شظايا في عيون بغداد

نشر في 23-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 23-08-2014 | 00:01
No Image Caption
حين عبرتُ الدنيا من نيوجرسي إلى بغداد وجدتُ نفسي أشكو وأتساءل: متى يدرك الأميركي أن الخروف لا يأكل اللحوم، وأن نجوم السماء ليست خداع بصر مثل نجوم السينما في هوليوود، وأن نهر الفرات لا يمر ببغداد، وأن كلمة شُراب باللهجة المصرية لا تعني شراباً باللهجة العراقية، وأن الخربشة بمنطقة الشرق الأوسط لا تعني تسكيناً ديمقراطياً في القرن الحادي والعشرين، بعد أن نال الإنسان المسكين فيها كفاية من العذاب في القرن العشرين...

لست دبلوماسياً ولا عسكرياً. بالطبع لست سائحاً لكنني صحافي. أنا بول جيرارد أوفدتني صحيفتي، بأمرٍ رسميٍّ، لمغادرة نيوجرسي على الفور والذهاب إلى بغداد لمشاهدة ومتابعة أحداث المستقبل عن كثب، وكتابة شذرات عنها بعد بدء تطبيق نزعة شيطانية أطلق عليها بحماسة عنوان: تحرير بلاد الرافدين. لا أدري هل أن ما أكتبه سيكون كتاباً شعبياً، أم أنه سيكون من وسائل التشويش التاريخي، أم أن ما أكتبه قد يرتفع قليلاً أو كثيراً فوق المستويات البائسة التي تكتب الآن عن العلاقات بين الدول العظمى والدول الصغرى.

بهذه الكلمات ودعتُ زوجتي قبل يوم واحد من سفري، رغم أن الضيق كان يضغط على صدري بقوة وكان النوم يبتعد عني ببطء شديد، غير أني لم أكن ضجراً من واجب السفر إلى ساحة حربية، متوقعاً نشوب النار فيها خلال ساعات أو أيام. لم أكن خائفاً من الموت، لكنني أحسستُ أن الحرية الأميركية تموت اختناقاً، لأن حكومتنا قررت أن تسرّ نفسها بإخافة نفسها من شبح هي صنعته، شبح صدام حسين.

تريد إسقاطه في لحظة ما زال فيها هذا الشبح ليس خائفاً. نظرت إليّ الجميلة بلمسة نور من عينيها لتقول لي بشكّ وقلق واضحين:

اتضح لي من جميع خطابات رئيس أقوى دولة بالعالم على الشاشات التلفزيونية، أنه عاجز عن تقديم شرحٍ وافٍ حول أسباب غير مقنعة، دعته إلى اتخاذ قرار غزو بلادٍ باسم تحريرها، رغم أنه كان متقداً برغبة عارمة ليجعل العالم كله عارفاً بأنه قرر أن يشعل ناراً حارقة لا يعرف من سيحترق بها، ومن يبقى حياً وسطها لسنوات قادمة.

كنت مثلها في حالةٍ من القلق فعقبت على كلامها بصوتٍ خافتٍ:

نعم يا عزيزتي... من يستحمّ بحمام الحروب، لا يخرج منه سليماً أو معافى. بعضهم يخرج منه محطماً، بعضهم جريحاً، بعضهم يرتكب فعلا محرّماً، بعضهم حزيناً. لا يأتي من الحرب غير الفناء.

تجارب التاريخ الحديث تساعدني في الاستنتاج مقدماً أن الحرب الجديدة، رغم أنها حرب الأقوى ضد الأضعف لكن ليس فيها مروّج، بل هي كما غيرها، دورة عذاب في مغارة مظلمة، رطبة، لعينة. تبدو لكل مواطن أميركي ذكي، أنه كمن يسير في غابة ثلجية بلا معطف، أو كأنه ممثل مسرحي جديد لم يقرأ أية مأساة يونانية، أو أنه مخرج سينمائي يُخرج فيلماً بلا سيناريو، أو في أقل الأحوال كمن يدخل سرداباً مظلماً بلا مصباح.

صاحب القرار الأميركي رأى الدنيا بعينيه في البداية من شهر مارس 2003 كأنه يوم عيد، من دون أن يقتنع بأن القرار جاء حصيلة مجموعة من جهد كبير، مبني على مستودع أكاذيب تدفقت على البنتاغون وعلى السي آي أي، نقلتْ صوراً ومعلوماتٍ عن أن أميركا ستواجه كارثة أعنف من حصاد 11 سبتمبر، أو أن الجنس البشري، كله، سيواجه أعظم الأخطار في التاريخ بسبب إيحاءات تقارير، سرية وعلنية، تشير إلى أن بلداً صغيراً اسمه العراق، امتلك أسلحة جنونية، فتاكة، عابرة للقارات العائمة فوق خليط عجيب من بحار القوى الإعلامية القادرة على نشر معلومات تتسم بمبالغات، قد لا تستطيع إقناع غير قرائها من القادة الغربيين بصحتها وصوابها، لأنهم هم الذين يصنعون، بأقاويلهم، ذلك الخليط من المعلومات نفسها، ثم ينضمون إلى صفوف السادة الساسة مصدقين تلك التقارير، مثلما واصل وزير الخارجية الأميركي شرحاً تفصيلياً في مجلس الأمن، أمام أنظار العالم أجمع، عن امتلاك حكومة العراق لأسلحة يؤدي انفجارها إلى إنهاء المنجزات الحضارية للإنسان في القرنين الماضيين.

