مسارات زمكانية

نشر في 30-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 30-08-2014 | 00:01
No Image Caption
عندما تراقب وجوه القادمين إلى مطار دمشق، فإنك لا تستطيع إلا أن تلاحظ أن وجوههم تعبّر بصدق عما في نفوسهم، وتستطيع أن تعرف أن مشاعرهم غامرة. عائلات مغتربة عائدةٌ إلى الوطن يملؤها الفرح والابتهاج، ورجال أعمال يبدو على وجوههم التركيز والوجوم، ومرضى يعالجون في الخارج يبدو عليهم الألم، حجّاج ومعتمرون عائدون إلى الوطن محمّلين بنور الإيمان.

كانت دلال تراقب الوجوه وتصنّف الناس بكسلٍ، وهي واقفة في طابورٍ تنتظر أن يحين دورها لختم جواز سفرها.

لاحظت الفارق بين القادمين لمطار دمشق ونظرائهم في المطارات الأوروبية. في المطارات الأوروبية تكاد لا تقرأ المشاعر وكأن على رؤوس القادمين الطير، وفي مطار دمشق تستطيع أن تتعرّف على تاريخ المسافر القادم وبيئته ككتاب مفتوح.

للحظة عابرة فكّرت في نظرة الآخرين إليها، كيف يمكن لمن يراقبها أن يصنّفها... لا مبالية، لا تشعر بشيء، ساهمة، مرتبكة قليلاً؟.

الرحلة من فرانكفورت إلى دمشق استغرقت أربع ساعات، وقبلها ساعتين بين باريس وفرانكفورت، وبالطبع ساعتين في صالة الترانزيت بفرانكفورت. أمضت الرحلة بكاملها تحاول فعل شيء واحد، محاولةً استعادة الفجوة في ذاكرتها.

كانت قد أدركت منذ سنوات عدة أن هناك حقبة من حياتها مجهولة بالنسبة إليها لا تكاد تتذكّر منها إلا شذراتٍ عابرة.

ليست دلال من النوع الضعيف الذاكرة وهي تتذكر، بوضوح، الحقبة التي سبقت والحقبة التي تلت المرحلة المفقودة. أخبرتها صديقتها شارلوت، وهي اخصائية إعادة تأهيل، أن الأشخاص الناجين من حوادث سياراتٍ مؤلمةٍ والذين مرّوا بظروفٍ نفسيةٍ قاسية، يمرّون أحياناً بحالة فجوات في الذاكرة كنوع من التقنية الدفاعية اللاإرادية، ببساطة يقوم عقلهم بتجاهل الحدث.

قرأت مرة أن الذين يتم اختطافهم من قبل الكائنات الفضائية ينسون كل شيء عن فترة الاختطاف، وابتسمت وهي تتخيل أن كائناتٍ فضائية قامت باختطافها عندما كانت في التاسعة، وأعادتها عندما أصبحت في الحادية عشرة.

قرأت مرة أن الفجوات في الذاكرة قد يكون لها مدلولٌ ميتافيزيائي خطيرٌ له علاقة بأبعادٍ موازيةٍ وعوالم مجهولة، وطبعاً لا نستطيع إغفال الحديث عن النظرية النسبية التي لا تفقه منها شيئاً.

موظف الجوازات يضرب الختم على صفحات جوازات المسافرين بقوّة، ترتجّ صالة القادمين بصوت الختم، ربما كان الموظف يعاني من عقدة نقصٍ ويحاول التعبير عن سطوته وسيطرته ومركزه من خلال ضرب الختم بقوّة.

لا بد لشارلوت من زيارة مطار دمشق وإخضاع موظفيه لإعادة التأهيل. ابتسمت للفكرة وخالجها شعورٌ أنها ستصادف الكثير من المتسلّطين والمستبدّين في وطنها، بعد عودتها عقب أكثر من ثمانية عشر عاماً.

حرّك صوت الختم شيئاً مجهولاً في أعماقها تماماً كرعشةٍ كهربائيةٍ تحرّك ضفدعاً ميتاً.

تراءت أمامها صورةٌ غريبةٌ ومألوفة، صورتها قادمة الى مطار دمشق عام 1990 برفقة والدها، تتذكر الآن الصورة بوضوح، ربما وجودها في المكان ذاته أنعش تلك الفجوة في ذاكرتها. لا شك أن المطار تغيّر كثيراً عما كان عليه آنذاك.

صوت ضرب الختم القوي الذي يذكّرك بمطرقة قاضٍ في المحكمة تكرّر قبل ثمانية عشر عاماً. موظف الجوازات السوري يصدر حكماً بالسماح لك بدخول البلاد أو خروجها، دون أن تجرّ لقسم المخابرات وتختفي عن عائلتك ربما لعقود، الصوت أنعش ذاكرتها أخيراً.

