ابنة سوسلوف

نشر في 20-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-09-2014 | 00:01
No Image Caption
منشور من حائطي في الفيسبوك:

المكان: حيّ الشيخ عثمان، عدن.

الزمان: 1962 (كنّا في السادسة من العمر).

بطل المشهد: الحسّاني، ماكينة إضحاك، له 4 أضعاف أعمارنا، و10 أضعاف أجسادنا.

لحظة مجده: عندما كان يعبر الشارع،  ويرميه أحدنا بحجرةٍ صغيرةٍ على ظهره.

ثم نبدأ مسيرةً مشتركة، تطفح متعةً وسعادة، يقود فيها الحساني خمسين طفلاً يجوبون شوارع الشيخ عثمان، ونحن بعده، أمام أهل الشوارع الذين يضحكون بكل براءة، نهتف، تصاحبنا موسيقى قرع أعواد خشبيّة جافة على علب حليب «دانو» المعدنية.

الغريب جدّاً أن هذا اللحن الديني العذب (الذي استعارته مسيرات طفولتنا من ألحان الموالد الدينيّة التي كانت تطوف آنذاك شوارع الشيخ عثمان في بعض ليالي الخميس) عاد من جديد (بعد حوالى 8 سنوات فقط)، لكن في مسيراتٍ شعبيّة ثوريّة، مختلفة تماماً عن مسيراتنا وراء الحسّاني:

مسيرات «الجماهير الشعبيّة الكادحة» التي كانت تردّد هذه القطعة الأدبية النادرة، شديدة الرقّة والنبل والرومانسية:

عادت الأرض بالقوّة وبالانتفاضات

عنف بالعنف لولا العنف الإقطاع ما مات

ولولا العنف ما العالم تفجّر بثورات

ولولا العنف ما سقطت جميع الحثالات!

كان ذلك في مسيرات ما سُمّيت آنذاك بـ{الأيام السبعة المجيدة» التي هجم فيها بدو الريف على عدن  لتثوير أبنائها «المترهّلين بسبب الثقافة الاستعمارية الإنكليزية»، كما قالوا.

للاحتفال بالعنف، لا شيء غير العنف.

ولمباركة «الانتفاضات الفلاحية التي قامت في الريف الثائر لسحل الإقطاع وتأميم أراضيه»...

كل ذلك على إيقاع الثورة الثقافية الماويّة.

قبلها مرّت أحداث جسام:

1963: بدء الكفاح المسلح في جنوب اليمن ضد الاستعمار الإنجليزي.

1967: استقلال جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.

1969: الانقلاب الذي حمل «اليسار» إلى السلطة، وأسّس ج.ي.د.ش: جمهوريّة اليمن الديمقراطيّة الشعبية.

السؤال الذي أنهك طفولتي وأزّمني على الدوام:

لماذا لم تبتكر «الجماهير الشعبيّة الكادحة» لحناً آخر ينسجم مع هذه الكلمات الناريّة، بدلاً من ذلك اللحن الصوفي الرقيق الذي كنّا نغنّيه في طفولتنا خلف الحسّاني؟

ما أتفه الحسّ الفني للجماهير الشعبية الكادحة! ما أتعس الكسل! ما أقبح وألعن سوء الذوق!...

تمرّ أربعون سنة بعد ذلك لأستحضر هاتين الأنشودتين وأنا أصغي إلى أحد مجاذيب مسيرات «ثورة الربيع اليمني» يقودُ فدائيّيه بشكلٍ شبيهٍ تقريباً.

يدوّي صوت المجذوب:

«كلّما زدنا شهيداً».

ويردِّد الفدائيّون بعده:

«صرنا ثوّاراً من حديد!».

غير أن أنشودتهم هذه لم تكن برقّة ومتعة نشيد الحسّاني.

لم يصاحبها «التصفيق الثوري» الصاخب الراقص، حتّى وإن لم يتناغم مع اللحن الديني الرخيم لـ{عنف بالعنف».

لم تكن موجّهةً ضد «الإقطاع والثورة المضادّة»...

لكنها زعيقٌ جنونيٌّ خالص، بلا لحن، موجّهٌ ضد الحياة، ضد الإنسان.

احتفالٌ من كباش فداء بثقافة الاستشهاد والانتحاريين، بثقافة إبادة الذات!

بعد عصر «الاشتراكية العلميّة»، ها نحن نلج عصر الفجاجة والظلامية وإبادة الذات!

«انتهى المشوار» كما ستقول أغنية عبد الحليم حافظ اليوم!...

**********

لو طلب مني هادم الملذّات ومفرِّق الجماعات أن أقول كلمتين تلخّصان مشاعري حال رؤيته، فسأقول: «ما حصل لحياتي يتجاوزني تماماً. لم أستوعب منه شيئاً. سأكون محظوظاً وممتنّاً لو ساعدتني، عزيزي قابض الأرواح، على توضيح ذلك وفهمه، أنت الذي كشف لك الباري بالتأكيد أسرار البدايات وعرجنات المصائر».

ولأن مشاغله عليه السلام كثيرة، فسأضطر (إن وافق على الإصغاء إليّ بضع دقائق) أن أرمي معظم تفاصيل حياتي في سلة المهملات، وأسرد له سرَّ أسرارها الذي إذا لم يتكرم عليّ بتفسيره فلن أستوعبه إلى أبد الآبدين.

