الإنترنت... هل قتل قراءة الورق؟

نشر في 22-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-09-2014 | 00:01
هل قتل الإنترنت التفاعل الطويل والعميق مع نص ما أم أننا نتوق إلى جنة مطالعة لم تكن موجودة يوماً؟

ينتشر عدم الأمان في كل مكان، حتى إن كثيراً من الزملاء يخبرونني أنهم يعانون هذه الحالة ({خبت قدرتي على التركيز والاستيعاب}). ويعزز العلم هذه الشكوك الذاتية أو يقوي، على الأقل، الإحساس بحدوث تبدل كبير. فتشير مجموعة كبيرة من الدراسات إلى أن الناس يقرأون ما يُنشر على الإنترنت بطريقة مختلفة تماماً عن المنشورات المطبوعة.

صار من الشائع خلال المحادثات بين الشباب في العقد الثالث من العمر أن تسمع، إذا تكلمت طويلاً عن الكتب أو المقالات أو العبارات المنمقة، أحداً يسارع إلى القول متشكياً: {ما عدت أستطيع القراءة}. ويوضح أن شبكة الإنترنت قصّرت مدى انتباهه. ويروح يخبرك أنه عندما كان صغيراً، كان يغرق طوال ساعات في مطالعة رواية. لكنه اليوم ما عاد يقوم بذلك، مكتفياً بقراءة تغريدات تتسابق كسمك لامع في نهر من وقت لن يسترجعه مطلقاً. ولا شك في أنك ستشعر بالاستياء مما يبدو تواضعاً مصطنعاً: {كنت موهوباً وما زلت مثقفاً في صميمي} أو {أشعر أنني مكبوت بسبب مشاركتي الناشطة في الحوار الثقافي}. إلا أنك تدرك فجأة، بمرارة، أنك أنت أيضاً واقع في معضلة مماثلة. نتيجة لذلك، تفكر حين تطغى عليك ذكريات مبتكرة عن فترات بعد ظهر أمضيتها تحت شجرة مع روبرتسون ديفيس: {نعم، ماذا حدث لي؟ كيف أقاوم هذا الميل؟ أين تبخر تركيزي؟}.

يُعتبر هذا عدم أمان في مجال المطالعة. ويشكل عدم الأمان تجربة شخصية تظن خلالها أنك لا تطالع بالقدر الكافي. تقوم المعضلة على تخصيص ساعة لذلك الكتاب الجديد عن هستيريا جماعية في مدرسة ثانوية، إلا أنك تمضيها بدلاً من ذلك على موقع {فيسبوك}. كذلك يستند عدم الأمان إلى الإدراك أنك قد طردت من الجنة، إذا أصابت فيرجينيا وولف باعتبار الجنة {عملية مطالعة مستمرة لا تنفد}.

نقرأ، بشكل سريع وعام، المعلومات التي نريد، بدل أن نبدأ من البداية ونناضل لنبلغ النهاية. على العكس، تتنقل أعيننا بسرعة، مركزة على الوصلات (التي توحي بالقوة والأهمية) والأسطر الصغيرة المتموضعة في مساحة بيضاء. قد نقرأ المعلومات تدريجاً إذا اضطررنا إلى ذلك. لكننا نقرأ عادةً بسرعة أكبر. تكتب عالِمتا النفس فال هوبر وشانا هيراث: «يميل الناس إلى تفادي القراءة بالمفهوم التقليدي على شبكة الإنترنت، بل يطلعون عليها بشكل سريع، منتقلين من مصدر إلى آخر ومحاولين استيعاب المعلومات بسرعة».

لا يقتصر ذلك على أسلوب القراءة الذي يتبدل عندما تحل البكسلات محل الحبر. فبهذه الطريقة نعيش المحتوى، نندمج فيه، ونتذكره. تصف ماريا كونيكوفا، في مراجعة قامت بها عن أساليب القراءة عبر شبكة الإنترنت والمنشورات المطبوعة، دراسة أعدتها العالمة النرويجية آن مانجن التي سألت عدداً من الطلاب مطالعة رواية قصيرة إما على جهاز Kindle أو كتاب مطبوع.

صحيح أن النصين متشبهان من حيث الشكل (تشير كونيكوفا: {يشبه حبر Kindle الإلكتروني الصفحة المطبوعة})، إلا أن الطلاب الذين طالعوا الكتاب المطبوع كانوا أكثر قدرة على إعادة بناء حبكة القصة. على نحو مماثل، عندما طُلب من متطوعين كتابة مقال عن رواية طالعوها إما على الورق أو عبر الإنترنت، نجح مَن حصلوا على الكتب المطبوعة في تدوين ردود أفضل بكثير.

