الدجاجة التي حلمت بالطيران

نشر في 20-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-09-2014 | 00:01
No Image Caption
تدحرجت البيضة الجديدة إلى الأمام، وتوقفت عند واجهة القنّ. وعندها، نظرت الدّجاجة إبساك إلى بيضتها البشعة والمخطّطة بالدّماء بحزنٍ.

لم تضع إبساك بيضةً واحدةً منذ يومين، وشعرت بأنّها لا تريد أن تفعل ذلك مجدّداً، لكنّها باضت اليوم بيضةً أخرى، وكانت البيضة صغيرةً وغير جذّابةٍ.

لن يتكرّر هذا مجدّداً.

هل ستأتي زوجة المزارع لتأخذ هذه البيضة أيضاً؟ فقد أخذت هذه الزّوجة كلّ البيوض التي وضعتها إبساك سابقاً؛ ممّا يعني أنّه من المحتمل أن تأخذ هذه البيضة كذلك، رغم أنّها بدأت تتذمّر مؤخراً لأنّ البيض الذي تضعه إبساك يصغر شيئاً فشيئاً.

كان من الصعب عليها الوقوف على رجليها. ولم يكن هذا مستغرباً لأنّها باضت من دون أن تأكل شيئاً.

كم من البيض بقي عندي؟ ليت هذه البيضة تكون الأخيرة.

نظرت إبساك إلى الخارج وتنهّدت. كان بإمكانها أن تنظر إلى الحظيرة متى تشاء؛ رغم أنّها تعيش في قنٍّ أشبه بالقفص، وذلك لأنّها تعيش بالقرب من باب القنِّ المخصّص للدّجاج فقط. لا يقفل هذا الباب بإحكامٍ، ولذلك تمكّنت دائماً من رؤية شجرة خرنوب أسود كبيرةٍ. أحبَّت إبساك هذا المنظر وتعلقت به أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. وبفضله كانت تتحمّل، من دون تذمّر، الرّياح الباردة، والمطر المنهمر في الشّتاء، والذي يصل إليها بسبب عدم إقفال باب القنّ جيّداً.

كانت إبساك إحدى الدّجاجات التي تبيض، ممّا يعني أنَّ هدفها الوحيد في الحياة كان وضع البيض. ولقد أمضت في ذلك القنِّ ما يزيد عن السّنة، ولم تفعل أيّ شيءٍ آخر غير وضع البيض. لم تغادر قنَّها قطُّ، وليس بإمكانها أن تتجوّل في الحظيرة، أو تصفّق بجناحيها، أو تجثم على البيوض التي تضعها. ورغم ذلك، تولّدت عند إبساك رغبةٌ سريةٌ عندما نظرت صدفةً ذات مرّةٍ إلى دجاجة الحظيرة وفراخها الجميلة.

ليتني أتمكّن من أن أجثم على بيوضي، وأن أراقبها عندما تفقس...

لم تمرّ لحظةٌ واحدةٌ على إبساك من دون أن ترغب بشدةٍ في تحقيق حلمها؛ أي أن تجثم على بيضها، وتراقب فراخها وهي تخرج من البيض. لكنّ ذلك كان مستحيلاً لأنَّ قنّها كان مائلاً إلى الأمام، حيث إنّ كلّ بيضةٍ وضعتها كانت تتدحرج بعيداً عنها قبل أن تستقرّ في صندوق خاصٍّ.

انفتح باب القنّ، وسرعان ما دخل المزارع وهو يدفع أمامه عربة يدٍ.

{كوك- كوك- كوك. طعام الفطور!}.

{أنا جائعةٌ. أسرع، أسرع، أطعمني. كوك- كوك- كوك}.

امتلأ القنُّ بأصوات الدّجاجات العالية.

قال لها المزارع بينما كان يوزّع العلف بمغرفةٍ: {أريدك أن تضعي عدداً كبيراً من البيض كبير الحجم. فقد ارتفع سعر العلف مجدّداً!}. اكتفت إبساك بأن رمشت بعينيها، وتابعت التّحديق إلى العالم الذي يقع خارج باب القنّ المفتوح بالكامل.

مضت فترةٌ طويلةٌ منذ أن رغبت إبساك في تناول الطّعام. وتلاشت عندها الرّغبة في وضع البيض. فقد كانت تشعر بفراغٍ في قلبها في كلّ مرةٍ تأتي فيها زوجة المزارع وتأخذ بيوضها. كان الإحساس بالرِّضا النّاتج عن وضع البيض يتحول بسرعةٍ إلى أسًى. شعرت إبساك بأنّها متعبةٌ من وضع البيض الذي لا يمكنها حتّى أن تلمسه بأطراف مخالبها، وذلك لأنّه كان يؤخذ في سلّةٍ بعيداً عنها إلى مصير مجهولٍ.

