الأديب جورج شامي: العولمة ضيَّعت سلوك المثقفين والمفكرين النظيف

نشر في 19-09-2014 | 00:02
آخر تحديث 19-09-2014 | 00:02
صدر للأديب والروائي جورج شامي كتابان جديدان، «زمن الحداثة... قامات عصيّة على النسيان» (دار الأجيال للدراسات والنشر)، وهو مجموعة مقالات ومحاضرات ولقاءات تلقي الأضواء على حقبة من تاريخ لبنان الحديث الفكري والثقافي تمتد على 20 سنة في سبعينيات القرن الماضي، و{كلب النافذة» (دار رياض الريّس للنشر)، مجموعة قصص قصيرة، هي آخر العنقود في هذا النوع الأدبي الذي انصرف إلى كتابته خلال نصف قرن، ونبض بتجارب حياتية عاشها الأديب في مراحل حياته، وتأريخ الأمكنة والأزمنة والأحداث، من خلال البطل الذي يكاد يكون هو نفسه في قصصه كافة.

يندرج الكتابان ضمن أدب جورج شامي المستمر في عطائه منذ خمسينيات القرن العشرين ويتنوع بين الروايات والقصص القصيرة والأحاديث الصحافية والمقالات...   

حول جديده وتقييمه لدور المثقفين إزاء الأحداث ومجموعته القصصية الجديدة التي اعتبر فيها أن الكلب أوفى من الإنسان لا بل أكثر أماناً واطمئناناً وتكريماً، وتعتبر امتداداً، في مناخها العام، للمجموعات السابقة، مع الحرص على نوع من الخصوصية في كل منها، كان الحوار التالي معه.

تحمل في مقدمة كتاب {زمن الحداثة... قامات عصية على النسيان} على المثقفين، هل كان دورهم سلبياً إزاء الأحداث التي طبعت تاريخ لبنان الحديث ولم يرتقِ إلى مستواها؟

في قرارة نفسي عندما كتبت هذه الفصول التي تغطي مرحلة لا تقلّ عن 20 سنة من التعاطي الثقافي، بالإضافة إلى دوري كصحافي، قصدت من ذلك تقييم ما كتبت في تلك المرحلة، واتخذت من هذا المنطلق نقاطاً حاولت أن أثبت فيها أن للمثقف دوراً مهماً، إذا عرف أين هي مكانته في المجتمع الذي يعيش فيه. من هنا فتشت عن أدوار مهمة قد يكون المثقفون أدوها ولم أطلع على مضامينها، فتبيّن لي أن عالم المثقفين مقسوم إلى شيع، وهذه الشيع متفرعة عن جذر واحد إلى فرعين، فرع المثقفين المحسوبين على اليمين بمفهومه ومضامينه وفرع اليساريين.

تبيّن لي أن المثقفين اليساريين فاعلون بشكل متعمق ولهم دور أساسي، رغم إيجابياته وسلبياته، بينما المثقفون اليمينيون يسبحون في عالم آخر، وكأنهم ينشدون الشمس واللون البرونزي والتهافت على الرفاهية المشبعة والعنجهية الفارغة. من هذا المنطلق، حرصت على تفادي ما أمكن التحامل، من جهة، وإطالة الحديث عن أدوار معينة، من جهة ثانية.

لهذا السبب تنوعت قطوف كتابك الثقافية؟

بالطبع، فالقطاف الأول أدبي صرف يتناول مجموعة من القامات التي سميتها قامات عصية على النسيان، والثاني ثقافي يدور حول مدارات كثيرة من أنواع الثقافة، بينها الإصدارات والمعارض والخلط بين الثقافة الفكرية والثقافة الاجتماعية والثقافة الانتهازية.