إذاً، قد نكون محقين في شأن قلقنا حيال القراءة عبر شبكة الإنترنت. لربما نشعر أننا نعتمد على عوامل حسية لنتمكن من استيعاب حجج معقدة، وأننا نتمتع بعدد أكبر من هذه العوامل عندما نطالع الكتب، مقارنةً بجلوسنا أمام شاشة تومض باستمرار. فعبر شاشة الإنترنت، يبدو التدفق غير المضبوط من البكسلات، الأفكار بحد ذاتها تبدو خفيفة وسريعة الزوال. فهل يحدّ هذا من قدرة الأفكار السريعة والهشّة على الانغراس في ذاكرتنا؟

صعوبة في التركيز

اعتُبر مفهوم أن اللغة قد تكتسب بعض الخصائص العابرة أو الدائمة من وسيطها نقطة مهمة في القرون الوسطى، فيما بدأت السجلات المكتوبة تحل محل التقاليد المحكية. فيربط تشوسر التعبير الشفوي بالاضطرابات والخداع: ففي قصيدة تحوّلت إلى نوع من التحذير في شأن الإشاعات، يربط زوال الحب بصوت الحبيب الذي سرعان ما يختفي بعد إقراره بحبه هذا (تتساءل إحدى الشخصيات، مثلاً: لمَ يكذب الرجال كثيراً حين يؤكدون معتقداتهم بصوت عالٍ؟). حتى في مرحلة أبكر، يحض الشاعر الروماني كاتولوس بسخرية النساء على كتابة وعودهن على الريح والماء الجاري، لأنهما وسيطان يتلاءمان مع تقلب كلماتهن.

علاوة على ذلك، على صعيد أقل شاعرية، يصبح التركيز أصعب خلال القراءة عبر الإنترنت. فالبريد الإلكتروني، مواقع التواصل الاجتماعي، وفيض وافر من المحتوى المغري اللامتناهي تقبع على بعد نقرة. فعندما تنقر على صفحة، تظهر الإعلانات والوصلات الفائقة فجأة. توضح هوبر وهيراث، في تقرير أعدتاه عام 2014، أن قدرة الناس على الاستيعاب تتعثر عندما يقرأون على شبكة الإنترنت لأن وفرة من المحفزات غير الملائمة تعرقل نقل المعلومات من الحواس إلى الذاكرة الناشطة ومن هذه إلى الذاكرة الطويلة الأمد. نتيجة لذلك، يتوقع الخبراء انقراض {دماغ المطالعة العميقة}، إذا لم نتعلم كبح عناصر التلهية على شبكة الإنترنت.

أعتبر أن مجاراة كل هذا الحديث عن ضعف انتباهنا ما هي إلا قناع نخفي وراءه شعورنا باللوم والخجل: هذا خطأنا! يمكنك أن تجلس وتقوم بذلك إن أردت. تستطيع أن تستمتع بالأمور على شبكة الإنترنت. ألم تمضِ ساعات ليلة أمس في مشاهدة سلسلة High Maintenance؟ رغم ذلك، بدّل فيض المعلومات المتوافرة على شبكة الإنترنت الفترة التي صرتُ مستعداً لأخصصها لقصة ما. ولست وحيداً في ذلك: يتحدث الناس عن ضيق صبرهم عندما يقرأون المعلومات عبر كمبيوتراتهم. ففي المطالعة كما في أي مسألة أخرى، يتملكنا الخوف من أن نضيع الفرص ونبحث باستمرار عن الجديد. كتب ديفيد كار في صحيفة نيويورك تايمز: «نشبه إسفنجة ونعيش في عالم تظل فيه مياه خراطيم إطفاء النار متدفقة باستمرار». ويوضح جاكوب نيلسن، الذي يدرس آليات استعمال الإنترنت، هذه المسألة بصراحة أكبر، قائلاً: «المستخدمون كسالى، أنانيون، وقساة».

إذاً، قد يكون الحل أن نطفئ الكمبيوتر المحمول ونقرأ المزيد من الكتب. لكننا نشعر أحياناً أننا نشبه ماري تيفوئيد لأننا ننقل عاداتنا السقيمة في التعاطي مع شبكة الإنترنت إلى مطالعتنا الكتب المطبوعة. فقد أخبرتني زميلة لي في مثل سني تقريباً أنها ترى الكتب اليوم وكأنها أجهزة لوحية: تطالعها بسرعة ومن دون تركيز، ما يُرغمها أحياناً على العودة مجدداً إلى البداية والسير ببطء. أشعر أنني أنانية، كسولة، وقاسية، حتى عندما أستمتع ببعد ظهر يوم مشمس ورواية دسمة. لذلك أتساءل أحياناً عما إذا كان الباب قد أُقفل بالكامل.

تلهٍ مرضي

رغم ذلك، تعطي شبكة الإنترنت بقدر ما تأخذ. اللافت أننا صرنا جميعنا نقرأ أكثر، سواء كنا نشعر بعدم الأمان أو لا. فبفضل هذه الشبكة، نرى الكلمة أينما نظرنا. فأجهزة القراءة الإلكترونية خفيفة الوزن، رقيقة، وقليلة الكلفة نسبياً. كذلك تعني وتيرة مطالعتنا السريعة أننا نستطيع الاطلاع على معلومات أوسع. بالإضافة إلى ذلك، تحمل تجربة القراءة على الإنترنت ميزات مذهلة، منها كلمات أساسية يمكننا البحث عنها، أشرطة الأدوات، والقدرة على التفتيش عن مطلق أمر. نتيجة لذلك، أصبحنا كلنا نقرأ أكثر.