قال مثقف فرنسي لا أتذكر اسمه ضمن معمعة المعارضين العالميين للحرب: إنذار تنتهي مدته بعد ثمانٍ وأربعين ساعة، وجّهه أفعوان جبار متكبر من سموات القارة الأميركية البعيدة، لضرب أرض بابل المرتعدة. ستقوم حرب نارية كبرى اعتماداً صعباً على نظرة مستمدة من عسكري جاء إلى منصة السلطة السياسية وزيراً للخارجية في أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ... لا تحمل مخططاته غير مفارقة مثيرة للسخرية، لتحريض العالم برابط كلمة واحدة عنوانها العراق، على أساس أن هذا البلد الصغير يملك تراثاً سرياً من أسلحة الدمار الشامل، مما يستوجب على الأميركان الذهاب إلى ميدان الحرب ناشطين بجيل جديد من أسلحة التدمير الشامل، مغطين وجوههم بكلمات عن الحرية والديمقراطية، من شأنها تسهيل ابتلاع القرش الأميركي لسمكة صغيرة في الشرق الأوسط.

صاحت بعض سيدات البيت الأبيض قبل مغادرتي إلى العراق وبعدها:

ليكن الله معكم لتنفيذ قرار تنحية دكتاتور عن عرشه... يا له من قرار جميل حين تنتصر أميركا، حين تنتصر ثقافة الغرب وحضارته على جهلٍ شرقيِّ وعلى حضارة قديمة. كما سُمع في شوارع واشنطن صياح بعض أمهات الجنود العابرين للقارات قبل مغادرتهم وبعدها:

يا للكارثة... ربما لا نصيب لأولادنا من العودة سالمين.

مظاهرات كثيرة في شوارع مختلفة من عواصم القلق والفزع، وفي عوالم الفن والأدب، كلها تحتجّ على الحرب، كل المتظاهرين يؤيدون أمهات كثيرات ذهبن إلى كنائس مختلفة في ولايات أميركية مختلفة، وقفن أمام تمثال السيدة مريم يستحلفنها أن تنقذ أبناءهن من الموت. لكن الرئيس الأميركي لا يسمع ولا يرى.

كان الرئيس نفسه يصيح بأعلى صوته مناشداً العفاريت والشياطين:

ساعدونا كي تعيش أميركا بأمان.

ثم يصيح بهمس لا يسمعه غيره:

أغيثوني يا ملائكة الله...لا بد أن تعيش أميركا بأمان...

قال وزير الدفاع:

لا تتركوا مقترفي الجرائم في العراق يفلتون دون عقاب.

استولى الذهول على العالم كله حين عبَر مائتا ألف جندي جسور السماء وجسور البحار المشيدة بأرقى وسائل العلوم والفنون العسكرية، كي تجعل العام 2003 زماناً جديداً يختمر فيه اختماراً مشتعلا، شيطانه القوة وقوته شيطانية... بدأت الحرب، لكن العالم نفسه فقد عينيه. لم يعد قادراً على عدّ جثث الضحايا، رغم وجود سياسيين منجمين يتقنون فنون الحرب السحرية، مثلما يتقنون كلمات السلام المصاحبة لدويّ الصواريخ ونيرانها، بل أن كثيراً من دول الغرب وحكوماتها صاحت هي الأخرى:

- يا لبهاء أميركا... يا لقوتها العسكرية المنقذة... اقبلونا حلفاء..!

حتى بعض القادة العراقيين من الذين عقدوا مؤتمرهم في لندن (ديسمبر 2009) استمتعوا بقرار الحرب مرحبين به بحرارة، معتقدين أنهم سيكونون قادرين على استغلاله، لأنه سيضع الذهب الأحمر والأصفر والأسود كله بين أيديهم، حين تنزع الصواريخ تاج الدكتاتور ومعطفه العسكري، ويدوسهما جنود أجانب أمام القصر الجمهوري في الكرخ ليرميانهما في ماء دجلة.

من السهولة الآن أن أكون قادراً على تحديد نتائج توصّل إليها السيد الرئيس، في تأملاته السياسية الحالمة بالسيطرة على خطوط الطول والعرض كلها في الشرق الأوسط، وفي الخليج النفطي العربي، مثلما كان الأمير هنري الملاح، في الزمان القديم، يحلم بتأملاته في السيطرة على كل سبل الملاحة البحرية المؤدية إلى الشرق الأقصى.

back to top