سيقان ملتوية

نشر في 23-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 23-08-2014 | 00:01
No Image Caption
سبقني زياد إلى الدنيا قبل ثماني سنوات من مولدي، همست أمه في أذنه وهي تضمّه إلى حضنها لتقبّله قبلة أمومتها الأولى: «كنتُ أتمنّى أن تُبصر النور في موطن أجدادك». انزلقت دمعتان حارّتان على جبين طفلها الصغير، الذي لم يستوعب حينها مضمون الدرس الأوّل. عوّض أبواه وطنهما المفقود فيه، تُهدهده أمه في حجرها لينام على أهازيج فلسطينية، مازال بعضها محفوراً على جدار ذاكرته. حين ينغز خاصرتيه الفراق، ويحنّ لحضن أمه، يُردّد كلماتها في صوت خافت «نيّمتك في العلية... خوفي عليك من الحيّة... على صوتك ينام تعاليله يا بدرية... بركن نيمتك بالمرجوحة... خوفي عليك من الشوحة... بركن على صوتك بنام تعاليله يا عندوره». اضطرّت أسرتا والديه اللتان تربطهما صلة قرابة، إلى النزوح من بلدتهما «البريج» إلى الأردن، حيث حصلا لاحقاً على الجنسية الأردنية. كانت أمّه في الثامنة من عمرها عندما خرجت من بلدتها، وأبوه في الخامسة عشرة. بعد هزيمة العرب سنة 1967 تغيّرت نظرة أبيه للحياة، تملّكه يأس عارم، استحوذ على فكره القنوط من إمكانية العودة. في الأيام الأولى للحرب كان يمشي متبختراً كلّما أعلنت إذاعة صوت العرب سقوط عشرات الطائرات، وتحطيم مئات الدبابات التابعة للعدو الإسرائيلي، ظلّ يُهدهد حلمه في العودة منذ أن يفتح عينيه مع إطلالة كل صبح، يُتابع الأخبار بلهفة المتعطّش للارتواء بعد سنوات طويلة من الظمأ. مع إعلان هزيمة الجيش العربي أو كما أُطلق عليها لاحقاً «النكسة»، دوّت صرخات الألم في دواخله، لفح سواد الحزن وجهه، ظلّ فترة معتكفًا في البيت، رافضاً التحدّث مع أحد، ينخرط في البكاء طوال الليل كطفل رضيع يحنّ لثدي أمه. يقلّب في ذاكرته أزقّة قريتهم الصغيرة وحاراتها، مزرعة أبيه التي استولت عليها العصابات اليهودية، يستعيد مشهد أمّه وهي متشبّثة بأغصان شجرة الزيتون حين حانت لحظة الرحيل. علّق فوق سريره لوحة صغيرة، سطّر فيها أبياتاً شعرية لنزار قباني... «أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة والكتب القديمة. أنعي كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة ومفردات العهر والهجاء والشتيمة. أنعي لكم، أنعي لكم. نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة. يا وطني الحزين حوّلتني بلحظة. من شاعر يكتب شعر الحب والحنين. لشاعر يكتب بالسكين». كل صباح يمرّ عليها بعينيه قبل أن يستهلّ يومه. مثل البشر كافة، انزلقت سنوات الفجيعة إلى سفح ذكرياته، سلّم خيبته للأيام، انخرط في عمله مصوّراً، صادف أن كان مدير إحدى وكالات الأنباء العربية في بريطانيا، وهو من أصول شامية، في زيارة لعمّان، أعجبته الصور التي التقطها له في حفل زفاف أحد أقاربه، عرض عليه أن يعمل لديه مصوّراً فوتوغرافياً، لم يتردّد هنيهة، كان يودّ الهرب من كوابيس الهزيمة التي تقضّ مضجعه. عند قيام حرب 1973، عادت الفرحة تقرع طبولها في دنيا والده، أخرج مفتاح بيتهم في «البريج»، أعاد تلميعه، نفض الغبار عن صكوك أملاك أسرته، هيّأ نفسه للعودة، غدا يمشي مختالاً على أرضية آماله، يغنّي بصوت جهوري «وطني حبيبي الوطن الأكبر»، عند كل نهار جديد، يقشع الستائر عن نوافذ بيته، يترقّب قدوم منادٍ يحمل له تباشير النصر. ذات ليلة دخلت عليه زوجته حجرة النوم، وجدته يضرب رأسه في الجدار وقد سال الدم من جبينه، هرعت نحوه، أمسكت به، ترجّته أن يتوقّف، قالت له بهلع «ماذا جرى؟!» صاح فيها «نكبة جديدة. الرئيس أنور السادات باع القضية الفلسطينية. سيزور القدس دون أن يُساوم على حقوقنا!». من يومها أصابه داء البكم، لم يعد يردّد أغنية «وطني الأكبر»، صار يتجنّب التطرّق إلى قضية العودة، ظهور ابنه زياد على مسرح حياته، أعاد السرور إلى نفسه، انتشله من دوامة انكساراته، حطّ همّه في تعليمه، تعوّد أن يقرصه من لحمة أذنه قائلاً له بحزم: «يجب أن تحصل على شهادة عالية، من دونها ستصبح في العراء. ليس لك وطن يحميك من طعنات الزمن». أحياناً يغلبه الشوق، يخترق صمته، يأتي لزياد وهو يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى، طالباً منه بنبرات دهكها الحنين، أن يدخل على شبكة الإنترنت، ويفتح على خريطة فلسطين، يريد أن يعرف هل تغيّرت مدنها، قراها، طرقاتها، شوارعها، حوانيتها، بساتينها التي تحيط بها... كان زياد يُجاريه مدركاً أن فلسطين التي تركها وراءه لم يعد لها وجود، وأنّ هويّتها أصبحت يهودية، لا تمتّ بصلة لماضي أبيه المنحوت في أعماقه. التحق زياد بجامعة لندن University of London، حصل على شهادة البكالوريوس في الدراسات الشرق أوسطية BA Middle Eastern Studies. ساعده والده بعد تخرّجه في العمل مترجماً في وكالة الأنباء التي تعرّف فيها إلى صديقه جورج. لم يكن خافياً على المحيطين به شغفه بفنّ النحت منذ صغره، اهتمَّ بالحصول على دورات عديدة، لفتت أعماله الفنية الأنظار، حرص على استقطاع جزء من دخله للقيام برحلات سياحيّة حول العالم، كل بلد زاره نحته في ذاكرته، قد تكون عينان، أو شفتان، أو صفحة وجه ملائكي، أو جسد عاجي، أو يكون مشهد من الطبيعة جذب انتباهه، كموجة بحر، أو ربوة ناعمة، أو محطة قطار قديمة مهجورة. اعترف لي بأنّ روحي شدّته منذ الوهلة الأولى، وأنّ ضحكاتي السخيّة أضاءت جنبات قلبه، وأنّ شعوراً مبهماً بأنّني سأغيّر مجرى قدره. أنّني سأكون وطنه الذي سقط منه في زمان ما، وفي غفلة عن أهله البسطاء، داهمه كل هذا وهو يراقصني.

