«آمرلي» العراقية منسية!

نشر في 31-08-2014
آخر تحديث 31-08-2014 | 00:01
حين عصفت المشاكل بالأيزيديين واحتاجوا الى المساعدة كان العالم كله متنبهاً. في المقابل ومنذ شهر يونيو، تواجه مدينة تركمانية في شمال العراق حصار الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، في ظل ارتفاع محصلة الوفيات في حين لا يحرّك العالم ساكناً. الناس في آمرلي تُركوا على حالهم لمواجهة «داعش» بمفردهم. «شبيغل» ألقت الضوء على مأساتهم.

«استقبل كل يوم نحو مئة مريض. نتعرّض كلّ يوم للقصف. يعتبر بعض الإصابات معقداً كرجل مبتورة وجروح في الرأس. لا أملك المعدات اللازمة لتقديم العلاج المناسب. ففي بعض الحالات، أصعدنا مصابين إلى الطائرة المروحية وهم أحياء، ليفارقوا الحياة بعد لحظاتٍ من بلوغهم بغداد».

يتكلم الدكتور خلدون محمود بسرعة كبيرة، ولذلك سببٌ وجيه. ثمة مكان واحد في شمالي منطقة آمرلي ما زال يتمتع بحدٍ أدنى من الارسال لتلقي الاتصالات الخلوية: عند مهبط الطائرات المروحية فوق القرية. ومع كل اتصالٍ يجريه، يخاطر بحياته. فمقاتلو الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) يحاصرون البلدة ولا يبعدون سوى كيلومتر واحد.

يحاول المجاهدون قطع آخر صلة لآمرلي مع العالم الخارجي. وقد أقاموا مدفعيتهم على مرأى من المهبط. لا تزال مروحية عراقية تحط هنا مرتين في الأسبوع، مزودةً البلدة بالقليل الضروري. وفي طريق العودة، تنقل معها الجرحى. ومن دون هذه الرحلات يشعر أهل آمرلي أنهم متروكون بالكامل وسرعان ما سيستسلمون على الأرجح للحصار المتواصل.

يعلّق محمود: «إنها أشبه بإبادة جماعية. تهاجم داعش النساء والأولاد والجنود. عناصرها لا يميزون بينهم. فمن عائلة حاولت الهرب عاد ولدان أحياء فحسب، وكانا يحملان جثث أفراد عائلتيهما. يموت الناس بسبب سوء التغذية، وشرب الماء الوسخ، وغالباً ما يعانون من التقرحات، والنزيف، والإسهال».

أطرق الطبيب واصفاً حالاتٍ شهدها. روى قصة حسين الصغير: «كان جائعاً وطلب مني الطعام. رحتُ أبكي لأنه كان يتضور جوعاً وناولته القليل من الطعام. بعد يومين، قُتل في انفجار هاون. انفجرت القذيفة فوق والده، ولم نجد منه بعد ذلك سوى اشلاء».

يضحك. لعلّها حركة هستيرية طبيعية لطبيبٍ مثقل بمسؤولية 13 ألف شخص. يوضح: «قد أجنّ إن لم أتمسّك بحسّي الفكاهي. أحاول أن أمازح الأولاد الذين أعالجهم. لا بدّ من أن يشعر الناس أنّ ثمة من يعمل على مساعدتهم. لكنّني أفتقر أحياناً إلى المهارات الضرورية للقيام بذلك. فأنا مجرّد طبيب أسنان في نهاية الأمر».

لا أحد يحميهم

في الأسابيع الأخيرة، تصدر مصير عشرات آلاف الإيزيديين من سنجار عناوين الأخبار حول العالم، فيما سعوا للهرب من داعش. ما زالت الولايات المتحدة تنفّذ ضربات جوية وتنزل المساعدات جواً. حتى الدولة الألمانية تنوي تقديم السلاح للأكراد المحاصرين في شمال العراق. ولكن على بعد 250 كيلومتراً فقط إلى الجنوب، تعتمل كارثةٌ مشابهة والتفاعل معها ما زال في حده الأدنى.

ما من إيزيديين في آمرلي، فثلثا البلدة من التركمان الذين يتحدّر أسلاف معظمهم من مناطق باتت اليوم جزءاً من تركيا. هؤلاء من الشيعة، لذلك يعتبرهم مقاتلو داعش السنة أسوأ من المهرطقين. فهم منشقون عن الإيمان الصحيح ويستحقون الموت في رأيهم. ليس للتركمان حلفاء في العراق.

بعد سيطرة داعش على مدن الموصل، تكريت، والحويجة، وسط مقاومة لا تُذكر، شنّت هجمات ضد القرى المحيطة بآمرلي نحو منتصف شهر يونيو. وبفضل المعدات والمواد التي سيطرت عليها من مخازن سلاح عدد من فصائل الجيش العراقي، اجتاحت عدداً من المناطق بسرعة كبيرة. وبحلول منتصف يوليو، كانت آمرلي وحدها لا تزال صامدة.

