان هناك. لكن كانت تلك الوجهة خاطئة. لم تكن القنبلة كبيرة، لكنها أصابته ودمرت نصف منزله ومنزل جارته سمر هياسي، وهي أرملة موظف في البورصة عمرها 38 سنة. مات منذ خمس سنوات كما يقول الجيران. لكنهم يضيفون أنه مات لأسباب طبيعية، وكأن الموت قد يحصل لأسباب غير مألوفة.

ربما كان زكريا لينجو لو أنه قفز نحو القبو على الجانب الآخر من الباحة كما فعل جاره. وجده بسرعة متطوعو الدفاع المدني الذين وصلوا ومعهم مولّد كهرباء وآلة لثقب الصخور وقواطع أسلاك. لكنهم احتاجوا إلى ساعتين لاختراق جبل الأنقاض وسحب جثة هياسي. رست كرتان فولاذيتان، واحدة بحجم حبة الكرز والأخرى بحجم حبة الجوز، في ما تبقى من جمجمتها. لقد وُضعتا داخل القنبلة لزيادة قوتها التدميرية.

فيما تابع الرجال الحفر، حضر صديق زكريا القديم يوهانس. أخبره أحد بما حدث. فأومأ برأسه. لم يصرخ ولم يفتح عينيه من الرعب ولم يتفاجأ. لا شيء! بل اكتفى بهز رأسه. ثم اشترى بعض الخبز وعاد إلى منزله: إنه آخر منزل كاثوليكي من العصر القديم في شرق حلب. إنه {دار سانت إيلي}.

فقال وهو يمشي: {يجب أن أكنس الباحة}. ثم أضاف بصوته الناعم أنه كان يتوقع ما حصل. وقع الانفجار أولاً ولم يجلب زكريا الماء لاحقاً. ففكر في نفسه: {لقد مات هو أيضاً الآن}.

بقي سبعة مقيمين في {دار سانت إيلي}. غادر الآخرون أو ماتوا وأصبح يوهانس (75 عاماً) واحداً من أصغر شخصَين هناك. كانت ماغي أناستوس تجلس في ظل الأشجار في الباحة أمام تمثال المسيح، وهي تبلغ 80 سنة. يعيش جزء من السكان هناك منذ 20 سنة أو أكثر، وقد ظنوا أن آخر بضع سنوات من حياتهم ستكون هادئة.

على {الجبهة الباردة}

يقومون بما يمكن للتمسك بذلك الأمل. لكن ليس الأمر سهلاً. يقع المبنى، بباحته الداخلية المثالية حيث يلتقط يوهانس جميع الأوراق المبعثرة، على خط الجبهة. ثم تبدأ أرض النزاع وراءه مباشرةً. يقول جوزيف شدياق (75 عاماً) الذي درس اللاهوت لسنتين وينظم الآن قداديس مرتجلة كل يوم أحد ويهتم بطريحي الفراش من السكان: {لا أحد لديه شيء ضدنا. لكن حين صعدتُ إلى السطح في الشتاء لإصلاح خزان الماء، بدأ قناص من الجيش يطلق النار فوراً. فصرختُ وطلبت منه أن يتوقف. تحسن الوضع معه بعد ذلك، حتى إننا عرفنا اسمه بعد فترة: أبو جعفر}. لكن يشعر السكان الآن بالقلق لأن {أبو جعفر أصيب بطلق ناري ونحن لا نعرف القناص الجديد بعد}.

ربط يوهانس وجوزيف أول مقتول بعربة ودفعوها نحو خطوط المعركة، حيث كانت عائلته تقيم على الجانب الآخر من حلب، {لكن لم يعد ذلك ممكناً}. سيُدفَن أي شخص يموت الآن في حديقة الباحة الداخلية.

