العزلة... عقلنا أوّل الضحايا!

نشر في 20-09-2014 | 00:02
آخر تحديث 20-09-2014 | 00:02
حين ينعزل الناس عن التواصل البشري، قد يقوم عقلهم ببعض الأمور الغريبة فعلاً بحسب قول مايكل بوند. لماذا يحصل ذلك؟

بدأ عقل سارة شورد يضطرب بعد شهرين تقريباً من احتجازها. كانت تسمع صوت خطوات وهمية وتشاهد أضواء ساطعة وتمضي معظم يومها رابضة على يديها وقدميها وهي تصغي عبر ثقب في الباب.

في ذلك الصيف، كانت هذه المرأة البالغة من العمر 32 عاماً تمشي مسافات طويلة مع صديقَين لها في جبال كردستان العراق فاعتقلتها القوات الإيرانية بعد تجاوز الحدود مع إيران. اتُّهم هؤلاء الأشخاص بالتجسس ووُضعوا في الحبس الانفرادي في سجن {إيفين} في طهران، وقبع كل واحد منهم في زنزانته الصغيرة الخاصة. تحمّلت شورد نحو  10 آلاف ساعة من دون تواصل بشري فعلي قبل إطلاق سراحها. كانت الهلوسات من أسوأ الآثار التي واجهتها.

كتبت في صحيفة {نيويورك تايمز} في عام 2011: {بدأتُ أشاهد أضواء ساطعة في محيط الرؤية لدي، لكن سرعان ما كنت أحرك رأسي وأدرك عدم وجود شيء من هذا القبيل. في مرحلة معينة، سمعت شخصاً يصرخ ولكني لم أدرك أن تلك الصرخات كانت صرخاتي إلا حين شعرتُ بيدَي أحد الحراس اللطفاء على وجهي وهو يحاول إيقاظي}.

نريد جميعاً أن نبقى وحدنا من وقت لآخر وأن نتجنب طلبات زملائنا أو مضايقة الحشود. لكننا لا نريد طبعاً أن نبقى وحدنا دوماً. بالنسبة إلى معظم الناس، تكون العزلة الاجتماعية المطولة مضرّة، لا سيما على المستوى العقلي. نحن نعلم ذلك استناداً إلى شهادات أشخاص مثل شورد التي اختبرت تلك التجربة مباشرةً، فضلاً عن التجارب النفسية التي تتمحور حول آثار العزلة والحرمان الحسي، علماً أن بعضها أُلغي بسبب ردات فعل متطرفة وغريبة عند الأشخاص المعنيين. لماذا يضطرب العقل بهذه الطريقة المدهشة حين نكون وحدنا وهل من طريقة لوقف التداعيات؟

نعرف منذ فترة أن العزلة تضرنا جسدياً. يواجه الأشخاص الذين يعيشون وحدة مزمنة مشكلة ارتفاع ضغط الدم ويكونون أكثر عرضة للالتهابات، كما أنهم يصبحون أكثر ميلاً إلى الإصابة بمرض الزهايمر والخرف. تؤثر الوحدة أيضاً على مجموعة كاملة من الوظائف اليومية مثل أنماط النوم والانتباه والتفكير المنطقي والشفهي. لا تزال الآليات التي تقف وراء هذه الآثار غير واضحة، لكنّ الأمر الواضح هو أن العزلة الاجتماعية تطلق ردة فعل مناعية متطرفة (سيل من هرمونات الضغط النفسي والالتهابات). ربما كان هذا الوضع مناسباً بالنسبة إلى أجدادنا الأوائل، حين كان الانعزال عن الجماعة يحمل مخاطر جسدية كبرى، لكن تبدو النتيجة بالنسبة لنا ضارة على نحو خاص.

لكن تتركز معظم الآثار العميقة للوحدة في العقل. في المقام الأول، تؤثر العزلة على شعورنا بالوقت. تشمل أغرب الآثار الملحوظة {تغيّر مفهوم الوقت} الذي يواجهه كل من يمضي فترات طويلة تحت الأرض من دون رؤية ضوء النهار. في عام 1961، قاد عالم الجيولوجيا الفرنسي ميشال سيفر رحلة مدتها أسبوعين لدراسة نهر جليدي تحت جبال الألب الفرنسية، فاضطر في نهاية المطاف إلى البقاء هناك طوال شهرين، وقد اندهش بمدى تأثير الظلمة على علم الأحياء البشري. فقرر التخلي عن ساعته و}العيش كحيوان}. حين كان يجري الاختبارات مع فريقه فوق الأرض، اكتشفوا أنه احتاج إلى خمس دقائق ليحتسب المدة التي ظن أنها تقتصر على 120 ثانية.

