«يبرز» البلجيكية... حاضرٌ بعبق الحرب العالمية الأولى

نشر في 28-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 28-08-2014 | 00:01
تقول قصيدة قديمة: {في حقول فلاندر، تتفتح زهور الخشخاش/ بين الصلبان، صفاً تلو الآخر}. وسط تلك الحقول تقع يبرز التي تطاردها أشباح الحرب العالمية الأولى وتدعم استمرارها.

يحفل متجر British Grenadier لبيع الكتب بالخوذ والقذائف والخرائط. وتنطلق الجولات في المقبرة كل ساعتين، كما يبدو. كذلك تحدق الوجوه الكالحة في الناس من داخل علب العرض الزجاجية المصممة بإتقان في متحف حقول فلاندر.

وعندما تشارف الساعة على الثامنة من مساء كل يوم، توقف السلطات حركة السيارات في مدخل المدينة الشرقي، الذي يشتهر أيضاً ببرج ساعة يصل ارتفاعه إلى 125 متراً ومتاجر فاخرة تبيع الشوكولا.

عندما تفرغ الطريق، يجتمع حشد كبير في نصب Menin Gate Memorial to Missing، الذي تشرف عليه لجنة الكومنولث لمقابر الحرب والذي يحمل أسماء من ماضٍ بعيد، ويلتزم الصمت. يحمل الأعلام رجال مسنون يرتعشون مات آباؤهم هنا على الأرجح. توضع على النصب أكاليل من زهر الخشخاش الأحمر، فيما يؤدي فريق من عازفي الأبواق لحن Last Post.

باستثناء فترة الحرب العالمية الثانية، تكرر يبرز هذه الطقوس كل ليلة منذ شهر يوليو 1928. قد تدوم هذه المراسم بضع دقائق خلال أمسيات الشتاء. ولكن في ليالي مطلع مايو حين شاركت فيها، كانت أعداد الأكاليل والناس كبيرة. ضم الحشد أناساً من خلفيات عدة من مسؤولي البلدات الصغيرة المحيطة إلى نوادي الدراجات النارية. وقد استغرق البرنامج نصف ساعة. قالت امرأة بريطانية، فيما راحت تتأمل النقوش على النصب التذكاري: {كم عددها كبير!}.

تشكل يبرز المدينة التي أبى البريطانيون التخلي عنها، حتى بعد أن دُمرت بالكامل. عندما تفوق الألمان بسرعة على الجيش البلجيكي في مطلع الحرب، سارع البريطانيون والحلفاء إلى خوض معركة مريعة هنا في أواخر عام 1914، وأخرى في ربيع عام 1915. وفيما تواصلت الحرب بين الطرفين، شهدت هذه المنطقة معارك أخرى في عامَي 1917 و1918، معارك ازدادت سوءاً بسبب ابتكارات مثل الغازات السامة، البنادق الرشاشة، والدبابات.

وفق إحصاءات المتحف، مات نحو 550 ألف جندي في يبرز المحاصرة ومناطق غرب فلاندر المحيطة كان معظمهم من الكومنولث البريطاني، فرنسا، بلجيكا، وألمانيا. لكن 411 أميركياً دُفنوا في مقبرة ونصب حقل فلاندر الأميركيين في منطقة وارجيم على بعد 28 كيلومتراً تقريباً عن يبرز.

جنود نجوا

من الجنود الذين نجوا من حصار يبرز ونستون تشرشل البالغ من العمر 41 سنة، الذي خدم فترة وجيزة كمقدّم في القوات البريطانية في منطقة بلويغستيرت التي تقع جنوب البلد على بعد 16 كيلومتراً تقريباً. وبعد سنتين، أصيب عريف ألماني في التاسعة والعشرين من عمره يُدعى أدولف هتلر بالعمى موقتاً خارج يبرز، ربما بسبب هجوم بريطاني بالغازات السامة.

ما زال المزارعون يعثرون حتى اليوم على أسلحة. لكن وسط بلدة يبرز قد تبدل كثيراً. صحيح أن الحرب قوضت المدينة برمتها (اقترح تشرشل على ترك الحطام على حاله كتذكار)، أعادت بلجيكا بناءها وفق هندسة القرون الوسطى.