يقول جوزيف: {ثمة مساحة كافية هناك لنا جميعاً. لكننا نطلب رحمة الله وندعو أن يمنحنا بعض الوقت الإضافي}. يعيش أبناؤه، مثل معظم المسيحيين، في الجزء الغربي، بالقرب من الجبهة أيضاً. قُتل ابنه الأصغر فادي منذ شهرين من جراء قذيفة هاون أطلقها الثوار نفسهم الذين يجلبون من وقت إلى آخر الخبز والشاي لسكان دار {سانت إيلي}. يسأل جوزيف وهو ينظر إلى السماء: {ماذا يمكن أن أقول؟}.

نهض يوهانس لجمع بضعة أغصان وقعت على البلاط اللامع. وقع انفجار في مكان مجاور. لكن لم ينظر أحد إلى الأعلى. فتح جوزيف غرفة المعيشة وأشار إلى حفرة في السقف حيث وقعت قذيفة هاون في الشتاء: {كنا نجلس هناك قبل نصف ساعة. نحن نسخّن غرفة المعيشة في الشتاء حصراً. هناك نشرب القهوة بعد الظهر}.

يقول إن نجاتهم من القذيفة إشارة من الله. مثل معظم سكان هذه المدينة الذين ينجون بصعوبة من الاعتداءات، هو يرى عمل الله في الاختلافات الضئيلة التي تُقاس بالدقائق والأمتار وتسهم في إنقاذ حياته.

في فصل الصيف، يجلس جوزيف ويوهانس وماغي وشخصين آخرين ممن يستطيعون المشي في الباحة النظيفة كل مساء ويستمعون إلى الهتافات التي يطلقها الطرفان. يصرخ الثوار: {الله أكبر}. فيردّ الجنود: {بشار أكبر}. يبدو الخلاف لامتناهياً حول الطرف الأقوى: الله أو الرئيس بشار الأسد!

شرفة متضررة

أصبح المسنّون الخمسة يجيدون التعرف إلى لهجات المقاتلين من الطرف الآخر. يقول يوهانس: {منذ شهر، كنا نسمع أصوات عراقيين هناك}. تتابع ماغي: {نعم، لكنهم رحلوا الآن}. ثم يضيف جوزيف: {وثمة لبنانيون أيضاً}.

من غير الدقيق أن نقول إن القتال على حلب هدأ بعد مرور سنتين. مع ذلك، تراجع عدد المقاتلين على الجبهات. منذ بضعة أشهر، كان النظام لا يزال يتكل على أكثر من ألف مقاتل عراقي، إلى جانب مقاتلي {حزب الله} المتمرسين من لبنان، ومرتزقة من أفغانستان، لكن اختفى هذا التحالف الشيعي بشكل شبه كامل منذ ذلك الحين. عاد العراقيون إلى ديارهم الآن وقد بدأت {الدولة الإسلامية} تهدد بغداد، فيما أمر {حزب الله} جنوده بالتوجه إلى دمشق. في المعسكر الآخر، أرسل الثوار في شهر أغسطس آلاف المقاتلين من حلب إلى الشمال لوقف تقدم مقاتلي {الدولة الإسلامية}. هكذا تجمدت خطوط المواجهة ولم يتحرك أي طرف بعد ذلك. يسميها السكان المحليون {الجبهة الباردة}.

بعد التاسعة صباحاً من يوم الأربعاء، سُمع صوت دوارات تلاه انفجار، ما أدى إلى اهتزاز الجدار على بُعد مئات الأمتار. حملت رياح خفيفة سحابة عملاقة من الغبار في أنحاء السماء. في الشارع الفارغ، كانت امرأة تحمل كيسين بلاستيكيين وتمشي بهدوء في اتجاه الانفجار، حتى إنها لم تبطئ خطواتها.

الانفجار ليس بعيداً عن الموقع، مقابل شارع عكجول ثم نحو اليسار. معظم المباني مليئة بثقوب الرصاص وترفرف الستائر من النوافذ المكسورة. لا تزال المباني قائمة لكنها فارغة في معظمها. على إحدى الشرفات المتضررة، كان رجل يروي نباتاته. ثم نظر نحو الأسفل من دون التفوة بكلمة.