علاوة على ذلك، أدركت وأنا أعد هذا الإقرار عن التلهيّ المَرَضي أنني ربما أتوق إلى جنة من التركيز المطلق ما كانت يوماً قائمةً. هل أمضيت يوماً ست ساعات وأنا أطالع كتاب؟ هل كانت مخيلتي حقاً بعيدة إلى هذا الحد عن مشاكل الحياة اليومية؟ وإذا صح ذلك، أفليس سبب ذلك مرحلة الطفولة، لا التكنولوجيا وما تحمله؟ فعندما كنت في الثانية عشرة من عمري، ما كنت أضبط غوغل ليحذرني وينبهني للتخلي عن مطالعة «بروكلين» لفرانسي وكتابة شيك لزميلتي في السكن كي تسدد الإيجار. كذلك ما كان يُفترض بي حينذاك أن أهتم بما يجري في سورية.

رغم ذلك، لا نستطيع التخلص من عدم الرضا هذا. فقد اكتشف فيكتور نيل في دراسته عن المطالعة للمتعة والترفيه (1988) أننا نقرأ بوتيرة أبطأ عندما يعجبنا النص. فتدخل دماغنا حالة من اليقظة تشبه التنويم المغناطيسي. فنعيش حالة من النشوة والانتقال، ما يعلل على الأرجح لمَ كان البالغون، قبل 30 سنة، يفضلون مطالعة روايات دارسي ودراكولا في كتاب بعيداً عن الإنترنت حيث يميلون عادةً إلى القراءة بسرعة، التنقل من معلومة إلى أخرى، والشعور عموماً بالملل.

في دراسة حديثة شملت بضع مئات من الرجال والنساء ممن تخطوا سن الثامنة عشرة، ذكر معظم المشاركين أنهم يستمتعون بمطالعة الكتب المطبوعة أكثر من الكتب الإلكترونية، مع أنهم يشعرون بالرضا من الحصول على المعلومات من كلا الوسيطين. يوضح الباحثون أن المطالعة للمتعة تتطلب التزاماً أعمق بالنص، التزاماً يصبح أسهل مع الانتباه المستدام والبسيط (والقدرة على تدوين الملاحظات) الذي يقدمه الكتاب المطبوع.

لا ينطبق هذا على الجميع. فلا يفضل 52% ممن تربوا على التعاطي مع شاشات الإنترنت الكتاب المطبوع فحسب، بل يبدو أن فهمهم وقدرتهم على التذكر لا يتبدلان مع تبدل تقنية القراءة التي يستخدمونها. فقد نجحوا، على ما يظهر، في اكتساب القدرة على التركيز ومهارة ضبط النفس في عصر غوغل. نتيجة لذلك، يستمتعون حقاً بالمطالعة على شبكة الإنترنت، متخلصين من كل شعور بالخجل أو عدم الأمان. وتشير راحتهم وسهولتهم في استخدام الإنترنت إلى أن عدم الأمان في مجال القراءة لا يرتبط بالتكنولوجيا بحد ذاتها بقدر ارتباطه بوضع بعض الأجيال التي أتت بعد جيل ما بعد طفرة الولادة وقبل جيل ما بعد الألفية الجديدة. فقد ظلت هذه الأجيال منقسمة بين العالم المطبوع والعالم الرقمي، ما جعلها تقصر عن الانغماس تماماً في أحدهما.

انعكاسات مختلفة

أين يضعنا هذا نحن الذين بلغنا عقدنا الثالث أو الرابع مع كل عقدنا؟ من المؤكد أنني لا أريد الاستغناء عن شبكة الإنترنت. فلست غبية لأشكك في الخير الكبير الذي تقدمه لنا، مع أنني أحدق أحياناً بشاشة الكمبيوتر وأشعر أنني أشبه ببعوضة صغيرة حطت بإغراء فوق دفق من المعرفة التي لا يمكن استيعابها. من المشجع، أيضاً، أن الأولاد الذين تربوا في بيئة غنية رقمياً يتقنون التعايش معها. فضلاً عن ذلك، دفع هذا التقدم كثيرين إلى معاودة المطالعة. كذلك من المضني التصدي للتكنولوجيا، ومن المفرح الاستمتاع بثمار عصرنا الكلامي المذهل. لا شك في أن لمنصات المطالعة على شبكة الإنترنت أيضاً انعكاسات اجتماعية، اقتصادية، سياسية، وجمالية لم أبدأ بعد في التفكير فيها. كذلك تبدو حسابات الكلفة والفوائد بالغة التعقيد وواسعة. أما الإبداع فكبير، والتفاعل فمميز. رغم ذلك، أشعر بالقلق. فخلال السنوات القليلة الماضية التي أمضيت فيها الجزء الأكبر من حياتي على شبكة الإنترنت، أظن أن علاقتي بالنص، وخصوصاً تلك النصوص الشاسعة التي أضيع فيها، قد تبدلت نحو الأسوأ. يُدعى هذا عدم الأمان في عالم المطالعة. فهل تشعر به؟

back to top