في القطاف الثالث تناولت الإعلام من منطلق الصحافة وأجهزة الإعلام ككل في محاضرتين أبرزت فيهما ما رأيت في قرارة ذاتي ومارست مع كثير من الزملاء، عن دور الإعلام، وهل كان فعلا مسؤولا، وهل يتحمل الإعلاميون الجزء الأكبر من الأحداث التي مر بها لبنان في أواسط السبعينيات وما بعده. أما في القطاف الرابع فتحدثت عن باقة من الإعلاميين المميزين بأدوارهم وصحفهم ومقالاتهم في هذه الفترة، بذلك تشكلت في هذا الكتاب باقة من الألوان والأنواع الثقافية، بمفاهيمها النثرية والشعرية والإعلامية، بعيداً عن التجارة والتكسب وشراء الذمم، ولا أدري إذا كنت قد وفيت بدوري جزءاً مما كان يجب توفيره.

هل ما زال الكتاب، عموماً، يؤدي دوراً فاعلاً في ظل ثقافة الإنترنت؟

للكتاب دور مؤثر بشكل جدي رغم المصنفات التكنولوجية التي صدرت، ودخلت بحد ذاتها، عن قصد مقصود أو عن قصد غير مقصود، إلى عالمه واستباحته، سيبقى الكتاب إلى زمن بعيد فاعلاً بالشكل والمضمون، وبطرق الاستخدام ونوعيتها، وسيبقى مضمونه حافظاً لكل الأدوار العلمية والفكرية والثقافية والأدبية والشعرية والتاريخية، لأنه في الواقع أصدق صديق للإنسان، ولا يمكن لأي إنسان آخر الدخول إليه ليعكر مزاج مقتنيه، وتبقى له حيميميته التي ينفرد بها الإنسان كلما قصد كتاباً معيناً من أي نوع كان.

هل يمكن القول إن {زمن الحداثة... قامات عصية على النسيان}، تأريخ لزمن فكري معين بما فيه من تأثيرات لتيارات فكرية عربية وعالمية؟

عندما أتيح لي الدخول إلى عالم المثقفين والثقافة من خلال هذا الكتاب، ورافقت، في الوقت ذاته، اللقاءات والحوارات التي خرج بها مثقفونا من أقطار العالم العربي، في طليعته المصريون، أدركت أن علي ألا أسير بشكل غبي وراء هذه الموجات، وعلي أن أتعاطف معها وأواجهها، في الوقت ذاته، عن طريق الحوار مع الجهات والمنتديات والمثقفين الذين كانوا يعرضون المبدأ ويعترضون على المضمون، ويشكلون لوحدهم موقفاً آخر مناهضاً لهذه التاثيرات التي تسللت إلى عالمنا الثقافي تحت أسماء الحداثة والتطبيع والعولمة، وغيرها التي ضيعت المفاهيم والمؤثرات والسلوك النظيف الذي كان يسلكه كثير من المثقفين والمفكرين.

لذا أعتب ألا أحد، في زمن الحداثة، نظيفاً بمقدار وإلى حد ما برؤياه وبمضمونه وبشخوصه، سواء كان كاتباً وأديباً وشاعراً ومفكراً وإعلامياً، من هنا اعتبر الكتاب نقطة انطلاق لا تشوبها أي شائبة، لا غبار عليها وإن كان في هذا الكلام شيء من الادعاء.

تفرد فصلا كاملا لـ {الندوة اللبنانية}، ما تأثيرها على الحركة الثقافية في فترة قبل الحرب؟

كان لـ {الندوة اللبنانية} دور أساسي بدأ عام 1946 وتوقف مع بداية الحرب، هذا الدور الأساسي يمكن اعتباره أفضل حاضن للفكر اللبناني بكل معاييره ومقاساته الحديثة التي رافقت الاستقلال اللبناني والجمهورية اللبنانية، وكانت في أساس البنيان الثقافي اللبناني الذي نشأ مع المفكرين الذين يمكن أن نقول عنهم المفكرين الجدد. هؤلاء نفضوا أجنحتهم وأفكارهم من الاستعمار العثماني والانتداب الفرنسي وأخذوا يفكرون بلبنانية رياض الصلح وعروبته ولبنانية بشارة الخوري وعروبته وتعزيز أركان الاستقلال فكرياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً...

