طيور العتمة

نشر في 30-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 30-08-2014 | 00:01
No Image Caption
2

اسمي برهان، عمري خمسٌ وأربعون سنة، منفصلٌ عن زوجتي دون أبناء، وذلك نتيجة مرض السكّري الذي عطّل حياتي بما فيها الاتصال الزوجي، وعسرٍ عن شراء الدواء والمقويّات بسبب ضيق اليد وغلاء المنتج.

رفيقي ميمون (38 سنة) عائل لأسرة من أبوين مُقعدين، وأختين إحداهما نكّل بها مرض الصرع وأتلف حياتها، وهو أعجز من أن يوفّر لهم حياةً أقلّ من الفقيرة، وأيضاً: مغفور (53 سنة)، إلياس (47 سنة)، نضال (50 سنة)، معن (52 سنة)، عابد (44 سنة)، بنيامين (39 سنة)، كريم (41 سنة)، عبد السلام (49 سنة)، سعد الدين (42 سنة)، ربيع (40 سنة)، حيّان (37 سنة).

أثبتوا علينا نحن الثلاثة عشر براهين القضيّة دون اتّباع سليم لخيوطها، فدفعونا في سجنٍ أنتن من الحظائر والزرائب مع جماعةٍ من المساجين والموقوفين، الذين نفّذ في بعضهم الإعدام ليلتها وبعضهم الآخر نُقلوا إلى سجنٍ آخر ظهيرة اليوم التالي.

سجنٌ رفيع السقف، يدلف منه ماءٌ ملوّثٌ ألحق الرطوبة بأرضيته المسوّاة من الإسمنت والحديد العريض، مع كلّ قطرة تقطر أنّةٌ ملتهبة من صدور الرفاق، وتتشعّب في أضلاعنا كلّ مصيبة. نجلس متقابلين كرهبان مُسنّين: حدبات ظهورنا من وقع الوجع، وسحب المخاط المنحدر فوق شفاهنا، وظهور أيدينا التي لا  تفارق أعيننا، ما كان ينقصنا غير عصيٍّ وقلنسوات سوداء ونكون صالحين لأن نتبوّأ المكانة الأرذل في الحياة. على باب السجن لافتةٌ صغيرة:

«رفقاً بالسجناء فهم آدميون»

ضوء مصباح ينير نصف وجهي، مرخياً سمعي للريح تهدهد في الخارج، وقع أقدام الجند المهيبة تشعرنا وكأنّها تدفع الموت بسرعة إلينا، صوت انزلاق المفتاح الأسود ذي السنّين الطويلتين في ترباس الباب يبثُّ الرعب تحت جلودنا المتّسخة.

دخل جنديان: الأول قصيرٌ بدين، حليق الشاربين كثيف الذقن، صغير الأنف والعينين، بيمينه سلسلة تنتهي آخر حلقاتها بحلقة كبيرة أديرت حول عنق كلبٍ أسود كثّ الشعر، أحمر العينين، طويل النابين، متدلّي اللسان الشديد الحمرة، وقع لعابه على الأرض أشبه بصوت بيض يتكسّر، يدور بسرعة بين قدمي الجندي؛ بينما الجنديّ الثاني جسيم، مربّع الوجه أسمر البشرة، واسع الفم، عيناه جاحظتان، ينادي الكلب:

هه هه يا سريح، هه هه سريح.

تزيد سرعة الكلب من بين أرجلهم، وخبط قوائمه ينبئ بأجلٍ يقترب. نظرا إلينا ليقول الجندي الجسيم هازئاً:

أتحبون الحياة؟

أتبعه صاحبه بضحكة ارتدّ صداها عن سقف السجن المليء بخرائط الماء الملوّث، ثمّ أمرانا بالوقوف دون حراك جميعاً كالأحجار... مغفور كان السجين الأول الواقف في رأس الطابور. أطلق الجنديّ السلسلة من يده ليهجم الكلب ولعابه يخلفه خيطٌ طويلٌ متعرّج على حوافه قطعٌ بيضاء صغيرة، تجاوز مغفور ودفعني من بطني لأسقط على ظهري، وأخذ يدفعني بمنخريه الواسعين ولعابه يلطّخ وجهي وكتفي، أسمع أصوات رفاقي استغاثاتٍ لا تنقطع، انتظرت أن يعضّني عضّة الفناء لأستريح من المكوث في هذا السجن الصندوق، لكنه تركني فجأةً أتخبّط في بركة لعابه واتجه نجو ربيع وعضّه في ساقه عضّةً جارحة وأخذ يجرّه منها حتّى ارتطم بالزاوية ذات الأسمنت المتكسّر، التي ينام فيها ربيع متكوّراً كالعجوز، صراخه باعثٌ على الشفقة بشكلٍ مبكٍ، وهو يضغط على ساقه من حرارة الأنياب وألم الجروح.