اشاعات وكهوف

رُصد نمط مماثل من {تباطؤ الوقت} مع ماوريتسيو مونتالبيني، عالم اجتماع يحب استكشاف الكهوف. في عام 1993، أمضى مونتالبيني 366 يوماً في كهف تحت الأرض بالقرب من بيسارو في إيطاليا، وقد كان الكهف مصمَّماً بالتعاون مع وكالة {ناسا} لمحاكاة المهام الفضائية، فكسر رقمه القياسي العالمي من حيث مدة البقاء تحت الأرض. حين خرج من الكهف، كان مقتنعاً بمرور 219 يوماً فقط. تضاعفت مدة دورات النوم واليقظة لديه. منذ ذلك الحين، اكتشف الباحثون أن معظم الناس في الظلمة يتكيفون مع دورة مدتها 48 ساعة: 36 ساعة من النشاط تليها 12 ساعة من النوم. لكن لا تزال الأسباب غير واضحة.

بالإضافة إلى تغير مفهوم الزمن، تحدث سيفر ومونتالبيني عن فترات من الاضطراب العقلي أيضاً. لكن لم تكن تلك التجارب مهمة مقارنةً بردود الفعل المتطرفة التي رُصدت في تجارب الحرمان الحسي المعروفة في منتصف القرن العشرين.

خلال الخمسينيات والستينيات، سرت شائعات مفادها أن الصين تستعمل الحبس الانفرادي لـ«غسل أدمغة} السجناء الأميركيين الذين اعتُقلوا خلال الحرب الكورية، وقد حرصت الحكومتان الأميركية والكندية على القيام بتلك التجارب. قامت وزارة الدفاع في البلدين بتمويل سلسلة من البرامج البحثية التي يمكن اعتبارها مشبوهة أخلاقياً اليوم.

جرت أوسع الأبحاث في المركز الطبي التابع لجامعة ماكجيل في مونتريال، بقيادة عالم النفس دونالد هيب. طلب الباحثون في جامعة ماكجيل من متطوعين مأجورين (كان معظمهم من طلاب الجامعات) تمضية أيام أو أسابيع وحدهم في مقصورات عازلة للصوت، وقد حُرموا من أي احتكاك بشري. كان الهدف هو تقليص تحفيز الإدراك الحسي لأدنى درجة ممكنة لمعرفة كيف سيتصرف المشاركون في ظل غياب الأحداث من حولهم. لذا قلصوا ما يمكن أن يشعروا به أو يشاهدوه أو يسمعوه أو يلمسوه، كما أعطوهم أقنعة شفافة وقفازات قطنية وأصفاد كرتونية تتجاوز أطراف الأصابع. ذكرت المجلة الأميركية العلمية في تلك الفترة أنهم طلبوا منهم أن يتمددوا على شكل حرف {U} على وسائد لمنع الضجة وشغلوا صوت همهمة متواصلة تصدر من وحدات مكيف الهواء لطمس الأصوات الخفيفة.

نهاية مقلقة

كان الباحثون يأملون أن يراقبوا الأفراد على مر الأسابيع لكن توقفت التجربة بعد فترة قصيرة لأنها أصبحت مقلقة ولا يمكن استكمالها. صمد عدد قليل لأكثر من يومين ولم ينجح أحد في متابعة التجربة لمدة أسبوع. في المرحلة اللاحقة، كتب هيب في مجلة {علم النفس} الأميركية أن النتائج كانت {مقلقة جداً بالنسبة إلينا. إن سماع أخبار عن إقدام الصينيين على غسل أدمغة السجناء على الجانب الآخر من العالم يختلف عن اكتشاف أنّ حرمان طالب جامعي سليم من مناظر وأصوات واحتكاكات جسدية مألوفة لبضعة أيام في المختبر قد يهز كيانه في العمق}.

في عام 2008، أعاد عالم النفس العيادي إيان روبنز ابتكار تجربة هيب بالتنسيق مع قناة {بي بي سي}، فعزل ستة متطوعين طوال 48 ساعة في غرف عازلة للصوت داخل مستودع نووي سابق. كانت النتائج متشابهة. واجه المتطوعون مشاعر القلق والانفعالات المتطرفة والرهاب وتدهوراً بارزاً في وظيفتهم العقلية. كما أنهم واجهوا الهلوسات: مجموعة من 5 آلاف صدفة محار فارغة، أفعى، حمار وحشي، سيارات صغيرة، غرفة طائرة، بعوض، طائرات مقاتلة تهدر في المكان.