سأبدأ له من «دكان الأعمى»، عشية سفري من مدينة عدّن «اليمنية الديمقراطية الشعبية»، في معمعان «مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية» في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لمنحةٍ دراسية إلى باريس.

«دكان الأعمى» حانوتٌ صغير في ركن شارعنا كان يديره شيخٌ نحيفٌ تقيٌّ أعمى، تربطني به محبّةٌ عميقة.

كنت أتردّد على حانوته كل يوم، أقعد برهات فوق جواني السكَّر والطحين والرز المواجهة له، أراقبه وهو يتحرّك في دكانه، أعجب به وهو يجد في رفوفه كل ما يطلبه الزبائن دون بحثٍ وعناء، يكيل بدقّة أرطال الطحين والسَمن (الدُهن) التي يطلبونها، في كفّتي ميزانه النحاسي الصدئ، دون الحاجة إلى مساعدٍ بصير.

كنت أهرب من سخونة شمس عدَن إلى عتمة الظلِّ الحميد في حانوت صديقي العم سيف العريقي، أثرثر معه بسعادة، وأصغي باهتمام إلى صوته الرهيف المتحشرج، المتناغم مع لطف الضوء الخافت لحانوته.

على يميني، وأنا أقرفص هنيهات فوق جوانيه، بابٌ صغير يؤدي إلى بيتٍ ملتصقٍ بالدكان، يسكنه العم سيف بمعيّة زوجته وأطفاله الستّة.

ينفتح الباب مسافة شبرين باتجاهي، عندما كانت تأتي مع أمِّها إلى هذا البيت طفلةٌ تقترب من الثالثة عشرة (تصغرني ست سنين).

أمّها، فيروز، من مواليد شارعنا. كان يُطلق عليها: «ملكة جمال عدن». اعتادت أن تأتي إلى شارعنا مرة أو مرتين كل أسبوع (بسيارتهم الحكومية، وبسائق خاص) من فيلتهم، في حيّ خورمكسر بعدن، التي يسكنونها منذ عودة زوجها، سالم، من دراسته للماركسية اللينينية في موسكو، وتعيينه رئيساً «للمدرسة العليا للعلوم الماركسية اللينينية» في عدن. (أطلق عليه حينها لقب «سوسلوف الحزب» نسبةً إلى ميخائيل سوسلوف، مسؤول الدائرة الأيدولوجية في الحزب الشيوعي السوفييتي حينها).

كان سالم قيادياً من الطراز الرفيع، ودونجواناً من الطراز الأرفع أيضاً...

تحمل هذه الطفلة اسمها بجدارة: فاتن. لكني أفضِّل، عزيزي قابض الأرواح، أن أسمّيها: هاوية!

اسمي، كما تعرف، عمران. اسم جزيرة ساحرةٍ قريبةٍ من عدن، كان يحبّها كثيراً أبي الحاج عبدالله عبد السلام. كنت أذهب معه وعائلتنا للسباحة فيها، يوماً كاملاً كلّ شهر. لم يكن فيها عدانا أحد معظم الوقت!

عندما أتذكر أبي أتذكر البحر. عوّدني منذ فجر طفولتي أن «نتطرفش»، كما يقول، أي أن نسبح، في الحقيقة، بمهارة ومهنيّة، نصف ساعة على الأقل في الشواطئ القريبة، أو أن نذهب للاصطياد معاً بضع سويعات، بُعيد الفجر.

بفضل أبي عشقت البحر بضراوة. صار أفيوني العبقريّ. أولد فيه من جديد. أحتاجه بشكل عضويٍّ، مرضي...

يغمرني فيه سيلٌ من ذكريات بحرية، لا نهاية لها، في أدفأ وأجمل شواطئ الدنيا، شواطئ عدن التي يمكن السباحة فيها 24 ساعةً في اليوم، طوال كل أيام السنة.

تستقيم هاوية في الباب كتمثال، تبعد عنّي مترين على الأكثر. تنظر في البدء باتجاه العم سيف ورفوفه طويلاً.

أراها جانبيّاً وهي واقفة في ما تيسّر من فتحة الباب، قبل أن تستدير نحوي رويداً رويداً، مليمتراً مليمتراً، نانومتراً نانومتراً، لتواجهني تماماً، لتثبّت عينيها في وجهي، لتحدّق فيّ بصمت وبراءة وجرأة مدّة دقيقة،

دقيقتين،

ساعة،

ساعتين...

لا تتوقف عن تصويب نظراتها الليزرية عليّ إلا عند دخول زبون. تستدير عندها من جديد باتجاه الرفوف والعمِّ سيف، حتّى يغادر الزبون الدكان تماماً، ثم تعود نظراتها تلفحني من جديد من حيث توقَّفت...

أوجّه نظراتي نحو العم سيف لا غير، أختلس بينها نظرات تقترب من تخوم الباب، تعبر وجه هذه الفتاة الصغيرة بعجلٍ وحرج وارتباك. وشاحٌ من عرقٍ رهيفٍ ينهمر من كلّ مساماتي. أرتبك كثيراً في الحقيقة بوضوح. في عينيها ابتسامة تشفق عليّ؛ تسخر من ارتباكي ربما.

أعود إلى العم سيف، إليها، أتجرّأ على أن أحدّق فيها لحظةً أطول، لا أتجرّأ...

تتكرّر طقوس هذا اللقاء الصامت الغريب مرةً أو مرتين كلّ أسبوع. أنتظره يوميّاً برغبة متزايدة.

back to top