وللحقيقة أكثر من وجه!

نشر في 18-09-2014
آخر تحديث 18-09-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي مشكلتنا الكبرى لا تكمن في إصرارنا على البقاء في أسر الموروث، ولا في انخداعنا ببضاعة الغرب وانصرافنا عن موروثنا، إنما تكمن في أن الغالبية منا لا يريدون أن يقتنعوا بأن من الممكن أن يكون للحقيقة أكثر من وجه، وللصواب أكثر من طريق، وأن الآفاق أكثر رحابة واتساعا من كل النظرات الضيقة، وأن الراديكالية في التعامل مع الحياة ليست هي الحل.

 جمعتني المصادفات منذ زمن وفي توقيتين متقاربين مع شخصين مختلفين إلى حد التضاد ربما، إلا أنه ورغم الاختلاف الصارخ بين الاثنين فقد وصلت، حين تفكرت في الأمر لاحقا، إلى قناعة أنهما كانا في الحقيقة سواء، وإن كان الارتباط بينهما كعلاقة الأصل بالنيغاتيف، كل شيء مثل الآخر ولكنه فقط باللون المعاكس.

اجتمعت بالشخص الأول في ندوة دار فيها الحديث عن موضوعات شتى، ابتدأت من فكرة عيش الإنسان بسلام مع حاضره وتخلصه من أسر آلام الماضي، ومن هواجس المستقبل وقلقه، تلك الفكرة التي طرحها د.سبنسر جونسون في كتابه المسمى "الهدية".

هذا الشخص، ومن دون الاستسلام لإغراء تصنيفه فكريا، كان يؤمن بأن من أهم الأسباب، إن لم يكن السبب الرئيسي لتخلفنا كمسلمين في الوقت الحالي، هو أننا نصر على العودة إلى "الموروث" وإلى الماضي كلما وجدنا نجاحا أو تميزا آتيا من الغرب، قاصدين إلى أن نقول إن له ما يطابقه أو يشابهه أو إن أصوله موجودة في موروثنا، ويرى هذا الشخص أن كثيرا من التطابقات والتشابهات التي نجدها في هذا الصدد ما هي في الواقع إلا تحميل للأمور أكثر مما تحتمل، ناهيك عن أن عملية العودة إلى الماضي والموروث كلما ظهر شيء جديد هي أصلا من قبيل إهدار الوقت والجهد، لأن الأجدر التمتع مباشرة بنجاحات الغرب التي يصدّرها للعالم أجمع والاستفادة منها، والتسليم بأن موروثنا قدّم ما عنده وانتهى.

أما الشخص الآخر، فقد التقيته في جلسة اجتماعية، وأيضا من دون الاستسلام لإغراء تصنيفه فكرياً، سأقول إنه انطلق في حديث طويل مباشرة بعدما كنت ذكرت على عجل في تلك الجلسة مصطلحي حرية التعبير ومؤسسات المجتمع المدني، ليقول إن مصطلح الحرية مصطلح زائف، لأنه لا توجد حرية أصلا، ليس على صعيد الممارسة فحسب فهذا بطبيعة الحال، إنما على صعيد فلسفة المصطلح نفسه. الحرية المطلقة لا توجد في أي مكان، ناهيك عن أن مصطلح الحرية المنضبطة ليس سوى مصطلح مضطرب، لأن أي تقنين من أي نوع ولأي سبب كان على الحرية هو في الحقيقة قيد، وبالتالي فهو نقض للمصطلح من أصله، وأن الغرب الذي يتشدق بالديمقراطية القائمة على مبادئ الحرية يقوم أيضا على حكم القانون، أي حكم القيود!

 هذا الشخص يرى أن هذه المصطلحات الزائفة التي بثها الغرب، وتلقفناها نحن العرب بعد اندثار حضارتنا، ومعها فكرة مؤسسات المجتمع المدني هي في مجملها من قبيل العبث الذي لا نحتاج إليه إن نحن عدنا إلى الموروث وأقمنا دولتنا بحسب ما جاء في تعاليم الدين.

بعيدا عن رأيي فيما جاء على لسان الشخصين من كلام فلسفي قد لا يعني شيئا للكثيرين، وبعيدا عن كوني وجدت فيه نتفا من الصواب هنا وهناك، إلا أنني أيقنت أن الاثنين ورغم انطلاقهما من أرضيتين مختلفتين تماما، كانا يتشابهان إلى حد التطابق، يتشابهان تماما في راديكالية الطرح.

ما خلصت إليه بعد هذين اللقاءين هو أن مشكلتنا الكبرى لا تكمن في إصرارنا على البقاء في أسر الموروث، كما قال الأول، ولا في انخداعنا ببضاعة الغرب وانصرافنا عن موروثنا كما قال الثاني، إنما تكمن في أن الغالبية منا لا يريدون أن يقتنعوا بأن من الممكن أن يكون للحقيقة أكثر من وجه، وللصواب أكثر من طريق، وأن الآفاق أكثر رحابة واتساعا من كل النظرات الضيقة وأن الراديكالية في التعامل مع الحياة ليست هي الحل.

back to top