لماذا يلجأ الدماغ المحروم من الإدراك الحسي إلى هذه الحِيَل؟ يظن علماء النفس المعرفيون أن جزءاً دماغياً معنياً بالمهام المتواصلة، مثل الإدراك الحسي، يعتاد على التعامل مع كمية كبيرة من المعلومات، مثل المؤشرات البصرية والسمعية والعوامل البيئية الأخرى. لكن حين تكون المعلومات شحيحة، يقول روبنز إن {عدداً من الأنظمة العصبية المتنوعة التي تغذي المعالِج المركزي للدماغ يتابع العمل لكن بطريقة غير منطقية. بعد فترة، يبدأ الدماغ باعتبارها منطقية ويجعلها نمطاً نموذجياً}. هكذا يبتكر صوراً كاملة انطلاقاً من صور جزئية. بعبارة أخرى، هو يحاول بناء واقع من الإشارات الضئيلة التي يتلقاها، لكنه يبني في نهاية المطاف عالماً خيالياً.

يُفترض ألا تفاجئنا هذه الإخفاقات العقلية. في المقام الأول، نعلم أن الرئيسيات الأخرى لا تبلي حسناً في جو العزلة. من أبرز النماذج البيانية، نذكر تجارب عالم النفس هاري هارلو عن قرود المكاك ريسوس في جامعة ويسكونسن – ماديسون خلال الستينات، فقد حرمها من التواصل الاجتماعي بعد الولادة طوال أشهر أو سنوات. سرعان ما لاحظ أن الحيوانات أصبحت «منزعجة جداً» حتى بعد مرور 30 يوماً، ثم بدت «منغلقة» اجتماعياً وعاجزة عن أي نوع من التفاعل. (لوحظ تفكك اجتماعي مماثل عند البشر: لنفكر مثلاً بالأولاد الذين تم إنقاذهم من دور الأيتام الرومانية في بداية التسعينات بعدما كانوا محرومين بشكل شبه كامل من التواصل الاجتماعي الوثيق منذ ولادتهم، فكبروا وهم يواجهون مشاكل جدية في السلوكيات والقدرة على الارتباط).

ثانياً، نحن نستخلص المعاني من حالاتنا العاطفية عبر التواصل مع الآخرين. يظن علماء الأحياء أن الانفعالات البشرية تطورت لأنها ساعدت على ترسيخ التعاون بين أسلافنا الذين استفادوا من العيش ضمن جماعات. كانت وظيفتهم الأولية اجتماعية. نظراً إلى غياب كل من يستوعب مشاعر الخوف والغضب والقلق والحزن ويساعدنا على تحديد مدى صوابيتها، سرعان ما تقدم لنا تلك المشاعر نسخة مشوهة عن ذواتنا، ما يعكس تشوهاً إدراكياً أو لاعقلانية عميقة. يبدو أن هذا الوضع فتح لنا المجال كي ننشغل بأنفسنا، بمعنى أن الآلية التي تنظم عيشنا الاجتماعي قد تجتاحنا بشكل مفرط.

لنفكر مثلاً بـ25 ألف سجين يقبعون في سجون تُطبَّق فيها {تدابير أمنية مشددة} في الولايات المتحدة اليوم. من دون تفاعل اجتماعي، لا يمكن أن يختبر السجناء الذين يخضعون لحراسة مشددة مدى صوابية عواطفهم أو تفكيرهم الخيالي بحسب رأي تيري كوبرز، طبيب نفسي شرعي في معهد رايت في بيركلي، كاليفورنيا، وهو كان قد قابل آلاف السجناء الذين يخضعون لحراسة مشددة. إنه أحد الأسباب التي تفسر شيوع القلق والرهاب والأفكار الهوسية. يظن كريغ هاني، عالم نفس في جامعة كاليفورنيا - سانتا كروز ورئيس هيئة معنية بصحة السجناء العقلية في الولايات المتحدة، أن عدداً منهم يخوض مواجهات وحشية مع العاملين في السجن لإعادة التأكيد على وجودهم وتذكّر هويتهم.

استراتيجية التكيّف

لكن لا تكون العزلة الاجتماعية مدمِّرة دوماً. هل يجيد البعض التكيف أكثر من غيرهم؟ وهل يمكن التدرّب على مقاومة أسوأ الآثار المتوقعة؟ لا يجد العلماء أي أجوبة سهلة في هذا المجال لكن يمكن أن نراجع على الأقل الدروس المستخلصة من الأفراد الذين نجحوا أو تعثروا في بيئة معزولة.