 يدافع نحو 400 رجل من الميليشيات، فضلاً عن بعض الجنود ورجال الشرطة، عن المدينة. يتولى مصطفى البياتي، وهو عقيد من قوى الأمن مولود في آمرلي، قيادة هذه القوات. يقول: «تملك داعش دبابات، ورشاشات، وصواريخ، وعناصرها قوية جداً. تشنّ هذه العناصر هجومها من الجهات كلّها المحيطة بآمرلي: الجنوب والشمال والشرق والغرب. المحاربون يأتون يوماً بعد يوم ولا تنفك أعدادهم تتزايد».

في 22 يوليو، قطعت داعش الطاقة عن آمرلي وإمدادات المياه بعد يومين. كذلك فجرت أبراج الهواتف الخلوية كلّها أو خربتها بإطلاق النار عليها. يروي محمد عصمت من الصليب الأحمر العراقي قصته قائلاً: «في البداية، كان الناس يملكون ما يأكلونه». عصمت من آمرلي وهو يحاول حشد جمع المساعدات لهذه البلدة من مركزه في بغداد. وسرعان ما يضيف: «لكن شهرين فترةٌ طويلة. وقد نفد الآن مخزون طعامهم. قبل شهر تقريباً، ما عادوا يملكون شيئاً».

الموت جوعاً

يذكر عصمت أن آمرلي لم تكن بلدة ميسورة الحال، غير أن أفقر العائلات اليوم ما عادت تملك شيئاً. في هذه المدينة أيضاً نساء حوامل. يشير الدكتور محمود أن عددهن ثلاثمئة، فضلاً عن كثير من الجرحى والمرضى. ويضيف: «إذا لم يتبدل الوضع، لن يمر أكثر من ثلاثة أسابيع قبل أن يبدأ الناس بالموت جوعاً».

المساعدة الوحيدة التي يحصل عليها المحاصرون في آمرلي تصل من الجو. فكلّ يومين أو ثلاثة، تحطّ مروحية عسكرية قديمة قادمة من بغداد، محملةً بالمواد الغذائية والطبية والطعام. لكن ما تحمله ليس كافياً البتة، حسبما يقول. قبل أسبوعين، انضمّ ممثل الصليب الأحمر عصمت إلى إحدى هذه الرحلات. وعندما حطت الطائرة، كان الجرحى وعائلاتهم في انتظارهم و»أيديهم ممدودة كما لو أنّهم يغرقون في الماء».

يخبر عصمت أن مقاتلي داعش لم يكفّوا عن إطلاق القنابل على موقف الهبوط. لكن الجميع يريد الخروج، ولهذا السبب يعرّضون نفسهم للخطر. يضيف عصمت: «يغامرون لأنّهم سيموتون في مطلق الأحوال إن بقوا». حملت المروحية سبعة مرضى خلال الرحلة التي شارك فيها عصمت. وما عادت تسع المزيد.

يتحدّث عصمت بصوتٍ هادئ عندما يروي قصته، لكنّ القلق يعتصر قلبه. فما زال والداه، أخواته الست، وأخوه محتجزين في آمرلي. ربما يستطيع إخراجهم بواسطة المروحية، إلا أنّ الناس في آمرلي يعرفونهم ويدركون مكانة عصمت في الصليب الأحمر. لذلك يخشى من إخافة الناس في حال رأوه وهو يجليهم، فيخالون أنّ النهاية وشيكة فيدبّ الذعر.

مرّ أكثر من شهر منذ تمكن آخر سكان البلدة من الهرب وحدهم من البلدة. يتذكّر علي عبد الرضا الذي هرب مع 32 شخصاً من أفراد عائلته: «رحلنا سيراً على الأقدام، حاملين معنا حقيبة صغيرة فحسب». وقد رحلوا سراً، حتى إنهم لم يتجرأوا على إخبار الأصدقاء والجيران بخططهم لأنهم خافوا من أن يفضح مقاتلو داعش أمرهم إن حاول عدد كبير من الناس الهرب عبر درب يقودهم إلى موقع بعيد عن أماكن تمركز داعش. يؤكد علي عبد الرضا أنّ المقاتلين اكتشفوا هذا الدرب بعد ثلاثة أيام وأقفلوه.

تمكن رجل مسنٌ وعائلته من الوصول إلى مخيمٍ للاجئين في كركوك، أكبر مدينة هي الأقرب إلى آمرلي، ظناً منهم أنهم سيكونون آمنين هناك. ولكن قبل أسبوعين، انفجرت سيارة مفخخة قرب موقع بناء مسجد في المدينة حيث التجأ عدد من الأشخاص معظمهم من آمرلي. فقُتل 12 منهم وجرح 50.

ثقوب الرصاص

يذكر عبد الرضا أن المجاهدين حاولوا دفع أهل آمرلي إلى الاستسلام، واعدينهم عبر الوسطاء بصفقةٍ يمكن التوصل إليها. وفق عبد الرضا عرضوا عليهم التالي: «سلّمونا العقيد مصطفى والنقيب حسن، فنفتح الطريق. لكن الناس رفضوا».