انتشرت طبقة خفيفة من الغبار في المنطقة. بعد دقائق على الانفجار، ذهب رجل مغطى بغبار أبيض لجلب بعض الماء وكان يغني بهدوء ويغسل دراجته النارية التي لم تتضرر على نحو مفاجئ. يقول الكهربائي محسن الذي انضم إلى الثوار: {سمعتُه!}. يعني صوت الصفير القصير الذي يسبق الانفجار. في الدقيقة الأخيرة، قفز نحو مدخل المبنى. كان محظوظاً لأن القنبلة هبطت في حفرة تشكلت من جراء قنبلة سابقة فخففت جزءاً من قوة الانفجار. توجه محسن نحو الركام ثم انعطف يميناً وراح يعدّ الجثث في الباحة المجاورة ونظر بأسف وقال: {مات ثلاثة}.

أهمية التيار

كان يتحدث عن الدجاج حين قال تلك الجملة. نجا عدد آخر من الانفجار. بعد دقائق، حين أنهى محسن تنظيف دراجته النارية، جلس مع رجال آخرين في القبو فيما كانوا يقسّمون نوبات الحراسة. يتمركز البعض في مواقع متشابكة مع المباني المقصوفة على الجبهة. يرتدي البعض الآخر سترات بأكمام طويلة رغم الحرّ ويحفرون الأنفاق. تُستعمل الأزاميل والمطارق والملاعق والقضبان الفولاذية لإزالة الصواريخ الكبيرة: يحفرون ببطء وبهدوء كي لا يكشف أحد أمرهم. هم يحفرون الأنفاق للتحايل على مراكز الجيش أو تفجيرها. كذلك يحفرون الأنفاق لمنع الطرف الآخر من حفر الأنفاق.

لا يعني ذلك أن الثوار كانوا يعاملون معالم حلب التاريخية بطريقة مختلفة عن جنود الأسد. لكنهم يحتاجون إلى فترة أطول لفعل ما يستطيع الجيش السوري فعله خلال دقائق. يقول القائد أبو عرب، صاحب متجر سابق: {في الأشهر الأربعة الأخيرة، فجرنا مبنىً واستولينا عليه ولم نفقد في المقابل أي موقع. تسيطر مروحيات الأسد على الجو لكننا نسيطر على البر}. سمّاه رجاله الشهيد الحي منذ أن رست رصاصة في عنقه وشظية فوق عينه.

يزداد توتر الميليشيات والقوات التي تحارب إلى جانب النظام فيما تصغي إلى الأصوات الآتية من الأسفل. ركّب الطرفان كاميرات قبل خطوط المواجهة، {لكن يستفيد رجال الأسد من التيار الكهربائي لساعتين أو ثلاثة فقط في اليوم}. يضيف أبو عرب: {لدينا 24 ساعة. الكاميرات لا تعمل من دون كهرباء. لا بد من تشغيل المولدات لهذا الغرض. لكنهم لن يسمعوا في هذه الحالة ما يدور من حولهم}.

يمكن الانتقام من التهجير المستمر في الجزء الشرقي من حلب، جزئياً على الأقل، عن طريق التيار الكهربائي. يبدأ أهم خط كهربائي للمدينة كلها من حماة جنوباً ويمرّ بشرق حلب في طريقه إلى الجزء الغربي. يعني ذلك أن الثوار يستطيعون قطع الكهرباء عن المنطقة الغربية بالكامل. لكن إذا فعلوا ذلك، فلا سبب يمنع النظام من قطع الكهرباء عن المدينة كلها.

يمكن أن يتبادل الطرفان الابتزاز، لذا نجحت الوساطات في التوصل إلى تسوية: يتلقى الطرفان النسبة نفسها تقريباً من الكهرباء. لكن يعيش 2.2 مليون نسمة في الجزء الغربي، وهو عدد أعلى بعشرة أضعاف من سكان الطرف الآخر، ما يعني أن نظام توزيع التيار الكهربائي مختلف جداً. يستفيد بعض الأحياء التي يسيطر عليها الثوار من الكهرباء على مدار الساعة منذ أن أصلح المهندسون العاملون في مجلس المدينة محطة التوزيع في بداية شهر سبتمبر.