حين كانت شورد مسجونة في إيران، كانت من أقل الأشخاص المستعدين للتكيف مع وضعهم لأن احتجازها حصل فجأةً. يدرك الأشخاص في ظروفها أن عالمهم انقلب فجأةً، ولا يكونون مزودين بدرع يحميهم ويساعدهم على فهم معنى ما يعيشونه (مثل الاستعداد للتضحية أو قدرة التحمل من أجل الخير العام). لذا يجب أن يجدوا معنىً لمحنتهم، أو أن ينفصلوا عقلياً عن واقعهم اليومي، وهي مهمة شاقة حين يكونون وحدهم.

نجح حسين الشهرستاني في فعل ذلك. هو كان كبير المستشارين النوويين في عهد صدام حسين قبل أن يتعرض للتعذيب والاحتجاز في سجن أبو غريب بالقرب من بغداد بعد أن رفض لأسباب أخلاقية التعاون لتطوير سلاح ذري. هو حافظ على سلامة عقله داخل الحبس الانفرادي طوال 10 سنوات من خلال اللجوء إلى عالم من الأفكار المبهمة واختلاق المسائل الرياضية ومحاولة حلّها. أصبح الآن نائب وزير الطاقة العراقي. طبقت أستاذة الطب والمترجِمة إديث بون استراتيجية مماثلة خلال السنوات السبع التي أمضتها في سجن الحكومة الشيوعية الهنغارية بعد الحرب العالمية الثانية، فبنت معداداً من قطع الخبز الجافة وأعدّت جدول مفردات باللغات الست التي كانت تتكلمها بطلاقة.

قد تصبح هذه التجارب أسهل بالنسبة إلى من ينتمي إلى منظمة عسكرية. كيرون فليتشر هو استشاري في طب النفس وقد ساعد على مقابلة ومعالجة الرهائن. هو يقول إن عمليات الاعتقال وتمارين الاستجواب الوهمية من النوع الذي خضع له شخصياً أثناء خدمته مع القوة الجوية الملكية توفر استعداداً جيداً لاستيعاب الصدمة: {هي تعلّمنا أسس التكيف. كما أننا نعلم أن رفاقنا سيبذلون قصارى جهدهم لإعادتنا سالمين. أظن أن عناصر الجيش هم أقل ميلاً إلى الشعور بالعجز أو اليأس. يصعب التعايش مع اليأس والعجز فهما يدمران المعنويات والقدرة على التكيف}.

السيناتور الأميركي جون ماكين هو مثال جيد على المنافع النفسية التي توفرها العقلية العسكرية. بدا وكأن السنوات الخمس والنصف التي أمضاها كسجين في فيتنام والتي رفض خلالها الرضوخ للمحققين زادته قوة. لكن هذا ما قاله عن السنتين اللتين أمضاهما في العزلة: {الوحدة مريعة. هي تسحق روحك وتضعف مقاومتك أكثر من أي شكل آخر من سوء المعاملة. تبدأ الكآبة فوراً وهي خصم قوي}.

هلوسات ومشاهد

بعد بضع ساعات فقط، زاد توتر الطلاب بشكل حاد. فبدأوا يبحثون عن الحوافز وراحوا يتحدثون أو يغنون أو يتلون القصائد لكسر الرتابة السائدة. في مرحلة لاحقة، شعر عدد كبير منهم بالقلق أو بالانفعال الشديد. اضطرب أداؤهم العقلي أيضاً، فوجدوا صعوبة في اختبارات الحساب ومطابقة الكلمات.

لكن كانت الهلوسات من أبرز الآثار المقلقة. بدأوا بمشاهدة نقاط ضوئية أو خطوط أو أشكال، وسرعان ما تطورت الحالة وباتوا يرون مشاهد غريبة مثل سناجب تسير مع أكياس على أكتافها أو مواكب نظارات تملأ الشارع. لم يتمكنوا من السيطرة على ما كانوا يشاهدونه: شاهد أحد الرجال الكلاب فقط بينما رأى رجل آخر الأطفال.

اختبر بعض الأفراد هلوسات صوتية أيضاً، مثل صندوق موسيقي أو سماع جوقة. تخيل آخرون أحاسيس على مستوى اللمس: شعر أحد الرجال بأن رصاصة اخترقته، بينما شعر آخر بصعقة كهربائية حين حاول لمس قبضة الباب.

حين خرجوا من التجربة، وجدوا صعوبة في مواجهة الواقع المغاير، وكانوا مقتنعين بأن الغرفة كلها كانت تتحرك أو أن الأجسام كانت تتغير باستمرار في الشكل والحجم.

