إفريقيا والجوع المستتر

نشر في 17-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 17-09-2014 | 00:01
لتحقيق تقدم حقيقي في مكافحة الجوع المستتر، يتعين على الحكومات الإفريقية، مدعومة بشركاء التنمية على مستوى العالم، أن تتحرك بسرعة، ولا ينبغي للجوع بين أطفال إفريقيا أن يتجلى بالضرورة في نفس الهيئة المأساوية التي أظهرتها صورة كارتر في عام 1993 لكي يكون مميتاً بنفس القدر.
 رمضاني عبد الله نور قبل ما يزيد قليلاً على العشرين عاما، صدم المصور الجنوب إفريقي كيفن كارتر العالم عندما نشر صورة مثيرة للجدال لطفل سوداني صغير يراقبه نسر أثناء مجاعة، وقد وجه المنتقدون إلى الصورة انتقادات شديدة فوصفوها بأنها صورة "إباحية كارثية"، واعتبروها مثالاً آخر للكيفية التي تعمل بها وسائل الإعلام الدولية على تهويل المشاكل التي تعانيها إفريقيا.

ولكن أشد ما يزعجني اليوم ليس الصورة، بل مرور عقدين كاملين من الزمان ولا تزال الظروف التي وصفتها الصورة باقية على نفس حالها في الأساس، ففي كل عام لا يزال نحو 3.1 ملايين طفل في مختلف أنحاء العالم يموتون بسبب الجوع.

وبوصفي طبيباً إفريقياً فأنا أعلم أن ويلات سوء التغذية والجوع ليست واضحة دوما، فهي ليست دائماً بنفس وضوحها في الضلوع البارزة للأطفال الأشبه بالأشباح عندما يوصلون بأنابيب التغذية، كأولئك الذين تعودت على رؤيتهم في عنابر المستشفيات في تنزانيا، ذلك أن سوء التغذية المزمن أو "الجوع المستتر" يعبر عن نفسه بطرق أخرى، لكنه قد لا يقل تدميراً وفتكا، ففي حين انخفضت معدلات الوفاة الناجمة عن العديد من الأمراض الأخرى، بما في ذلك سوء التغذية الحاد، فإن الجوع المستتر يظل واسع الانتشار.

في العقدين الماضيين، تحققت نجاحات مذهلة في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية والسل والملاريا، فقد انخفضت حالات الإصابة الجديدة بفيروس الإيدز بما قد يصل إلى 50% في بعض البلدان في إفريقيا، مع انخفاض الوفيات المرتبطة بالإيدز بنحو 30% إلى 48%؛ كما انخفضت حالات السل بنسبة 40%، وحالات الملاريا بنسبة 30%.

ولكن إعاقة النمو في مرحلة الطفولة المبكرة نتيجة لسوء التغذية تظل مرتفعة، حيث انخفضت بنحو 1% فقط على مدى نفس الفترة، وفي إفريقيا يظل الجوع يشكل السبب الرئيسي للوفاة بين الأطفال، فيمثل نصف الوفيات بالكامل بين الأطفال دون سن الخامسة فيتجاوز عدد قتلاه مجموع الوفيات الناجمة عن الإيدز والسل والملاريا مجتمعة.

الواقع أن العديد من الدراسات العلمية أظهرت أن الطفل الذي يعاني سوء التغذية أكثر عُرضة لالتقاط العدوى، أي أنه يعاني أمراضا أخرى، ويعانيها لفترات أطول، فالإسهال على سبيل المثال مرض قاتل إذا أصاب الأطفال الذين يعانون نقص الوزن الحاد، والذين هم أكثر عُرضة اثني عشرة مرة للوفاة نتيجة لمرض يمكن علاجه بسهولة، والأطفال الذين يعانون نقص الوزن الحاد أكثر عرضة بنحو 9.5 مرات للوفاة نتيجة للإصابة بالملاريا أيضا.

بل إن سوء التغذية بين الأطفال يُعَد اليوم بشكل مؤكد السبب الرئيسي لعبء الأمراض العالمي، حيث تعزو منظمة الصحة العالمية إليه 45% من كل الوفيات دون سن الخامسة في عام 2011، وتشير تقارير حديثة صادرة عن جمهورية إفريقيا الوسطى التي دمرتها الحرب إلى أن عدد الأطفال الذين يموتون هناك بسبب الجوع أكثر من أولئك الذين يموتون بالرصاص.