ضَحِكُ الجنديين بالكاد يسمع من قرقرة بلعوم الكلب الصاخبة. أفلت ربيع ساقه من فكّه، ليستدير نحو الباقين المتراصّين كالخراف، عظامهم تركل بعضها من الخوف. اندفع إليهم ليصطدم بميمون صدمةً قذفته إلى السقف وأعادته إلى الأرض بجرحين شديدين، الأول في فخذه اليمنى والثاني في ذراعه اليسرى، ليجثم عليه وكأنّه ثورٌ إسباني داكّاً عظامه بثقله، ومنخراه يضغطان على رأسه من جهة أذنه اليمنى.

تفرّق البقية في السجن كالقطط المطاردة في صندوق كرتونيّ. رفع الكلب رأسه مخلّفاً زبداً من لعابه تسرّب فوق عنق ورأس ميمون منحدراً إلى الأرض، وراح يطرح البقيّة واحداً واحداً، داعكاً الأعناق بمنخريه ودفق لعابه.

أنين ربيع يعلو ويخفت حتّى غدا متقطّعاً منبئاً عن غيبوبته. وقبل الصباح أضجعاني وأطفأا بين عينيّ سيجارتين بيضاوين لهما جمرتان قابستان، وصوت ضحكهما يلتحم بصراخي من ألم الكيّ... وكذلك فعلوا بالباقين.

3

شيءٌ من ألمي غسله الضوء الشحيح المتّصل بعينَي من نافذة السجن الصغيرة. دعكت بأصابعي المتّسخة أسفل عيني، فتداعى إليّ أنين ربيع وهو يضغط على أعلى ساقه ليُهدّئ ألم العضّة التي ألحقت بها تسعة جروحٍ غائرة ليلة البارحة. أشفقت عليه كثيراً وهو يركل الأرض بكعبه الأيمن ويصرخ ألماً.

رائحةٌ كريهةٌ جداً شممتها حول عنقي وكتفي، لعاب الكلب قد أصبح أكثر التصاقاً بجلدي، وكأنّه منه وفيه. اتّكأت على مرفقيّ وبالكاد جلست، آلامٌ فظيعة تربض على عظام ظهري وفقرات عنقي، وإحساسٌ مؤلمٌ بالوخز يركض تحت جلدي.

على الأرض بقايا اللعاب ما برحت رطبة، وبعض خيوطه الصغيرة تمكّن منها الجفاف. رفعت ثقل أجفاني فرأيت رفاقي كالجذوع المسنّدة على الطين؛ أجسادٌ أوهنها الخوف. ناديت بصوتٍ جافٍّ مرتعد:

ربيع...!

لم يجب، فما هو إلا قطعةٌ استحالت صراخاً يعلو ويخفت، وعظمةٌ تركل كلّ صلبٍ حولها... انبثق الضوء أكثر في المكان، فصحا الرفاق على خيوطه الدقيقة وهي تحكّ أجفانهم المتهدّلة. نظر ميمون إليّ: يداه مجعّدتان سمراوان عليهما آثار ضرب، وجروحٌ صغيرة على رؤوس أصابعه، وخدوشٌ على وجهه وخاصة على خدّه الأيمن، ومشرومٌ أعلى شفته، آثارُ دم على جبهته وقطع لعاب الكلب تلوّث عنقه وصدره. ناداني بلكنةٍ يُتخمها القنوط:

أين الموت؟!

ابتسمت بشفتين يابستين فيهما انسلاخٌ جافّ وأجبت:

ليس ببعيد.

بلعتُ ريقي المرّ وأردفت:

دعنا ننتظر.

اقتفت إجابتي صرخة ربيع التي أنبأتنا أنها أطفأت آخر جذوةٍ للحياة فيه، فتقاذف الجميع النظرات المتأسفة وأحنوا رؤوسهم.

back to top