«لم يحن وقتي بعد!»

في طريق العودة، كان الرجل المسن لا يزال ينظر نحو الأسفل من شرفته. كان صانع الورق رحمو حسين عبدالله (77 عاماً) آخر من غادر الشارع. ولا مشكلة بالنسبة إليه إذا بقي الوضع على حاله. يقول: {دعوني وشأني مع كتبي!}. يمكن أن تملأ مكتبته غرفة كاملة وهو يمضي أيامه في القراءة والاعتناء بالمبنى. لكن ألا يجدر به أن يعتني بنفسه وأن يهرب قبل أن ينفجر برميل متفجر؟

يجيب: {لا، ما النفع من ذلك؟ نزلت قذيفة هنا منذ ثلاثة أشهر، أمام المبنى مباشرةً}. هناك، حيث يقع المخبز. كان عشرات الناس ينتظرون في الصف حين ظهرت المروحية فوقهم. ربما لم يريدوا أن يخسروا مكانهم في الصف أو ربما لم تسنح لهم الفرصة أصلاً. لم يكن عبدالله ينتظر في الصف في ذلك اليوم. انغمس في قراءة كتاب ولم يكن جائعاً. استهدفت القنبلة شرفته وأحدثت حفرة في جدار غرفة المعيشة، وقد امتلأت تلك الحفرة الآن بالصخور. لكنه يصر على أن نجاته ليست وليدة الحظ: {لم يحن وقتي بعد}.

بعد وفاة آخر جيرانه، اشترى عصفوراً كي يتجنب الوحدة. يعلّمه الأغاني التي يشغّلها على مسجلة قديمة. تتعلق إحدى المفارقات في شرق حلب بوجود متاجر لبيع الحيوانات الأليفة حتى الآن هناك، مع أن غالبية المتاجر الأخرى أقفلت أبوابها أو اختفت بالكامل مع المباني التي كانت تشملها.

يمكن سماع صوت الرصاص في مكان مجاور، لكنّ عبدالله لا يتأثر. بل إنه يسرد القصص من كتبه في شأن سليمان والملك نمرود وإسحاق ويوسف. يتحدث عن عقلية الناس الذين يريدون أن يكونوا أسياد الحياة والموت، وعن عقوبات الله والبعوض الذي أرسله لقتل نمرود بسبب غطرسته. يقول عبدالله: {لا تهربوا من الموت}.

لم يرسل الله أي بعوض إلى حلب. بل إن جيش الأسد يرمي براميل متفجرة ثقيلة، لكن {لا أهمية لذلك} بحسب قوله: {لا تتعلق المشكلة بالقنابل بل بتوقيت الموت، وقد تحدد أصلاً}. هل هذا التفكير جنوني؟ أم أنها مجرد محاولة لجعل الجنون يبدو طبيعياً؟

قوة موحّدة

اجتمع حافرو الأنفاق الأقوياء والمتقاعدون الذين تعبوا من العالم في شرق حلب، وهما جماعتان مختلفتان: الفئة الأولى تظن أنها تستطيع التحكم بمصيرها بأي ثمن، والفئة الثانية تظن أن أحداً لا يتخذ القرارات أصلاً. أصبحوا جميعاً رفاقاً في الجحيم. قد تكون أجوبتهم مختلفة حول سبب بقائهم هناك لكنهم يلازمون مكانهم، ما يجعلهم قوة موحدة.

نادراً ما يعبّر أحد عن عداوته تجاه النصف الآخر من المدينة. يقول قائد الثوار أبو عرب إنه ورجاله يحاربون النظام {ولا يحاربون الناس هناك}. لكنّ هذا الأمر لا يمنع الثوار طبعاً من إطلاق القذائف وقنابل الغاز المليئة بالمتفجرات نحو الجزء الآخر من المدينة. يبقى نطاق عملياتهم قصيراً لكنه يقتل عشوائياً.

