الجانب المظلم من الفيزياء

نشر في 21-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 21-08-2014 | 00:01
 ماريا سبيروبولو  قبل ما يقرب من قرن من الزمان، اكتشف العلماء أول مجرة غير مجرتنا، وبعد عشر سنوات اقترح علماء لأول مرة نظرية مفادها أن الكون آخذ في الاتساع، ومنذ ذلك الوقت أسهمت تطورات تكنولوجية مذهلة في إحداث تقدم ثوري في الفيزياء والفلك وعلم الكونيات وعلوم الحياة.

واليوم تقف الفيزياء عند عتبة جديدة تماما، ففي الرابع من يوليو من عام 2012، شهد مجتمع الفيزياء الدولي اكتشافاً عظيم الأهمية في تاريخ فيزياء الطاقة العالية: أو بوزون هيجز (جسيم هيجز)، يُعَد بوزون هيجز، الذي ظل وجوده لفترة طويلة مجرد افتراض، العنصر الضروري الذي يثبت مصداقية النموذج العياري للجسيمات الأولية باعتباره "مخططاً أولياً" للكون الحقيقي، وبوزون هيجز يعطي هذه الجسيمات كتلتها؛ وبدونه يصبح العالم المادي كما نفهمه بلا ذرات، أو كيمياء، أو حياة.

وقد تطلب التوصل إلى هذا الاكتشاف الذي كان حتى ذلك الوقت مجرد تكهن نظري الاستعانة بواحد من أضخم المشاريع العلمية وأكثرها تعقيداً على الإطلاق: إنشاء مُـعَجِّل الجسيمات، أو مُـصادِم الهدرون الكبير، بالقرب من مدينة جنيف، ومن المرجح الآن أن توجه البحوث التي أجريت في مصادم الهدرون الكبير فهمنا للكون من أصغر الجسيمات الأولية إلى دراستنا في عِلم الكونيات، وفي الفترة من 2010 إلى 2012، أنتج مصادم الهدرون الكبير محاولات مصادَمة البروتون بالبروتون الأعلى طاقة على الإطلاق؛ ومن المنتظر أن ينتج مصادمات أعلى طاقة في عام 2015.

وقد توقع علماء الفيزياء لفترة طويلة أن يكشف مصادم الهدرون الكبير عن قطاع جديد من الجسيمات والحقول المرتبطة بـ"الانكسار المتناظر الكهروضعيف" ومادة الكون المظلمة، وقد ارتكز هذا التوقع على ملاحظتين تجريبيتين كبريين: الأولى كانت التكتلات من بوزونات دبليو وزد، وهي رُسُل التفاعلات النووية الضعيفة المسؤولة على سبيل المثال عن الشمس المشرقة، وكانت الثانية متمثلة بمجموعة كبيرة من الملاحظات الفيزيائية الفلكية، التي تشير إلى ضرورة وجود "سقالات" الجاذبية في الكون: وهي المادة المظلمة اللازمة لمنع النجوم والمجرات من التباعد.

ورغم أن اكتشاف بوزونات هيجز ربما يساعدنا في فهم مصدر كتلة الجسيمات الأولية (بما في ذلك كتلتها ذاتها)، فقد فاجأتنا الطبيعة من ناحيتين: أولا، سنجد أن كتلة بوزون هيجز القابلة للقياس تجعل النظرية بالكامل "متبدلة الاستقرار" في غياب أي ظواهر فيزيائية جديدة. بعبارة أخرى، ربما يكون للكون هيئة أخرى أكثر ملاءمة على مستوى الطاقة النشطة. وثانيا، يبدو أن بيانات مصادم الهدرون الكبير لا تدعم، وإن كانت لا تستبعد، الظاهرة الفيزيائية الجديدة الأكثر إرضاءً من الناحيتين الجمالية والرياضية، أو "التناظر الفائق"، والتي خضعت للتنظير جنباً إلى جنب مع بوزون هيجز قبل اكتشافه الفعلي، وهي ظاهرة ضرورية لمعالجة التصويبات الكمية، ومن الواضح أن استمرار معضلة المادة المظلمة، مقترناً بهذه الاعتبارات، من شأنه أن يغير أفكارنا الأساسية وتوقعاتنا بشأن ما قد يتبع هذا الاكتشاف.

والآن تُصاغ أفكار جديدة حول بوزون هيجز ذاته، وهو ما من شأنه أن يفتح بوابة مباشرة إلى مادة الكون المظلمة، وقد تبلور برنامج تجريبي نظري منسق في مجالات فيزياء الجسيمات، وعلم الكونيات، والفيزياء الفلكية، وفيزياء الجاذبية لاكتشاف مرشَّح لجسيم المادة المظلمة في العقد المقبل أو ما إلى ذلك، وما بات على المحك الآن هو تلك النماذج التي صمدت طيلة السنوات الست والسبعين الماضية، والتي دعمتها مؤخراً القياسات المذهلة للكون.

قد يرى البعض عالم الفيزياء هذا بوصفه أزمة، ولكن من الشائع تماماً أن تفتقر نظرية ما إلى الدعم التجريبي، فكل البحوث التي تتناول الكون والعالم المادي بالدراسة تناضل من أجل التوصل إلى فهم كامل، وبهذا المعنى فإننا نعيش أزمة أبدية وأصبحنا على أعتاب اكتشاف جديد، وقد يكون الوصف الأكثر عدالة للفيزياء الآن هو أنها أصبحت عند نقطة تحول أو مفترق طرق.

إن الفيزياء توفر الإطار الأساسي المتطور الذي يُبنى عليه غيرها من حقول العلم، والآن في ظل الترسانة التكنولوجية والوفرة من البيانات المتاحة، بات بوسع العلم أن يذهب إلى ما هو أبعد من أي توقع أو تخمين سابق، والواقع أن كل شيء في العقود المقبلة سوف يكون عُرضة لمراجعة كبرى مع نشوء أفرع جديدة متقابلة، ومواضيع غير منضبطة للدراسة. والآن تظهر فِرَق الهندسة الكمية بالفعل في المعاهد الأكاديمية والبحثية في مختلف أنحاء العالم، والواقع أن الدمج بين علوم الكمبيوتر والهندسة وبين علم الأعصاب أسفر بالفعل عن نتائج كانت قبل وقت ليس ببعيد لا تنتمي إلا إلى الخيال العلمي. إن الطبيعة قد تبدو معقدة وعشوائية ومخادعة؛ وقد تبدو لنا بسيطة ومتساوقة وجميلة، وفي كل الأحوال، سوف يستمر الكون الكمي في مفاجأتنا وإدهاشنا.

* أستاذة الفيزياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك).

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top