***

تحاصرني أحياناً جحافل الحيرة من أفعال زياد، يتصرّف بطريقة تخرجني عن طوري، يختفي من ساحة حياتي، لا يردّ على اتصالاتي، يتجنّب لقائي، عاتبته مرّة بحدّة بعد استمرار غيابه عدّة أيام دون أن أتلقّى أيّ اتصال هاتفي منه، عبّرت له عن تذمّري من مزاجه المتقلّب، رشقني بسهام نارية قائلاً بنبرة منفعلة: {أعذرك فأنت تنتمين لبلد نفطي. لم تُجرّبي الحرمان. لم تتذوّقي المهانة. لم تحسّي يوماً بمعنى فقدان الهوية}.

نظرتُ إليه مندهشة: {أنت تقول هذا يا زياد!! أنت لم تعش هناك لتولول هنا طوال الوقت. لا تغضب منّي!! أنا أراك دخيلاً على ذاك الوطن. الفلسطينيون الحقيقيون هم أولئك الذين يتلقّون الرصاصات القاتلة بصدورهم العارية دون أن ترتجف أجفانهم}.

هدأت أنفاسه المبعثرة: {معك كل الحق، لكنّني كلما قررت تمزيق هذه الصفحات المأساوية، زارني طيفا أبي وأمي في مناماتي، أصحو مفزوعاً على نظرات أبي المكلومة وتأوّهات أمي الحزينة، فتهزّني من أعماقي، تنبّهني أنّ الماضي لا بدّ من أن تمتد جذوره للحاضر والمستقبل، وأن أصولنا هي التي تصنع شخصياتنا سواء رضينا أو أبينا}. أطبق كفّه على كفي متابعاً: {انظري الفارق بين كفّينا!! هذا الفارق صنيعة ربّانية ليس للبشريّة دخل فيها، لكنّ هذا لا يعني نكران الهوّة التاريخية التي تفصل بيني وبينك. أنت فتاة يشعّ من ملامح وجهها النعيم، ويفوح من إبطيها عبق العطر الشرقي، وأنا رجل أتى أهله من أرض انتهكت بكارتها بمباركة العالم المتمدّن}.