 برسولية لبنانية متناهية جمع ميشال اسمر، مؤسس الندوة اللبنانية، حول فكره الذي كان يتغذى من ينابيع المفكرين اللبنانيين ما يمكن أن يسمى منهجاً أكاديمياً ثابتاً وراسخاً بمنهجيته وصدقه مع الذات ومع الآخرين. لم يكتفِ بأن يعد كل سنة محاضري موسمه لأنه كان يختار أفكاراً معينة ويختار المفكرين ليسرحوا ويمرحوا كل على هواه، إنما يلتزمون بما يمكن أن يشكل نصاً لبنانياً صافياً مقنعاً وراسخاً في الأذهان. لذا في حقبة 20 سنة التي استمرت فيها من دون انقطاع كونت الندوة اللبنانية هذا الرعيل الضخم وهذا الحصاد الخيّر الذي، مع الأسف، بعثرته الحرب وشواردها.

كيف تعاملت {الندوة اللبنانية} مع الحرب التي عصفت بلبنان ابتداء من منتصف سبعينيات القرن الماضي؟

الإنسان الذي شيده ميشال أسمر مع الأطياف اللبنانية السياسية والفكرية والاجتماعية والمالية، ليكون بذاراً صالحة للزرع،  ضاع وذهب في مهب الريح، أثناء الأحداث الأليمة التي حلت بلبنان الوطن والجمهورية، لكن حلم ميشال اسمر لم يتبدد، فنهض مرة جديدة من بين الأنقاض ليقيم {الندوة اللبنانية الجديدة {على انقاض ما تهدم من {الندوة اللبنانية} الأم.

رغم أنه سعى بشكل كثيف وبإصرار إلى أن يمرر فكرة {الندوة اللبنانية الجديدة} التي أعدّ لها دستورها ونظامها الجديد مع مجموعات من المفكرين والمثقفين عرفوا الندوة الأم وغيرهم من الشباب، إلا أن الظروف لم تساعدهم على الانطلاق، بل تعثرت الخطوات وكان للضاغطين على الخيارات الصعبة والمؤلمة دور في عرقلة هذا المشروع الذي ولد ميتاً.

نشرت في الكتاب النظام الداخلي للندوة الجديدة، ما هدفك من وراء ذلك؟

 أستطيع القول إنني انفردت، على ما أظن، بنشر النظام الداخلي والبنية الأساسية التي ارتكزت عليها {الندوة اللنبانية الجديدة} التي لم تر النور، والمحاولات التي قامت بعد الحرب، من نشر منتقيات من محاضرات لم تؤد إلى الغاية المنشودة، وتم التلاعب بها إلى حد التكسب لا إلى حد إعزاز هذا الموروث الذي في نظري يضاهي فكر أمة بكاملها.

أصدرت في السنوات الأخيرة خمس روايات، وابتعدت عن القصة القصيرة مع أنها كانت أساس انطلاقتك الأدبية في خمسينيات القرن العشرين، واليوم عدت إليها في مجموعة {كلب النافذة} فما سبب هذه العودة؟

في الحقيقة لم أتوقف عن كتابة القصة القصيرة في الوقت الذي كنت أكتب فيه الريبورتاج والحديث والرواية، وبإمكاني الاعتراف أن هذه المجموعة بقيت لدى {دار رياض الريس للنشر} أربع سنوات حتى أفرج عنها، بعدما عيل صبري.

تقول في كلمتك على غلاف المجموعة إنها قد تكون الأخيرة لك في أدب القصص القصيرة، لماذا؟

صحيح أنني تعهدت ألا أنشر، بعد اليوم، قصة قصيرة، بينما في قرارة نفسي قد لا أصدق أو أصدق إلى النهاية، لأنني أنصب على كتابة روايتين وسأنصرف إلى السيرة الذاتية والمذكرا ت، لذا جاءت هذه المجموعة، بحد ذاتها، مكملة لأخواتها، التي باشرت كتابتها سنة 1956 بمجموعة {النمل الأسود}. مع أنها قد تبدو قصصاً هادئة شفافة، تكمل سابقاتها رغم مما يبدو من روحها وسبكها ومضامينها أنها مختلفة إلى حد ما.

