خداع الموت عبر {الإنعاش المعلّق}!

نشر في 22-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-09-2014 | 00:01
بفضل عملية جذرية تشمل استبدال دم المريض بماء مالحة وباردة، قد يعود الناس من حافة الموت بحسب ديفيد روبسون.يقول بيتر ري من جامعة أريزونا، توسون: {حين تصبح حرارة جسمك 10 درجات مئوية، من دون نشاط دماغي أو ضربات قلب أو دم، يتفق الجميع على أنك ميت. لكن يمكن إرجاعك إلى الحياة}.

لا يبالغ ري في ما يقوله، فقد أثبت مع سامويل تيشرمان من جامعة ميريلاند، كوليدج بارك، إمكان إبقاء الأجسام في حالة {إنعاش مُعلّق} طوال ساعات في مرحلة معينة. هذا الإجراء الذي خضع للاختبار على الحيوانات يبدو جذرياً بقدر أي جراحة طبية أخرى: يشمل تصفية الجسم من دمه وتبريده على مستوى أقل بعشرين درجة من حرارة الجسم الطبيعية.

بعد معالجة الإصابة، يتم ضخ الدم مجدداً عبر الأوردة فيسخن الجسم بوتيرة بطيئة. يقول ري: {عند ضخ الدم، يصبح الجسم زهري اللون فوراً}. على حرارة معينة، يستعيد القلب حركته من تلقاء نفسه: {إنه أمر مثير للفضول. على حرارة 30 درجة مئوية، يخفق القلب مرة بشكل مفاجئ ثم يخفق مجدداً. ومع ارتفاع الحرارة، يستعيد إيقاعه تلقائياً}. المدهش أن الحيوانات في تجاربها لم تواجه آثاراً ضارة كثيرة حين استيقظت. يقول تيشرمان: {تبدو مترنحة لفترة قصيرة لكنها تستعيد وضعها الطبيعي في اليوم التالي}.

ظهر تيشرمان في عناوين الأخبار حول العالم في وقت سابق من هذه السنة، حين أعلن أنهم مستعدون لبدء تجارب بشرية لاختبار هذه التقنية على ضحايا إطلاق النار في بيتسبرغ، بنسلفانيا. يجب أن يكون المرضى قد أصيبوا بجروح بالغة لدرجة أن قلوبهم توقفت عن الخفقان، ما يعني أن هذه التجربة هي آخر أمل لديهم. شرحت قناة {سي إن إن} العملية على النحو الآتي: {خداع الموت عبر {الإنعاش المعلّق}!}. وكتبت صحيفة {نيويورك تايمز}: {قتل المريض لإنقاذ حياته!}.

تحفيز فاعل

هاجمت التغطية الإخبارية أحياناً حساسية تيشرمان الحذرة. خلال محادثتنا، بدا رجلاً عميقاً ومتزناً وكان يحرص على عدم المبالغة في تسويق منافع بحثه. يشعر بالقلق تحديداً من استعمال عبارة {الإنعاش المعلّق}: {لا تتعلق المشكلة بعدم دقة المصطلح، لكن حين يسمع الناس هذه العبارة، سيفكرون برواد الفضاء الذين يتجمدون ويستيقظون على كوكب المشتري أو بشخصية {هان سولو} في سلسلة {حرب النجوم}. هذه الظاهرة غير مفيدة، إذ يجب أن يعرف الرأي العام أن هذا الابتكار لا يدخل في خانة الخيال العلمي، بل إنه يرتكز على التجارب ويخضع للدراسة بطريقة منضبطة قبل استعماله لمنع الناس من الموت}. كان ري قد جذب انتباه العالم بعد معالجة عضوة الكونغرس غابرييل غيفوردز التي تعرضت لإطلاق النار في عام 2011، وهو بدا أكثر جرأة في تصريحاته. هو يقول إنه لا يستبعد استعمال الإنعاش المعلّق لفترة أطول في المستقبل البعيد: {ما نفعله هو بدء جزء من تلك التجربة}.

بدأت مساعي تيشرمان لإعادة الناس من حافة الموت في كلية الطب حيث درس تحت إشراف بيتر سافار. إنها سلالة مُلهِمة: خلال الستينات، كان سافار رائداً في تقنية الإنعاش القلبي الرئوي التي أصبحت مألوفة الآن وتقضي بالضغط على تجويف الصدر ومحاولة تدليك القلب وإعادته إلى الحياة.

بدأ عمل سافار يغير مفاهيمنا عن الموت (مرحلة مبهمة تعني نهاية حياتنا). يقول سام بارنيا من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك: {نشأنا جميعاً ونحن نعتبر الموت لحظة حتمية: حين نموت، لا يمكن أن نعود. كان هذا المفهوم صحيحاً، لكن مع اكتشاف تقنية الإنعاش القلبي الرئوي، صرنا نفهم أن الخلايا داخل الجسم لا {تموت} نهائياً بعد ساعات من {الموت}... حتى بعد أن تصبح جثة، يمكن إعادتك إلى الحياة}.