أستحضر بسعادة أين اعترف لي زياد بحبّه، كان ذلك يوم سبت في شقته، وقد انبطحنا بكامل جسدينا على سجّادة متوسّطة الحجم، أعجمية الصّنع، تفترش أرضيّة غرفته، ذهني مشغول بتقليب كتيّب صور لأحد المعارض الفنّية. سحبه زياد على حين غفلة من يدي، لمحتُ بريقاً متّقداً يطلّ من فسحة عينيه وهو يقول بمرحه المعتاد {اسمعي. أريد أن أراك في الخمار الأسود}.

ضحكت معلّقة: {هل تفكّر في تنقيبي من رأسي لأخمص قدمي، وضمّي إلى واحدة من الجماعات الإسلامية المتطرّفة؟!}.

{بل أريد اختراق الأزمنة الغادرة التي تحول بيني وبينك. أمحو من خلالك كل المؤامرات التي حيكت لتفريقنا. كسر القيود التي تعزل روحينا. هناك قصيدة جميلة قرأتها ورسخت في ذاكرتي لشاعر عربي من مكّة، ذكرها الأصفهاني في كتابه الأغاني، يقول مطلعها... قل للمليحة في الخمار الأسود... ماذا صنعت بزاهد متعبّد... آه يا سارة. أنا العبد الفقير الهائم في محراب حبك. مولاتي شهرزاد. هل تقبلين بي عاشقاً؟ هل توافقين سيّدتي أن يحبّك رجل لا يملك سوى قلب مكسور، وسائح على باب الله أمنيته أن تكوني وطنه الصغير؟!}.

يومها غمرتني الفرحة، انعكست آثارها على صفحة وجهي، حضرتني عبارات ربيكا: {لا تكترثي بعادات التخلّف التي جاء منها والدك. لا تفسحي أمامها المجال لتهزم حبّك. عيشي اللحظات كما تريدين ما دامت فيها سعادتك. السعادة أنفاسها قصيرة وتضيق ذرعاً بمن لا يُقدّرها وتفرّ دون أن نلحظ غيابها}.

أحببتُ جنون زياد الذي يهبّ من أعماقه مثل زمهرير الشتاء المباغت، عشقت الدفء الأهوج الذي يربض في عينيه، أستعيد عبارته التي يردّدها: {نحن شعب دفعه الحرمان إلى اختزال الحياة، وتجرّع كأس العمر دفعة واحدة}.

أكتئب أحياناً، وأضحك أحياناً أخرى، كلما حضرتني أحاديث ومواقف حدثت لي مع زياد. سألني في واحدة من جلساتنا: {هل شاهدت فيلم {تقرير أقلية} Minority Report للممثل توم كروز Tom Cruise؟!}.

{نعم. لكن لم ترقني أحداثه. شيء مرعب أن نُحاكم على ما نفكر فيه داخل عقولنا. كيف يمكن معاقبة شخص على جريمة خطط لها ولم يرتكبها؟!}.

{آه يا سارة... ليت الإنسان ينجح في استشراف المستقبل ويقدر بالفعل على منع الجرائم قبل وقوعها، خاصة تلك المتعلّقة بسرقة الأوطان}.

أتذكر زيارتنا لمعرض الفنان سلفادور دالي، تناقشنا طوال الطريق حول لوحاته ومجسّماته، عن تفاصيل حياته التي كان يكتنفها كثير من الغموض، وعن نهايته المفجعة. قلتُ: {شيء مؤسف أن يموت فنّان بهذه القامة بهذه الطريقة البشعة}.

{الفنان الحقيقي لا بدّ أن يتقمّصه شيطان الإبداع ليخرج إبداعاً مميّزاً. شيء رائع أن يودّع الفنان الحياة، وهو يحتضن بعينيه فنّه الذي أفنى عمره من أجله}.

أخذتنا أقدامنا دون أن ندري إلى محطة ووترلو Waterloo، سألني: {هل قرأت كتاب عزيز نيسين... مرحباً يا عمري السبعين؟ في واحد من فصول الكتاب يسأل البطل حبيبته إن كانت ترغب في ركوب حافلة لا تعرف خط سيرها، أو ركوب سفينة ستبحر في بحر مجهول، أو الركوب في قطار يقودها إلى محطة غير معروفة!}.

لحظتها شددته من يده قائلة: {لنرَ من فينا الأكثر جنوناً}.

قطعنا تذكرتين إلى مدينة برايتون Brighton وهناك فاجأنا المطر، خلعت حذائي، أخذت أرقص حافية على الشاطئ وسط الرمال وهو يحوطني بمعطفه الجلدي قائلاً بنبرة حانية: {ستصابين بنزلة برد أيّتها العاشقة التي لن أكفّ عن حبّها يوماً. أعترف بأنّك أكثر جنوناً من بطلة عزيز نيسين، بل ومن سلفادور دالي نفسه}.

back to top