أفضل مَن يستطيع مساعدة أهل آمرلي هم على بعد 12 كيلومتراً فحسب. هنا، على هذه التلة المطلة على الحدود، آخر نقطة جنوبية لمقاتلي البشمركة. كان الجدار الخارجي مليئاً بثقوب الرصاص وبضع فتحات خلفتها القنابل.

في الداخل، كان الجنود يجلسون بتكاسلٍ في الحر الخانق. فالقائد ليس موجوداً، حسبما أخبرنا نائبه العقيد عميد عبد الكريم، مضيفاً أنهم لم يشهدوا أي تطور يُذكر منذ آخر هجوم كبير الشهر الماضي.

يذكر: «كان الوضع هادئاً هنا منذ الهجوم الأخير الشهر الماضي». ويشير الى أنّ الجيش العراقي حاول إنقاذ الناس في آمرلي قبل فترةٍ وجيزة. ضابط آخر يخبر الواقعة التالية: «قلت لهم قبل ذهابهم إنهم لن ينجحوا، غير أنهم لم يصغوا إلي». يوضح عبد الكريم: «من السهل تنفيذ هجوم ضد داعش في حال توافر الأسلحة المناسبة والدعم الجوي، إلا أننا نفتقر إلى الاثنين». الرسالة واضحة إذاً: تُعتبر آمرلي مشكلة، إلا أنها ليست مشكلتهمز

كما هي الحال دوماً في العراق، ثمة قصة وراء كلّ قصة تعود إلى ماضٍ سحيق. خلال عهد صدام حسين، تعرض الشيعة التركمان للتعذيب قبل أن يرهبهم مقاتلو تنظيم القاعدة. في عام 2007، انفجرت أربعة أطنان ونصف الطن من المتفجرات المخبأة تحت الشمام في ساحة السوق، ما أودى بحياة 150 شخصاً.

 نحن من آمرلي

بما أنّ العراقيين لم يحموهم، تمسك التركمان بولائهم لتركيا. وكانت أنقرة مسرورة برعايتهم، حتى أن الحكومة التركية دعمت الأحزاب التركمانية في شمال العراق. لكن هذا التحالف أدخل التركمان في صراعٍ مع الأكراد، الذين يبدون اليوم بأمس الحاجة إلى مساعدتهم. لا يستطيع السكان اليوم الاعتماد على تركيا بالتأكيد لأنها تحاول البقاء خارج الصراع حفاظاً على حياة 49 رهينة تركية تحتجزهم داعش.

لذلك، لا يشعر أحد أنه مسؤول عن حياة الناس في آمرلي.

يذكر حسن برام، وهو عضو في الحزب الكردي من مكتبه في طوز خورماتو، البلدة الأخيرة قبل الجبهة: «من المفيد أن تُنفّذ الولايات المتحدة بضع غاراتٍ جوية في تلك المنطقة. لكني أعتقد أنهم لن يفعلوا ذلك». ثم يحاول التخفيف من حدّة الوضع في المدينة، مدعياً أن «لا أحد قُتل في آمرلي ولم يهرب أحد».

لا نوافذ في مكتب برام بسبب انفجار سيارة مفخخة قبل بضعة أشهر، حتى أن الواجهة على وشك السقوط. يعلّق برام واصفاً الوضع بابتسامةٍ صفراء: «نحن على اتصال دائم مع آمرلي. نريد أن نمضي لتحريرهم، إلا أن هذا ليس سهلاً».

تقر الولايات المتحدة أيضاً بخطورة الوضع في آمرلي. يختصر تصريح صادر عن مسؤول في وزارة الخارجية طلب عدم ذكر اسمه المسألة برمتها: «ندرك الوضع الحرج الذي يعيش فيه أهالي آمرلي ومعظمهم من التركمان، ونعرف شدّة الأزمة الإنسانية المتواصلة في شمال العراق ووسطه». لكن رئيس هيئة الأركان المشتركة مارتن ديمبسي ووزير الدفاع تشاك هيغل ناقشا علناً احتمال تنفيذ عملية واسعة النطاق ضد داعش تشمل تنفيذ ضربات جوية في سورية أيضاً. ولكن طبعاً قد يمر بعض الوقت قبل تحوّل هذا الهجوم إلى واقع.

يوم الخميس الماضي، كان العقيد مصطفى البياتي ينتظر مرةً أخرى وصول المروحية التالية التي ستمرّ ضمن مرمى نيران مقاتلي داعش. يؤكد أن نحو نصف قواته بات من الجرحى، فضلاً عن أن عشرين منهم لقوا حتفهم. ويقول معلقاً: «لا أعلم لكم من الوقت سنتمكن من مواصلة حماية آمرلي، إلا أنّنا سنقاتل حتى الموت. هذه بلدتنا. أنا من آمرلي. كلنا من آمرلي».

* كريستوف رويتر | Christoph Reuter & جاكوب راسل | Jacob Russell

back to top