تضم يبرز اليوم، التي تبعد نحو ساعتين بالقطار عن بروكسل، 35 ألف ساكن من الطبقة الميسورة، فضلاً عن أنها تكتسب بسرعة شهرة كمقصد سياحي خلال نهايات الأسابيع. في شهر يوليو، كانت نقطة انطلاق المرحلة الخامسة من سباق فرنسا للدراجات. إن لم تكن مطلعاً على تاريخ هذه المنطقة، تظن لا محالة أن {كلوث هول}، المبنى الذي يضم برج الساعة، يقف ثابتاً في مكانه منذ عام 1304. يضم المبنى اليوم متحف In Flanders Fields Museum، فضلاً عن مكتب سياحي متطور. ويمكنك من على البرج التمتع بمنظر خلاب ومزعج في آن. ولا يعود ذلك إلى الحرب فحسب.

مهرجان القطط

حتى مئتي سنة مضت، اعتادت البلدة رمي هر حي من أعلى البرج. في عام 1955، أعاد بعض سكان البلدة إحياء هذه العادة، وحولوها إلى ما يُدعى {كاتنستاوت}، مهرجان للقطط على أنواعها يجذب السياح من دول مختلفة وصولاً إلى اليابان. يتضمن المهرجان مهرجاً يتسلق البرج ويرمي لعباً على شكل قطط نحو الحشد. يُنظم كل ثلاث سنوات، وسيُقام المهرجان التالي عام 2015.

في الوقت عينه، لا تزال الحرب الكبرى مستمرة ليلة بعد أخرى. يخبر المسنون أن الجولات في المقابر بدأت في سبعينيات القرن الماضي. تقوم مجموعات التلامذة بجولات خلال النهار في هذه المواقع التاريخية، في حين يمضي الزوار عادةً نصف النهار في تأمل المقابر وساحات القتال، نصف النهار الآخر على الدراجات الهوائية والنارية، ونصف الليل في تذوق مطبخ هذه المنطقة.

في مطعم In’t Klein Stadhuis في الساحة الرئيسة، تدفع 25 دولاراً لقاء طبق من الأرانب والخوخ. أما فندق Albion الذي افتتحته عائلة محلية عام 2000، فزاد عدد غرفه هذه السنة من 23 إلى 32، وتتراوح أسعاره بين 120 دولاراً و200 دولار في الليلة. كذلك تستطيع في مخيم Juegdstadion Ieper أن تستأجر دراجة هوائية مقابل 15 دولاراً في اليوم وتقودها على طول درب القناة الخلاب، مجتازاً مسافة 20 كيلومتراً إلى بلدة ديكسمويد التي تعود إلى القرون الوسطى.

لقاء 55 دولاراً تحصل على جولة في حافلة صغيرة مدتها أربع ساعات في ساحات القتال والمقابر. راح الدليل السياحي أندريه شوبرويك بعض ظهر أحد الأيام يقول، مصطحباً بعضاً منا إلى عيادة ميدانية قديمة في مقبرة مزرعة إسكس، حيث كان الأطباء يفرزون الضحايا: {هنا انتشرت الغرغرينة}.

من الأطباء الذين عملوا هنا جون كاكراي، مقدم كندي وشاعر كتب قصيدة In Flanders Fields خلال مراسم دفن صديق له عام 1915.

يخبر شوبرويك أنه {رماها}، إلا أن مراسلاً عثر عليها، و{استخدمت لأغراض دعائية، فحققت النجاح}. إلا أن هذه الحقول ذاتها دفعت بجنود آخرين، بمن فيهم ويلفرد أون وسيغفريد ساسون، إلى كتابة بعض أجمل الشعر المناهض للحرب في القرن العشرين.

توقفنا لاحقاً في سانت جوليان، حيث يهيمن فوق الجنود الكنديين تمثال فريديريك تشابمن كليميشا المهيب Brooding Soldier، الذي نحته عام 1923. بعد ذلك، انتقلنا إلى لانغمارك، حيث تظلل أشجار سنديان طويلة مقبرة الجيش الألماني بقبورها المسطحة التي تضم 44304 جندي ألماني، 24917 منهم في مقابر جماعية. وأخيراً زرنا مقبرة تاين كوت، مقبرة الكومنولث البريطانية الأكبر في المنطقة.

هناك بين أكثر من 11900 ضريح لا يحمل معظمها اسماً صادفنا 40 مراهقاً ومراهقة بريطانيين يرتدون زي المشاة القديم. فراحوا يتجولون بين القبور، قارئين ما كُتب عليها.

أخبرني أحد الصبية أن الهدف من رحلتهم جعل درس التاريخ أكثر تأثيراً. لا أعرف ما إذا كانت تجربتهم قد نجحت. إلا أنها أثرت فيّ، وخصوصاً حين رأيت تلك الوجوه النضرة إلى جانب كل تلك الأضرحة القديمة.

back to top