لدى الجميع معارف أو أقارب على الجهة الأخرى من المنطقة. وثمة وكالات سفر حتى الآن في صلاح الدين، على الجبهة مباشرةً، وهي توفر رحلات بالحافلة {من حلب إلى حلب}. تتطلب الرحلة التي تمتد على 600 متر 12 ساعة فيما تشق الحافلة طريقها مروراً بجزء كبير من شمال سورية. وحدهم الأشخاص الذين لم تَرِد أسماؤهم على لوائح المطلوبين من أجهزة الاستخبارات النافذة والتابعة للأسد يجرؤون على القيام بالرحلة. مع ذلك، يرتفع الطلب على المقاعد.

قام شخص بهذه الرحلة منذ بضعة أسابيع وراح يعدّ الحواجز التي شاهدها: بلغ عددها 46. {لم يكن الثوار يهتمون بمكان جلوسنا في الحافلة، لكن سرعان ما نشأت خلافة {داعش}. فُرض على جميع النساء ارتداء النقاب والجلوس في الخلف، بينما طُلب من الرجال أن يجلسوا في المقاعد الأمامية. كل امرأة ملزَمة بمرافقة زوج أو أب أو شقيق في الحافلة وإلا لا يُسمح لها بالسفر مطلقاً}! لحل هذه المشكلة، اخترع سائق الحافلة ثنائيات متزوجة خيالية فوزع الأدوار بنفسه.

ثم نشأت المنطقة التي تسيطر عليها قوات النظام: {يجب أن يتحرك الجميع مجدداً، ويمكن أن يجلس الرجال والنساء معاً، من دون حجاب، ومن الأفضل أن يحمل الجميع زجاجة فودكا}. يصعب أن يقرر شخص يعيش في منطقة تحاول القوات تدميرها التوجه إلى هناك ثم العودة إلى هذا الجحيم. لكن يمكن أن يحصل ذلك.

يوم الجمعة، اجتمع العمال المياومون القادمون من حي الحيدرية المهجور في المستديرة الوحيدة في المنطقة، كما يفعلون في كل صباح. كل من يحتاج في حلب إلى حرفيين أو عاملين لبضع ساعات يحضر إلى هذا الموقع. إنه المكان الوحيد في الحيدرية حيث يتابع الناس التجمع. في مواقع أخرى، تبدو الشوارع خالية والمساجد متروكة، حتى في أيام الجمعة. في الساعة الثامنة من ذلك الصباح، تجمع حوالى 15 رجلاً وانتظروا على المستديرة فيما جلس سائقون في شاحناتهم الصغيرة على جانب الطريق بعد إطفاء محركاتها. قال أحد الناجين لاحقاً إنهم لم يسمعوا شيئاً. وتمتم مقاتل بائس من الحي أنه لطالما حذر الرجال من التجمع في الوقت نفسه من كل يوم. واعترف أحد المصابين بأنه كان يشعر بخوف دائم طبعاً لكنه مضطر إلى إعالة عائلته.

في الساعة الثامنة وثلاث دقائق صباحاً، دمر برميل متفجر ثلاثة مبانٍ والشاحنات الصغيرة ومزق 11 شخصاً من أولئك الرجال. حين وصل المسعفون إلى الساحة، وجدوا أشلاء الجثث على سقوف المباني المدمرة. ماتت الضحية الثانية عشرة في المستشفى. طلب منا الأطباء عدم ذكر اسم المستشفى وموقعه {وإلا سيقصفوننا في مناسبات إضافية}.

كان محسن الشخص الوحيد الذي نجا من أصل 16 آخرين في نهاية الأسبوع: إنه الكهربائي الذي كان يغني أثناء غسل دراجته النارية.

يقبع ثلاثة مصابين من الحيدرية في المستشفى. بتر الأطباء ساق أحدهم، وراح الثاني يتأوه بهدوء، ولفّ الثالث ضمادة في مكان يده سابقاً وراح يسأل باستمرار: {أين أنا؟}. يكرر هذه العبارة بلا توقف، فيسأل بكل يأس: {أين أنا؟}.

back to top