خط مبهم

يظن تيشرمان الآن أن الموت هو المرحلة التي تجعل الأطباء يوقفون عملية الإنعاش بعد فقدان الأمل. لكن حتى في تلك المرحلة، يمكن أن يعود بعض الناس إلى الحياة. في شهر ديسمبر الماضي، سببت مقالة نُشرت في مجلة {الإنعاش} ضجة كبيرة حين ذكرت أن 50% من أطباء الطوارئ الذين شاركوا في الاستطلاع كانوا شهوداً على {ظاهرة لعازر}، بمعنى أن قلب المريض يبدأ بالخفقان مجدداً من تلقاء نفسه بعد أن يفقد الأطباء الأمل.

نصف المعركة

لكنّ إعادة تنشيط القلب هي نصف المعركة التي يخوضها الطبيب. قد تسبب قلة الأوكسجين بعد توقف القلب ضرراً حاداً في أعضاء الجسم الحيوية، لا سيما الدماغ. يوضح تيشرمان: {تبدأ الأعضاء بالموت مع كل دقيقة من دون أوكسجين}. ابتكر معلّمه السابق، سافار، حلاً لهذه المشكلة أيضاً، وذلك عبر {تخفيض حرارة الجسم العلاجي»، وهو إجراء يشمل تبريد الجسم، حتى معدل 33 درجة مئوية، من خلال وضع كمادات ثلج حول الجسم مثلاً. على حرارة متدنية، تبدأ الخلايا بالعمل بوتيرة بطيئة، فتتراجع عملية الأيض وتتقلص الأضرار التي يمكن أن يسببها الحرمان من الأوكسجين.

بالإضافة إلى الآلات التي تستطيع السيطرة على الدورة الدموية وضخ الأكسجين في مجرى الدم تزامناً مع إعادة إنعاش القلب، سمح هذا الإجراء بترك فسحة بين توقف القلب وموت الدماغ. ذكر مستشفى في تكساس حديثاً أن رجلاً عمره 40 سنة نجا من الموت من دون أن يتضرر عقله، بعد ثلاث ساعات ونصف من الإنعاش القلبي الرئوي. شمل علاجه تناوباً مستمراً لطلاب الطب والممرضات والأطباء لأداء حركات الضغط على الصدر. قال سكوت تايلور باسيت الذي كان أحد الأطباء المشاركين: {طُلب من جميع الحاضرين في الغرفة المشاركة}. لكن تبقى هذه الحالات نادرة: يشير باسيت إلى أنهم تشجعوا على المتابعة لأن المريض استعاد وعيه خلال الإنعاش القلبي الرئوي، مع أن قلبه لم يكن يعمل بعد. أضاف باسيت: {خلال حركات الضغط على الصدر، كان يكلمنا ويثبت لنا أنه سليم من الناحية العصبية. لم يسبق أن شاهدتُ حالة مماثلة من قبل ولم تتكرر تلك الحالة منذ ذلك الحين. كانت تلك اللحظة حاسمة في عملية اتخاذ القرار}.

كسب الوقت

لا يزال هذا الإنعاش المطول مستحيلاً اليوم بالنسبة إلى الأشخاص الذين يترافق توقف قلبهم مع إصابة ناجمة عن صدمة، مثل إصابات إطلاق النار أو حوادث السير. في الوقت الراهن، يقضي أفضل خيار أمام الجراح بتضييق الشرايين المتصلة بالجزء السفلي من الجسم قبل فتح الصدر وتدليك القلب، ما يؤدي إلى دفع جزء من تدفق الدم إلى الدماغ فيما يحاول الجراحون تقطيب الجروح. لكن يبقى معدل النجاة أقل من واحد من عشرة للأسف.

لهذا السبب، يريد تيشرمان أن يخفّض حرارة الجسم إلى 10 أو 15 درجة مئوية، ما قد يعطي الأطباء مدة ساعتين أو أكثر لاستكمال الجراحة. يُطبَّق هذا المستوى الحاد من تخفيض حرارة الجسم أحياناً خلال جراحة القلب، لكن سيكون مشروع تيشرمان الأول الذي يُستعمل لإعادة إحياء شخص سبق و}مات} قبل دخول المستشفى. أكثر ما يثير الدهشة على الأرجح هو أن الفريق الطبي يصفي الدم من الجسم ويستبدله بمحلول ملحي بارد. وبما أن عملية الأيض في الجسم تتوقف، لا يُطلَب من الدم أن يبقي الخلايا حية، بل يُعتبر المحلول الملحي أسرع طريقة لتبريد المريض كما يوضح تيشرمان.

إجراء آمن

أمضى تيشرمان عقدين مع ري وغيره لتوفير مجموعة قوية من الأدلة وإثبات أن هذا الإجراء آمن وفاعل. شملت تجارب كثيرة خنازير مصابة بجروح شبه مميتة. في منتصف العملية، كان مؤكداً أن الحيوانات تفتقر إلى أدنى مظاهر الحياة. يقول ري: «كان الخنزير أبيض ما يكون. كان مجرد قطعة لحم شاحبة جداً ومبرّدة». لكن حين بردت الحيوانات بسرعة كافية (حوالى درجتين في الدقيقة)، تعافى نحو 90% منها عند إعادة ضخ الدم في أجسام الحيوانات بعد جمود تام لأكثر من ساعة. يقول ري: «أجمل أمر يمكن أن نشاهده هو أن يتجدد خفقان القلب».