لا شيء يجسّد قدرة الوحدة على تدمير الناس أو تنشيطهم أكثر من قصص برنارد مواتيسييه ودونالد كروهيرست، وهما اثنان من المنافسين في سباق اليخوت العالمي {صنداي تايمز غولدن غلوب} في عام 1968. فاز روبن نوكس جونستون بالكأس الذي قُدّم إلى أول بحار ينهي رحلة منفردة ومتواصلة حول العالم خلال 313 يوماً، وكان نوكس جونستون الشخص الوحيد الذي أنهى السباق من بين تسعة منافسين. بدا وكأنه يستمتع بوحدته مع مركبه، لكن ليس بقدر مواتيسييه، ذلك الفرنسي الزاهد الذي كان يمارس اليوغا على متن مركبه ويُطعِم الجبنة للطيور التي تظلله. اعتبر مواتيسييه تلك التجربة غنية وكانت فكرة العودة إلى الحضارة كريهة بالنسبة له لدرجة أنه ترك السباق، مع أن فرصة فوزه كانت جيدة، وتابع الإبحار ووصل في النهاية إلى تاهيتي بعد قطع أكثر من نصف الجولة العالمية مجدداً. وأعلن: {أنا أتابع الرحلة بشكل متواصل لأنني أشعر بالسعادة في البحر... أو ربما لأنني أريد أن أنقذ روحي}.

في المقابل، وقع كروهيرست في مأزق منذ البداية. فهو غادر إنكلترا من دون أن يكون مستعداً وأرسل تقارير مزيفة عن تقدم مساره عبر البحار الجنوبية مع أنه لم يغادر الأطلسي مطلقاً. بعد التجول بلا هدف طوال أشهر مقابل ساحل أميركا الجنوبية، زادت حدة اكتئابه ووحدته، فانسحب في نهاية المطاف إلى مقصورته ودوّن تخيلاته في أطروحة فلسفية غير متناسقة من 25 ألف كلمة قبل أن يقفز من المركب. لم يتم العثور على جثته مطلقاً.

ما هي الرسالة التي تقدّمها هذه القصص عن قوة التحمّل واليأس؟ الرسالة الواضحة هي أننا نضعف بشكل عام حين نفك ارتباطنا بالآخرين. قد تكون العزلة في حالات كثيرة سبباً للتعاسة كما يقول الكاتب توماس كارليل. لكن ثمة تقييم أكثر تفاؤلاً: يمكن التواصل مع محيطنا لإيجاد العزاء خارج إطار ذواتنا، حتى لو كنا وحدنا. من المفيد أن نكون مستعدين وأن نتحلى بالقوة العقلية. لكن يجب ألا نستخف بقوة مخيلتنا لهدم جدران السجون أو اختراق الكهوف الجليدية أو اختراع رفاق يسهل تصديقهم لمواساتنا.

* هذه المقالة ترتكز على كتاب {قوة الآخر} (The Power of Others ) بقلم مايكل بوند.

واقع متطرف

تعلّم علماء النفس الذين يدرسون طريقة تكيف الناس مع العزلة الكثير من المستكشفين الفرديين ومتسلقي الجبال. بالنسبة إلى عدد كبير من المغامرين المحرومين من رفقة البشر (ولو طوعاً)، قد تشكل المناظر الطبيعية بديلاً فاعلاً، فينجذبون إلى جمال محيطهم وفخامته. قابل عالم النفس النروجي غرو ساندل من جامعة بيرغن في النروج عدداً كبيراً من المغامرين لاستكشاف طريقة تكيّفهم في البيئات المتطرفة. هو يعتبر أن تجاوز حقيقة وضعهم بهذه الطريقة يبدو نهجاً شائعاً للتكيف: {هذه المقاربة توفر لهم شعوراً أكبر بالأمان وتقلص هامش وحدتهم}.

يمكن أن تفسر آلية نفسية مشابهة ما يجعل البحارة الذين تتحطم سفينتهم على الجزر ينسبون الصفة البشرية إلى الجماد. هم يبتكرون في بعض الحالات مجموعة من الرفاق الخياليين كي يشاركوهم وحدتهم. قد يبدو الأمر جنونياً لكنه درع يحمي من الجنون. لنفكر مثلاً بالطريقة التي استعملتها البحارة إيلين ماك آرثر حين أطلقت اسم {موبي} على يختها أثناء جولتها العالمية التي كسرت الأرقام القياسية في عام 2005. خلال الرحلة، كانت توقّع الرسائل الإلكترونية للفريق الذي يدعمها بعبارة {مع كل الحب مني ومن موبي}، وقد استعملت صيغة الجمع في كتاباتها المنشورة بدل صيغة المفرد.

back to top