نلاحظ أن قصص المجموعة واقعية لا خيال فيها، فهل تحرص على نقل الواقع كما عشته أنت أو عاشه المحيطون بك؟

تركت الواقعية بصماتها الكبرى على كل قصة، صغيرة كانت بحجم فنجان القهوة أم بحجم قصة تقع في 50 صفحة، وأكاد أكون البطل الوحيد في أكثر من 99% منها باستثنناء واحدة أو اثنتين. دوري شفاف لا مغامرات شخصية صاخبة، لا حب أعمى، لا عشق بدون روية، لا غزل، لا مديح، لا ذم ولا تحقير، بل منمنمات خزنتها في داخلي وأستعيدها مع الذكرى ومع الذاكرة.

ما الذي يميز هذه المجموعة عن مجموعاتك القصصية السابقة؟

يريحني في هذه المجموعة، وإن كنت كتبت قصصها وأنا في الثمانينيات من العمر، ألا ازدواجية شخصية فيها، ولا خرف ولا تسلط على الذكريات، بل إيحاء نديّ مركز على الطرافة والطليعية في تناول ما يمر بنا خلال مسارنا الزمني في هذا العالم، بكل مكوناته، الحلو منها والمر، من دون أي ارتباط بإيديولوجية سياسية أو روحية أو دينية أو اجتماعية، من شأنها أن تبلبل وتشيع الفوضى، بدل الرخاء والاطمئنان والسلام الذي ننشده في هذه الأيام الصعبة والعسيرة التي يختلط فيها الربيع والصيف والخريف والشتاء والإيمان والكفر، اختلاطاً عشوائياً مرعباً وقاتلا إلى حد مخيف.

تتميز المجموعة بقصص قصيرة جداً، فهل تختلف تقنيتها عن تقنية القصة القصيرة العادية؟

أستطيع التأكيد والجزم أنني لم أعتمد، في حياتي الأدبية على الأقل، تقنية معينة في الكتابة، لا في الأسلوب الصحافي أو الأدبي أو القصصي بصفة خاصة. تلك موهبة خلقت معي، تكونت في الرحم ونشأت مع التجارب والخبرات، ثم الولع والحب والارتباط الخفي الذي يبلغ مبلغ العشق للغة العربية، التي من خلالها ومعها بالإضافة إلى اللغات التي اطلعت عليها والأساليب التي خبرتها في مختلف الآداب العالمية، كونت أسلوبي الخاص ولا أقول تقنيتي الخاصة، فالموضوع ليس تركيباً رياضياً أو هندسياً، إنه معطى تشعر به وتستلذه وتختصره قدر ما تشاء، فبإمكان القارئ أو الكاتب من خلال خمسة أسطر أن يقرأ قصة كاملة قد تستلزم كتابتها صفحة كاملة من صفحات الجريدة، كذلك بإمكانك قراءة قصة لا تشغل أكثر من نصف عمود في الجريدة.

المهم أن تعرف أين تبدأ وأين تنتهي وأن تعرف أن اللعبة لا تستوجب استطالات واستطرادات وتعابير منمقة لا تخدم روح النص بحد ذاته، وكلنا نعرف أن إكسير الحياة لا يشغل من الحياة سوى حيّز يكاد لا يرى. إنه جزء خفي شبيه بالتكوين البشري الذي نقول فيه إن الله خالق الإنسان على صورته ومثاله، فهو موجود وخفي نتعاطى معه ولا نراه، نعبده ولا نراه، نستمد تصرفاتنا منه ونحمّله كثيراً من المسؤوليات ولا نراه، هذا الخفي يعطينا من عنده أحياناً مواهب نختصر بواسطتها كل شيء وكي لا أبالغ، الأشياء التي أحتاجها أو أرى نفسي عاجزاً عن عدم استخدامها.

back to top