تحالف مريع سمح بتقسيم سورية

نشر في 01-09-2014
آخر تحديث 01-09-2014 | 00:01
 ذي تيليغراف إذا قرر طاغية متقاعد تأليف كتاب إرشادات بعنوان "كيف تكون حاكماً مستبداً عربياً؟"، فما أهم الدروس فيه؟ يمكننا تلخيصه كالآتي: "عندما تقع في المشاكل، أجج التطرف الإسلامي كي يبدو عدوك أشد سوءاً منك".

يمكن لهذه الحيلة، التي لا تبطل بمرور الزمن، أن تحقق إنجازات كبيرة بالنسبة إلى حاكم مستبد محاصر، وإذا نجح فيها فقد تعتبر بعض الشخصيات الضعيفة في الغرب أنه الرجل المطلوب لتهدئة الصراع الذي ساهم هو نفسه في تأجيجه.

ينطبق هذا الأمر على بشار الأسد، مُشعِل النيران الأبرز في سورية الذي بات يُعتبر اليوم الأكثر أهلية لمكافحة هذه النيران، فيبدو أن بروز الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أقنع أمثال اللورد دانات، قائد الجيش السابق، والسير كريستوفر ماير، سفيرنا السابق إلى واشنطن، بضرورة التوصل إلى تسويات مع الأسد بغية كبح خطر مشترك.

لكن هذه النظرة إلى الأسد تستند إلى سوء فهم كبير للحرب الأهلية في سورية، وتشكّل طريقةُ التفكير التي تعكسها (مفهوم أن الأسد ذبح على الأرجح شعبه على نطاق مريع، إلا أنه لا يزال أفضل البدائل) جزءاً كبيراً من السبب الذي دفع بمجلس العموم إلى رفض تنفيذ عمل عسكري ضد سورية قبل سنة، وقد تحوّل هذا القرار أيضاً إلى خطأ له عواقب وخيمة، وذلك لأسباب سنتناولها لاحقاً، ولكن لنتأمل أولاً في مسألة اعتبار الأسد سداً منيعاً في وجه "داعش". يؤدي هذا الطرح إلى نظرة متأرجحة إلى الحرب في سورية: فإذا ازداد "داعش" قوة، تراجع الأسد؛ لذلك تقوم الطريقة الفضلى للتخلص من "داعش" على تعزيز قوة الأسد، فهو في النهاية قائد علماني يقف في طريق متطرفي "داعش" وطموحهم الملحّ الرامي إلى استبدال نظامه بدولة إسلامية.

رغم ذلك، لا يمكن لهذا أن يعلل التطورات الأبرز السنة الماضية، وخصوصاً تنامي قوة "داعش" والأسد كليهما، فعندما رسم أبو بكر البغدادي "دولته الإسلامية" في رمال الصحراء، ما كان يواجه دوماً معارضة النظام الراسخة، على العكس سهلت هجمات الأسد ضد فصائل ثورية منافسة غالباً عملية تقدّم "داعش"، بكلمات أخرى، لم يحقق "داعش" الانتصارات مواجهاً مقاومة شرسة من حاكم مستبد علماني، بل اكتسب البغدادي قوة أكبر نتيجة حملة الأسد التي لا ترحم والتي تهدف إلى بقائه في السلطة.

بذل الأسد، بما يتماشى مع خدعة الحاكم المستبد الأقل تعنتاً القديمة، قصارى جهده ليشكّل أعداء أكثر دموية ووحشية منه، وتشير الأدلة إلى أنه تعمد توليد بعض الظروف المؤاتية لنهوض "داعش"، ففي عام 2012 كان متطرفو البغدادي قوةً ضعيفة محتجزة في منطقة صغيرة في العراق، ثم أطلق الأسد سراح مجموعة من أخطر مجاهدي سورية من سجن صيدنايا قرب دمشق، ويُعتقد أن بعض هؤلاء الرجال، فضلاً عن آخرين حُرروا بموجب إعفاءات لاحقة، أصبحوا قادة "داعش".

بعد أن تعززت قوة "داعش" بفضل تدفق هؤلاء القادة المخضرمين، انتقل إلى سورية وسيطر على حقول النفظ في شرق الصحراء، واللافت للنظر أن نظام الأسد بدأ عندئذٍ بشراء النفط من "داعش"، وفق ما يذكره مسؤولون في الغرب والشرق الأوسط، وبهذه الطريقة الوقحة ساهم الحاكم المستبد في تمويل البغدادي.

في الوقت عينه، لاحظ مَن يراقبون هذه الحرب عن كثب نمطاً محدداً، فقد حشد الأسد كل قواه وأسلحته، بما فيها الغازات السامة لضرب الثوار غير الإسلاميين، فراحت دباباته ومدفعيته وطياراته تضرب يوماً بعد آخر معاقل الجيش السوري الحر المتبقية، لكن "داعش" لم يواجه غالباً أي عقاب، صحيح أن رجال البغدادي يسيطرون على آلاف الكيلومترات المربعة، لكنهم بدوا أحياناً بعيدين عن أنظار قوات الأسد، وخصوصاً هجمات طائراته المروحية المتخصصة في رمي براميل متفجرة مخيفة.