كانت تشعر يومها بالارتباك لفراق أمها، أصرّ والدها على عودتها إلى الوطن يومذاك، وهو اليوم يصرّ على عودتها ثانيةً.

لم تعرف سرّ طلاق والديها حتى الساعة، فضّل أهلها إبقاءها جاهلة ولا تزال. كان من المحرّم في العائلة الحديث عن طلاق أبويها، حتى خالتها سلوى لا تخبرها وربما لا تعرف.

عندما كانت في السابعة توقّف والدها عن المجيء إلى المنزل، كان والدها يعمل في قنصلية الجمهورية العربية السورية في بروكسل، وكانت عائلتها مؤلفة من الأب والأم وهي، يعيشون في منزل صغير وأنيق في إحدى ضواحي بروكسل. بقي والدها لشهور بعيداً عن المنزل، لم تعرف السبب، ظنت أنه في واحدة من أسفاره الطويلة، قدمت خالتها سلوى من باريس لتقيم معهما لأسابيع. لاحظت التغيّر والارتباك في سلوك والدتها والحزن المشوب بالكآبة والفوضى.

سمعت مرة خالتها تتحدث مع أمها عن الطلاق، لم تفهم بوضوح، في البداية، ثم أدركت الحقيقة المرة وتقبّلتها، فقد كانت دائماً تشعر باللامبالاة ولا تزال؛ الكل يصفها منذ صغرها بالهدوء والبرود.

بعد شهور أخبرتها أمها أن والدها سيأخذها لتعيش معه في دمشق، لا تعرف الكثير عن وطنها آنذاك. لم تزره إلا بشكلٍ عابرٍ.

تذكّرت قدومها إلى المطار بشكل واضح. ولا تزال تذكر أن أقرباءها أحاطوها بتيارٍ دافقٍ من الدلال والحنان والرعاية. عماتها الثلاث وجدّتها المتوفية، خالها الذي كان يقيم في دمشق في ذلك الوقت. الكل يريدها أن تقيم في منزله لأيام، والكل يريد أن يقيم الولائم على شرفها. كانت ملكةً متوّجةً في تلك المرحلة. وهنا انتهى دفق ذاكرتها. ولا تتذكر سوى وصولها إلى مطار شارل ديغول بعد سنتين عائدةً لأحضان أمها.

تتذكر صوراً عابرة والكثير من روائح الياسمين الدمشقي العطر. مشاهد عابرة للزبداني وأخرى للأسواق الشعبية ووجوهاً غائمة لأقربائها.

عندما عادت إلى باريس، كانت والدتها قد تزوّجت ووجدت أن فرداً جديداً قدم لأسرتها.

كان زوج والدتها (عمها) رجلاً مغربياً، يدعى شاكر بن عربيّة، يصغر والدتها بعامين. كانت دلال تحبه كثيراً، فهو أقرب للملاك بتصوّفه وهدوئه وبساطته. لم يكن ذكياً. الحق أنه كان بسيطاً لدرجة الغباء، لكنه كان حنوناً وعطوفاً ولا تذكره على الإطلاق حزيناً أو غاضباً.

كان عمها شاكر (كما تسمّيه) من أعيان المغرب الأثرياء ومن المقرّبين للبلاط الملكي، لكن شاكر قرر النأي عن حياة والده السياسية والتجارية فاسحاً المجال لباقي إخوته.

انتسب لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مما أثار غضب والده المحسوب على الملك. تعرّض للاعتقال مرات عديدة، وفي النهاية حصل والده بواسطة معارفه في البلاط على صفقةٍ لإخراجه من السجن بشرط نفيه لفرنسا واعتزاله الحياة السياسية تماماً.

أقام في فرنسا وبدأ مرحلة من التصوّف والتفرّغ للدين، حيث أنه لم يكن محتاجاً للعمل. كان عاشقاً للتراث والفنون ومثقفاً، إلا أنه كان بسيطاً وطيباً وساذجاً. تتذكره دوماً مرتدياً جلبابه المغربي المزركش يشرب الشاي ويستمع إلى الموسيقى ويقرأ الصحف.

كانت والدتها سعيدة بزواجها من شاكر، فهو، وعلى العكس من والدها، يعشق البقاء في البيت، وهو هادئ الطباع جداً وشديد الطيبة. وجدت والدتها فيه ضالّتها، ببساطة حوّلته لدميةٍ صغيرة تستطع أن توجّهه حيثما تشاء وكيفما تشاء. لم يعرف عمها شاكر امرأةً قبل أمها، يبدو أن جمال أمها ورقيّها وقوة شخصيتها قد جعلت منه متيّماً بالعشق. أدرك عمها شاكر بعد سنين أنه عقيمٌ لا أمل له بالانجاب، فبثّ كل ما لديه من عاطفة الأبوة لدلال، حتى أن أمها شعرت في مواطن عديدة بالغيرة.