حين عادت الحيوانات إلى نشاطاتها العادية، أجرى الفريق بعض الاختبارات للتحقق من عدم تضرر أدمغتها. قبل العملية مثلاً، درَّب الباحثون بعض الخنازير على فتح وعاء بلون معين بعد إخفاء تفاحة في داخله. بعد إعادة إنعاش الحيوانات، تذكّر معظمها أين يمكن إيجاد المكافأة. في المقابل، تعلَّمت الخنازير الأخرى التي لم تتدرب قبل العملية التمرين بعد التعافي بفترة قصيرة. فنجحت في التعلم سريعاً بقدر الآخرين، ما يشير مجدداً إلى عدم وجود أي أثر سلبي على الذاكرة.

لا شك في أن الحصول على الموافقة لإجراء تجارب بشرية يطرح بعض الصعوبة. في وقت سابق من هذه السنة، حصل تيشرمان أخيراً على الإذن لإطلاق تجربة أولية في بيتسبرغ لمعالجة المرضى المصابين بجروح من جراء حوادث إطلاق النار. استقبل المستشفى مريضاً أو اثنين من هذا النوع في الشهر منذ بدء التجربة، ما يعني أن عدداً منهم سبق وتعالج بهذه التقنية منذ انطلاق التجربة، مع أن الوقت لا يزال مبكراً كي يتحدث تيشرمان عن النتائج. كذلك، أعدّ الأخير تجربة في بالتيمور، ميريلاند، وإذا سارت الأمور كما يجب، سيتمكن ري لاحقاً من بدء العمل في مركز الصدمات في توسون.

تحديات

كما يحصل في جميع الأبحاث الطبية، سيبرز بعض التحديات خلال المرحلة الانتقالية من تجارب الحيوانات إلى التجارب البشرية. تلقت الحيوانات دمها الخاص في نهاية العملية مثلاً، بينما سيحتاج المرضى في هذه التجربة إلى نقل الدم من العينات المحفوظة في بنوك الدم منذ أسابيع. على صعيد آخر، كانت الحيوانات تحت التخدير في وقت الجراحة، لكن لن يحصل الأمر نفسه مع المرضى البشريين، ما قد يغير طريقة تفاعل الجسم مع الإصابة. لكن يبقى تيشرمان متفائلاً: {نظن عموماً أن الكلاب والخنازير تتفاعل مع النزيف بطريقة مشابهة للبشر}.

يراقب أطباء آخرون المشروع باهتمام. يقول بارنيا: {مشروع شجاع جداً. لحماية الدماغ، يشعر عدد كبير منا بضرورة تبريد الجسم أكثر مما نفعل في الحالات التقليدية. لكن يخشى الناس القيام بذلك}.

إذا حصلت التجارب وفق الخطة المقترحة، ينوي تيشرمان توسيع المقاربة لمعالجة أنواع أخرى من الصدمات. اختير ضحايا إطلاق النار للمشاركة في التجربة الأولية نظراً إلى سهولة تحديد مصدر فقدان الدم، لكنه يأمل في النهاية أن يتمكن من معالجة النزيف الداخلي الناجم عن حوادث السير مثلاً. حتى إنّ هذه الطريقة قد تُستعمل يوماً لمعالجة المصابين بنوبات قلبية وأنواع أخرى من الأمراض.

قد يمهد نجاح التجربة أيضاً لإجراء تحقيقات عن أشكال أخرى من الإنعاش المعلّق. يسعى بعض العلماء إلى معرفة ما إذا كان خليط من الأدوية المضافة إلى المحلول الملحي الذي يتم ضخه في الجسم سيخفف عملية الأيض في الجسم ويمنع الإصابة. كان كبريتيد الهيدروجين (المادة الكيماوية التي تعطي البيض الفاسد رائحته) من العناصر المرشّحة الواعدة، لكن رغم اكتشاف أنه يخفّض عملية الأيض عند بعض الحيوانات، تقل الأدلة على أنه يحسّن فرص النجاة بعد توقف القلب. بل يظن تيشرمان أنه من الأفضل إيجاد بعض مضادات الأكسدة القوية التي تستطيع امتصاص المواد الكيماوية الضارة التي تسبب الإصابة.

بالنسبة إلى ري، تبدو الحاجة إلى تحسين العلاج عاجلة. تحدث عن مصير المريض الذي شاهده في المستشفى قبل يوم من حديثنا: {تعرّض لإطلاق النار في منطقة الشرسوف، تحت الصدر مباشرةً، في وسط البطن». بذل الفريق الطبي في المستشفى كل ما بوسعه لكنه مات: «إنها فئة المرضى التي نأمل معالجتها إذا تمكنا من العمل بطريقة أقل تسرعاً».

هذه المقالة هي جزء من سلسلة {العودة إلى الحياة}.

back to top