 أقام "داعش" السنة الماضية مقره في موقع بارز في مدينة الرقة في شرق سورية، إلا أن قوات الأسد الجوية لم تضرب هذا المبنى حتى شهر يونيو، بعد أن أخلي، وفي الوقت عينه خاض "داعش" حملته بطريقة تساعد النظام، فحتى وقت ليس ببعيد صب البغدادي اهتمامه على محاربة الثوار، خصوصاً الجيش السوري الحر، وعندما بلغ "داعش" ما قد يتضح لاحقاً أنه قمة قوته في وقت سابق من هذه السنة قرر البغدادي عدم السير نحو دمشق وتهديد سلطة الأسد، وعوضاً عن ذلك سار في الاتجاه المغاير واجتاح العراق مشعلاً بالتالي الأزمة الراهنة، فضلاً عن دعوات الغرب المنادية بضرورة تناسي الخلاف مع الأسد.

قد يتبدل هذا الوضع قريباً، فيوم الأحد الماضي أطاح "داعش" بقوات النظام بغية السيطرة على مطار الطبقة الجوي متقدما نحو حلب، وربما يعدّ البغدادي والأسد اليوم العدة لخوض معركة السيطرة على هذه المدينة القديمة، وهكذا يستطيع هذان العدوان أن يبدآ بالتصرف كعدوين، لكن أحداث السنة الماضية تبرهن استعدادهما، على الأقل، ليكونا حليفين تكتيكيين انتهازيين.

أرغمنا الأسد خلال هذه العملية على الاختيار بين دعمه أو مراقبة المجاهدين الذين عزز قوتهم، وهم يتوسعون في الشرق الأوسط، ويحضنا اللورد دانات والسير كريستوفر ماير على إعطاء مُشعِل الحرائق دور رجل الإطفاء على أمل ألا يعاود الأسد صب الزيت على النار ويرجع إلى دوره السابق.

هذا خيار مفلس اتخذه مجلس العموم بتهور على الأرجح قبل سنة، فباختيار عدم توجيه ضربة إلى الأسد حتى بعد أن استخدم الغازات السامة ضد المئات، لا بل آلاف الأبرياء، قرر البرلمان في الواقع ترك الأحداث في سورية تأخذ مجراها، ويعني ذلك السماح للأسد والبغدادي، سيدَي الحرب الأكثر قوة، باقتسام البلد بينهما، وهكذا تحولت المعارضة غير الإسلامية إلى غبار بين رحى هذين الجبارين.

صوّت بعض النواب ضد العمل العسكري لأنهم ادعوا أنهم غير مقتنعين بأن الأسد يقف وراء هجمات الغاز، لكني أعتقد اليوم أنهم قرؤوا برعب وخجل الكم الهائل من الأدلة التي تؤكد ذنب النظام، وفي المقابل اتخذ آخرون هذا القرار لأن أجهزة الاستخبارات الغربية أخطأت بشأن أسلحة الدمار الشامل في بلد آخر قبل نحو عقد، لكني آمل أن يكونوا قد قارنوا اليوم إعلان سورية الرسمي بشأن ترسانتها الكيماوية مع تقييماتٍ نشرتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية والبريطانية، ولاحظوا أن هذه التقييمات الأخيرة كانت محقة.

لكن اللافت للنظر حقاً اعتبار الكثير من النواب أن قصف الأسد سيزيد معاناة سورية سوءاً، لنسترجع ما حدث: قُتل 191 ألفاً في سورية حتى اليوم، مما جعل صراع الأسد لإخضاع شعبه، الصراع الأكثر دموية في الشرق الأوسط منذ عام 1945، باستثناء المواجهة بين إيران والعراق التي دامت ثماني سنوات، فكيف يمكن لهذه الأوضاع أن تزداد سوءاً؟ هل من كارثة لم تحلّ بسورية باستثناء وباء من الجراد؟

لو وجهنا ضربة إلى الأسد السنة الماضية لقيل لنا إن هذا ساهم في توسّع "داعش"، لكن هذا حدث في مطلق الأحوال، وفي المقابل فقدت المعارضة غير الإسلامية، التي راهنت على تدخل خارجي، نفوذها، وأرسل البرلمان إشارة واضحة إلى أن القوة الغربية (أحد العوامل التي كان من الممكن أن تبدل كفة الميزان في هذا الصراع) لن تُستخدم مطلقاً، ونتيجة لذلك تركنا الساحة لكابوسين متماثلين: الأسد والبغدادي، مشعلي نار الحرب، فمن المعتدل اليوم؟

* ديفيد بلير

back to top