لم يكن المال ينقصهم، عمها شاكر يستلم كل شهرٍ حوالةً مجزيةً من والده في المغرب ومخصّصاً شهرياً من السفارة المغربية. والدتها أيضاً كانت غنية تصلها في كل سنةٍ مبالغ مالية من سوريا، حيث خالها يقوم بتشغيل أموال ميراثها، كما أنها باعت مصاغها وحليّها بعد طلاقها من والد دلال لتشتري شقةً في باريس وتقوم بتأجيرها، وكان لها دخلٌ ثابت آخر من سنداتٍ وأسهمٍ وحساب ادخار، وبالإضافة لذلك كان والد دلال يرسل مبلغاً شهرياً من أجل مصاريف دلال.

أحياناً كانت والدتها تعمل في التسويق العقاري بشكلٍ عابرٍ من باب قتل الوقت. عمها شاكر أيضاً يعمل أحياناً وبشكلٍ عابرٍ في التجارة البينية مع المغرب. أقام الثلاثة في باريس في منزلٍ جميل بإحدى الضواحي، وتابعت دلال دراستها وظلت على اتصالٍ خفيف بهويّتها من خلال الجالية العربية في فرنسا، وهي جالية كبيرة ومتنوعة. بالإضافة لذلك كانت خالتها سلوى (وهي أقرب الناس لها) مفعمةً بالحيوية والمرح ولها الكثير من المعارف. كانت خالتها سلوى متزوجةً من طبيبٍ سوري ولها أربعة أولاد، صبيان وبنتان من أعمار متقاربة مع عمر دلال، ولهذا لم تشعر دلال بالوحدة يوماً. كان والدها يزورها ويقضي معها بضعة أسابيع كل سنة أو سنتين، فقد توقّف عن العمل في السلك الدبلوماسي وتفرّغ للتجارة والأعمال في دمشق.

زياراته كانت أقرب لأداء الواجب ولكنها كانت تستمع برؤيته. يأخذها عادة في جولاتٍ لسويسرا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا ومناطق أخرى.

كانت دلال هادئةً دوماً، أحياناً تبدو خجولةً وأحياناً رزينةً. الحقيقة أنها كانت تعاني من أميّة المشاعر، لا تفهم مشاعرها بشكل جيدٍ ولا تستطيع تفسير ما تمرّ به، وعادةً لا تشعر بشيء، ولا توجد عندها مسافاتٌ كبيرةٌ بين المشاعر المتضاربة، فالفرق بين الحزن والفرح عندها هامشيٌّ جداً، حتى والدتها وخالتها لا تستطيعان فهم حالها بشكلٍ دقيق.

ولم ينبض قلب دلال يوماً بالحب، شعرت بإعجابٍ عابرٍ مراتٍ عديدة، وحاول بعض الشباب العرب والفرنسيين التودّد لها، ولكن تحفّظها وبرودها والحواجز النفسية التي تتقن بناءها كانت تحول بينها وبين أي علاقة حب جدية.

عندما أصبحت في السادسة عشرة تحولت لحوريةٍ جميلةٍ، مزيجٌ بين الرقيّ والاناقة الغربية والجمال الدمشقي، عيونٌ سوداء واسعة، بشرةٌ بيضاء رقيقة جداً ولكن بدرجة أقل مما لدى الأوروبيين، شفاهٌ رقيقةٌ، أنفٌ صغيرٌ ووجهٌ مربعٌ وشعرٌ يمزج السواد بالكستناء. كانت تفتن الفرنسيين والعرب، على حد سواء، بنحافتها وهشاشة جسدها وصوتها المنخفض وأناقتها ورقيّها، وطبعاً بغموضها وهدوئها وتحفّظها.

تفرّغت لدراسة الحقوق بعد المرحلة الثانوية، وأمضت ست سنوات في أكثر من جامعة لتحصل على الماجستير في الحقوق، وتخصصت في القوانين التجارية وحوكمة الشركات.

طوال الأعوام الجامعية الستة لم يكن لها أي ارتباط جدّي بالجنس الآخر، باستثناء علاقاتٍ اجتماعيةٍ لا تتعدى حدود الصداقة. كان هناك جدارٌ فولاذيٌّ يحجزها عن الرجال. لم ينبض قلبها للرجال كثيراً، ولعل السبب أن من عرفتهم من الرجال كانوا مفرطين في أناقتهم ورقيّهم وتهذيبهم، وكانوا يستسلمون أمام صدّها الأوّلي ولا يعاودون الكرّة. بالإضافة لذلك فإن جذورها الشرقية أبقتها حذرةً مع الرجال ومتحاشيةً كل ما يخترق خصوصيتها وعفّتها.

back to top