إن هذه الأرقام تجعل مشكلة سوء التغذية تبدو مستعصية على الحل، ولكن العلاج الناجع ليس سراً: فيتامين (أ)، والملح المعالج باليود، والأطعمة المعززة، فنقص فيتامين (أ) وحده مسؤول عن إصابة نصف مليون طفل سنوياً بالعمى، ويموت نصف هؤلاء في غضون 12 شهراً من فقدانهم لبصرهم، وعلى نحو مماثل، يعاني نصف النساء في سن الإنجاب في البلدان النامية ضعف أجهزة المناعة بسبب الأنيميا الناتجة عن نقص الحديد.

يخلف الضرر البعيد الأمد الناجم عن سوء التغذية تأثيراً أشبه بتأثير أحجار الدومينو، فهو يعوق الإنجاز التعليمي، وفي نهاية المطاف يصيب الاقتصادات الوطنية بالعرج، وغني عن القول إن التصدي لهذه الأزمة المستمرة يتطلب المال- ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار سنويا- فضلاً عن الاستعانة باستراتيجيات أحدث وأفضل لجلب الحلول المنقذة للحياة للأمهات والأطفال الذين هم في أشد الحاجة إليها.

ولكن التكاليف تبدو أخف وطأة إلى حد كبير إذا أخذنا في الاعتبار تكاليف الجوع، إذ تشير تقديرات منظمة اليونيسيف (صندوق الأمم المتحدة لغوث الأطفال) إلى أن التكاليف المترتبة على سوء تغذية أطفال إفريقيا تبلغ نحو 25 مليار دولار سنويا، وهذه ليست القصة كاملة، فسوء التغذية يكلف الاقتصاد العالمي نحو 3.5 تريليونات دولار سنويا، نظراً لخسارة الإنتاجية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.

ولمواجهة هذا التحدي وإنقاذ الأرواح وتحسين الاقتصادات، تحتاج إفريقيا إلى استراتيجية شاملة وزيادة الاستثمار في الزراعة.

أعلن الاتحاد الأوروبي 2014 عام الزراعة والأمن الغذائي في إفريقيا، ومن المتوقع أن يسجل قطاع الزراعة في القارة نمواً كبيرا، ومن الناحية النظرية، لابد أن يعمل هذا على تحسين التغذية في الإجمال؛ ولكن زيادة الاستثمار في الزراعة ليست العلاج السحري لكل داء، فنحن في احتياج إلى التركيز على بناء برامج الزراعة الحساسة للتغذية والتي تشمل صغار المزارعين، والأسر، والنساء، والأطفال.

وتتمثل إحدى الخطوات الكبرى على هذا الطريق بزيادة سيطرة النساء على ملكية الأراضي الزراعية وتمكينهن من اتخاذ القرارات الخاصة بالزراعة، فضلاً عن القدرة على الوصول إلى الائتمان الزراعي والإعانات المصممة لتشجيع إنتاج الغذاء منزلياً من خلال البستنة المنزلية وتربية المواشي والدواجن، وتُظهِر الدراسات أن النساء أكثر ميلاً من الرجال إلى إنفاق دخل إضافي على الغذاء والصحة، وفي نهاية المطاف تخلف زيادة دخل النساء من الزراعة وتمكينهن من اتخاذ القرار تأثيراً أعظم على صحة الأطفال وتغذيتهم.

وعلاوة على ذلك، كانت السياسات الزراعية وإعانات الدعم والاستثمار في الزراعة تقليدياً مفيدة لمزارعي الحبوب، ولكن يتعين على صناع السياسات أن يركزوا على زيادة القدرة على الوصول إلى الأطعمة الأكثر تغذية، مثل اللحوم والفواكه والخضراوات، والتي لا يستطيع الفقراء تحمل تكاليفها.

إن سوء التغذية يسبب أعظم الضرر أثناء الألف يوم الأولى من حياة أي طفل، ويؤدي إلى تغيرات خطيرة وغير قابلة للإصلاح في صحة الطفل الرضيع، ولتحقيق تقدم حقيقي في مكافحة الجوع المستتر، يتعين على الحكومات الإفريقية، مدعومة بشركاء التنمية على مستوى العالم، أن تتحرك بسرعة، ولا ينبغي للجوع بين أطفال إفريقيا أن يتجلى بالضرورة في نفس الهيئة المأساوية التي أظهرتها صورة كارتر في عام 1993 لكي يكون مميتاً بنفس القدر.

* طبيب تنزاني وباحث مشارك في كلية الصحة العامة في جامعة هارفارد، وهو زميل أصوات جديدة لدى معهد أسبن.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top