أمّا خارج القنِّ وعلى أطراف الحظيرة المشرقة بالأضواء المتألقة، كانت أزهار شجرة الخرنوب البيضاء كالثّلج في أوج إزهارها. وارتحلت رائحة الأزهار بعيداً مع نسمات الهواء وتسلّلت إلى القنِّ، ثمَّ إلى قلب إبساك، فنهضت بعفويّة على رجليها، وحشرت رأسها بين أسلاك القنّ، وهكذا انكشفت رقبتها ذات اللّون الزّهري والخالية من الرّيش.

عادت الشّجرة لتحمل الأزهار مجدّداً.

حسدت إبساك الشّجرة التي كانت أوراقها ذات اللّون الأخضر الفاتح تحتضن الأزهار المتفتّحة ذات الشذا العطريّ.

لاحظت إبساك شجرة الخرنوب الأسود منذ يومها الأوّل في القنّ. ظنّت في البداية أن الأزهار تتواجد وحدها على الشّجرة، لكنّ تلك الأزهار ذبلت بعد أيّام قليلةٍ وتناثرت مثل ندف الثّلج، وهكذا بقيت الأوراق الخضراء بمفردها. بقيت الأوراق حتّى أواخر فصل الخريف، وعندها تحوّل لونها إلى الأصفر، وما لبثت أن سقطت بهدوءٍ. تعجّبت إبساك من كيفية تحمّل الأوراق الرّياح القاسية وقطرات المطر الشّرسة قبل أن يتحوّل لونها إلى الأصفر. وتعجّبت مجدّداً عند قدوم الرّبيع حين ظهرت الأوراق ذات اللون الأخضر الفاتح مجدّداً.

يعني اسم إبساك {الورقة}، وهي تعتقد أنّه أفضل اسمٍ في العالم. إذ تحتضن الأوراق نسمات الهواء وضوء الشّمس، ثمّ تسقط على الأرض، وتفسح المجال لأوراق أخرى بالنّمو مكانها. هذه هي الطّريقة التي تمنح فيها الأوراق في النّهاية الحياة للأزهار العطرة. أرادت إبساك أن تعيش مثل أوراق شجرة الخرنوب الأسود.

أعجبت إبساك بأوراق الشّجرة كثيراً، إلى حدِّ أنّها سمّت نفسها إبساك. لم ينادها أحدٌ باسمها، كما أنّها لم تتمكّن من العيش مثل الأوراق، لكنّها مع ذلك كانت تشعر بأنّها فريدةٌ من نوعها. وأحسّت كما لو أنّها تخبئ سرًّا كبيراً.

تعوّدت إبساك بعد أن سمتّ نفسها التّفكير في أشياء كثيرةٍ. كانت تتذكّر كلّ شيءٍ يجري في العالم خارج باب سجنها؛ بدءًا من تزايد حجم القمر وتناقصه بعد ذلك، ووصولاً إلى شروق الشّمس، والشجار بين الطّيور في باحة الحظيرة.

قال المزارع بصوتٍ عالٍ: {كلي جيّداً لتضعي بيضاً كبير الحجم!}.

كان يردّد الكلمات ذاتها في أثناء تقديمه كلّ الوجبات؛ وكأنّها صادرةٌ عن أسطوانةٍ خربةٍ. تعبت من سماع كلماته، فتجاهلته وبقيت تحدّق إلى الحظيرة.

كانت طيور الحظيرة تتناول فطورها أيضاً. وكانت مجموعةٌ كبيرةٌ من البطّ متجمعةً حول إناءٍ خشبيّ ورؤوسها تكاد تختفي عن الأنظار بين علفها، فيما ذيولها تشير نحو السّماء. أمّا الكلب العجوز فكان يأكل في هذه الأثناء طعامه بكلّ شراهةٍ وهو يشعر بالخوف من الدّيك في الوقت نفسه. خاف الكلب من الدّيك منذ ذلك اليوم الذي حاول فيه إبعاد إناء الدّيك الخشبي عنه. حينها، نقر الدّيك خطم الكلب فسالت الدّماء منه بغزارةٍ، وتورّم بعد ذلك.

كان الدّيك ودجاجة الحظيرة يمتلكان إناءً واسعاً لطعامهما، وكانا الوحيدين في باحة الحظيرة اللّذين يتمكنان من تناول طعامهما بكلِّ راحةٍ، ولم يسمحا لأيّ حيوانٍ آخر بمشاكتهما فيه. كان الدّيك في بعض الأحيان يشتهي ما يتبقّى في إناء الكلب العجوز، ولم يكن يتراجع حتّى عندما ينبح هذا الأخير في وجهه. كانت هذه هي طريقة الدّيك في تذكير الجميع بأنّه ملك باحة الحظيرة.

كان الدّيك يمتلك ريشاً جميلاً وعرفاً أحمر اللّون. وبدا أنيقاً بعينيه اللّتين لا تعرفان الخوف ومنقاره الحادّ. كان ينادي في كلّ صباحٍ بصياحه المميّز {كوكو- كوكو}، لكنّه لم يكن يفعل شيئاً عدا عن ذلك غير الاسترخاء مع دجاجة الحظيرة في حديقة الخضار والحقول المجاورة لها.

زاد منظر باحة الحظيرة الرّائع من التّعاسة التي لا تحتمل التي تشعر بها إبساك في قنّها. فقد أرادت أن تتجوّل برفقة الدّيك كي تعبث بكومة السّماد بمخالبها.

كانت باحة الحظيرة- أي حيث يعيش الكلب العجوز، والدّيك ودجاجته، والبطُّ- عالماً مختلفاً تماماً، وهو عالمٌ عجزت إبساك عن العيش فيه. لم تتكمن من الإفلات من سجنها مهما حاولت إخراج رأسها من بين الأسلاك. ونتيجةً لذلك، كان ريشها يتساقط مع كلّ محاولةٍ.

لماذا أنا سجينةٌ في هذا القفص، فيما تسرح تلك الدّجاجة حرّةً في الخارج؟

لا أعرف. ما السّبب؟

طرحت إبساك على نفسها أسئلةً أخرى، وكانت تجيب عنها بنفسها. لم تكن تعلم، بطبيعة الحال، أنّ الدّيك ودجاجة الحظيرة كانا من الجنس البلديّ؛ وهو الأمر الذي لا ينطبق عليها. ولم تكن تعلم كذلك أنّ البيض غير الملقّح لا يفقس، وذلك مهما طالت مدّة مكوثها فوقه. يحتمل أنّها لو علمت بذلك لكانت قد تخلّت نهائياً عن فكرة احتضان البيض.

أنهت البطّات تناول فطورها، ثمّ خرجت إلى الحقل خلف شجرة الخرنوب الأسود. كان فرخٌ من البطّ البرّي يمتلك ريشاً مميزاً يسير خلف ذلك السّرب. كان رأس فرخ البطّ البرّي أخضر اللون مثل أوراق شجرة الخرنوب، ولهذا لم يكن يشبه بقية البطّات. غير أنّه يَطْبَط، ويتهادى في مشيته مثلها تماماً. لم تعرف إبساك كيف تمكّن فرخ البطّ البريّ من العيش في باحة الحظيرة، لكنّها لاحقته بناظريها بعنايةٍ لأنّه كان مختلفاً عن البطّات الأخرى.

اقترب المزارع من قفص إبساك بينما كانت منشغلةً في تأمّل المنظر، وقال متذمّراً بينما كان على وشك إطعامها: {ما هذا؟}.

وقف أمامها متعجّباً لأنَّ الطّعام الذي وضعه لها يوم أمس بقي كما هو. كانت زوجة المزارع هي التي تجمع البيض عادةً، فيما كان المزارع يغادر المكان بعد الانتباه إلى الدّجاجات. لكنّ هذا اليوم كان مختلفاً.

{لم تأكل هذه الدّجاجة طعامها منذ بضعة أيّامٍ. لا بدّ أنها مريضةٌ}.

انزعج المزارع، وما لبث أن نظر إلى البيضة الملطّخة بالدّماء وإلى إبساك، ثمّ تناول البيضة بيده، ولمسها بأصابعه، فشعرت إبساك بالصّدمة. كانت تعرف أن بيضتها صغيرةٌ وبشعةٌ، لكنّها لم تتصور أنّها ناعمة الملمس كذلك.

اكتفى المزارع بالعبوس، لكنّ ذلك العبوس كان بمثابة ضربةٍ شديدةٍ بالنسبة إلى إبساك، وهي ضربةٌ تركت جرحاً مؤلماً في قلبها. كانت تتألّم عندما يؤخذ بيضها منها، لكنّ الألم عندها لم يكن بمثل شدّة الألم الذي شعرت به الآن. تجمّدت في مكانها وهي تشعر بالألم يعتصرها. يا للمسكينة الصّغيرة! يا لحظّها العاثر!

نظرت إبساك بعيداً عندما رمى المزارع تلك البيضة أرضاً فتناثرت محتوياتها من دون أن تحدث أيّ صوتٍ، وسرعان ما تقدّم الكلب العجوز وراح يلعقها حتّى آخرها.

بكت إبساك للمرّة الأولى في حياتها، وارتجفت بشدةٍ، وأغلقت منقارها.

لا أريد وضع البيض مجدّداً! أبداً!

back to top