التدمير الخلاق للعمل

نشر في 01-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 01-08-2014 | 00:01
 كارل بينيديكت فري إن التقدم التقني على مر التاريخ قد خلق ثروة ضخمة ولكنه خلق كذلك الكثير من الارتباك والتشويش، فعلى سبيل المثال صناعة الصلب في الولايات المتحدة الأميركية مرت في مرحلة تحول كبيرة في الستينيات، حيث خرجت مصانع الصلب الكبيرة والمتكاملة بشكل تدريجي من السوق، وحلت مكانها مصانع صلب صغيرة مما دمر القاعدة الاقتصادية الحالية لمدن مثل بيتسبرا وبنسلفانيا ويونغستاون وأوهايو، ولكن مصانع الصلب الصغيرة تمكنت من تحقيق زيادة كبيرة في الإنتاجية، وخلقت أنواعاً جديدة من العمل في أماكن أخرى.

إن قصة صناعة الصلب في الولايات المتحدة الأميركية تعطينا درسا مهما فيما يتعلق بما أطلق عليه الاقتصادي جوزيف شومبيتر اسم "التدمير الخلاق": إن النمو الاقتصادي على المدى الطويل لا ينطوي فقط على زيادة الإنتاج في المصانع الحالية، لكنه ينطوي كذلك على تغييرات هيكلية في التوظيف.

فبإمكاننا أن نلاحظ ظاهرة مماثلة في ثورة تقنية المعلومات والاتصالات التي أثرت في معظم أجزاء أمكنة العمل العصري، حتى تلك غير المرتبطة بشكل مباشر ببرمجة الكمبيوتر أو هندسة برامج الكمبيوتر، فتقنيات الكمبيوتر قد خلقت نشاطات تجارية جديدة ومزدهرة (حتى مجموعات تجارية) في حين جعلت في الوقت نفسه وظائف بعض عمال التصنيع زائدة على المطلوب، بالإضافة إلى جعل أقدم المدن الصناعية في حالة انحدار.

لكنّ مدناً مثل ديترويت وليل وليدز لم تعاني بسبب انخفاض الإنتاج الصناعي، بل على العكس من ذلك نما الإنتاج في تلك المدن خلال العقد الماضي، بيد أن انحدارها يعود مباشرة لفشلها في جذب أنواع مختلفة من الوظائف، وإلى حد كبير هذا يعتبر فشلاً في السياسات، وبدلا من محاولة الاحتفاظ بالماضي عن طريق دعم الصناعات القادمة، يجب على المسؤولين التركيز على إدارة العملية الانتقالية لأشكال مختلفة من العمل، وهذا يتطلب فهماً أفضل للتقنيات الناشئة، وكيف تختلف تلك التقنيات التي يقومون باستبدالها.

ومن الخصائص المهمة لتقنيات التصنيع المبكرة للثورة الصناعية أنها استبدلت الحرفيين المهرة نسبيا، مما زاد بدوره من الطلب على عمال المصانع غير المهرة، فخط إنتاج هنري فورد لتصنيع السيارات الذي بدأ سنة 1913 كان مصمما خصوصا للعمالة غير الماهرة لتشغيل الآلات؛ مما سمح للشركة بإنتاج موديل "تي" المحبوبة، والتي كانت أول سيارة تستطيع الطبقة المتوسطة من الأميركيين تحمل ثمنها.

فالتنمية الصناعية التي حصلت في القرن الماضي كانت في معظمها تتركز على المنافسة بين العمالة المتعلمة المتزايدة والتقنية الجديدة التي تستغني عن مهاراتهم، ولقد رأينا التأثيرات- ليس أقلها في صناعة السيارات– لقيام الإنسان الآلي بأعمال روتينية كان يقوم بها في السابق الآلاف من عمال خطوط الإنتاج من أصحاب الدخول المتوسطة.

وإن المزيد من التشويش والاضطرابات في أماكن العمل يمكن أن يحدث مستقبلا، وبالرغم من أن التاريخ يعملنا أن نتوخى الحذر عندما يتعلق الأمر بتوقع كيفية تأثير التقدم التقني فإن لدينا فعليا فكرة معقولة عما يمكن أن تفعله أجهزة الحاسوب في المستقبل القريب؛ لأنه قد تم فعلياً تطوير التقنيات، فنحن نعرف على سبيل المثال أن هناك مجموعة واسعة من المهن الماهرة يمكن تبسيطها بمساعدة "البيانات الكبيرة" والمتطورة.

ومن الأمثلة التي عادة ما يتم تداولها فيما يتعلق بهذه العملية "سيمنتاك كليرويل إي ديسكفري بلاتفورم" وهو نظام إلكتروني يستخدم تحليل اللغة في التعريف بالمفاهيم العامة في المستندات، بحيث يمكنه تحليل وفرز أكثر من 570 ألف مستند خلال يومين فقط، وإن نظام كليرويل يمثل نقطة تحول في مهنة المحاماة لأنه يستخدم أجهزة الحاسوب فيما يتعلق بأبحاث ما قبل المحاكمة، بحيث يقوم هذا النظام بمهام كان عادة ما يقوم بها المساعدون القانونيون وحتى المحامون المتعاقدون أو المحامون المتخصصون في براءات الاختراع.

وبالطريقة نفسها فإن التحسن في تقنية الاستشعار يعني أن العديد من وظائف النقل واللوجستيات سوف تكون أوتوماتيكية بشكل كامل، وليس من الخيال تصور أن سيارات غوغل الذاتية القيادة سوف تجعل سائقي الحافلات وسيارات التاكسي بدون وظيفة في يوم ما، حتى الوظائف التي لا تزال ليومنا هذا وظائف مضمونة ومحدودة المهارة ربما لن تتجنب مصير أن تصبح أوتوماتيكية، فالطلب على الإنسان الآلي الشخصي والمنزلي على سبيل المثال يزيد بنحو 20% سنويا.

وأسواق العمل تدخل مجدداً في حقبة جديدة من الاضطرابات التقنية وزيادة انعدام المساواة في الأجور، وهذا يطرح سؤالاً أكبر: أين يمكن خلق أنواع جديدة من العمل؟ هناك فعلا إشارات إلى ماذا يخبئ المستقبل لنا، فالتقدم التقني يولد طلبا على مصممي ومحللي البيانات الكبيرة والمختصين في شبكات الحاسوب ومطوري برامج الحاسوب، والمختصين في التسويق الرقمي، وهي مهن كانت موجودة بصعوبة قبل خمس سنوات.

إن فنلندا تعطينا دروسا مهمة في كيف يمكن للمدن والبلدان التأقلم مع هذه التطورات، فلقد عانى اقتصادها في أول الأمر بسبب فشل أكبر شركة فيها، وهي شركة نوكيا في التأقلم مع تقنيات الهواتف الذكية، ولكن منذ ذلك الحين قامت العديد من الشركات الرائدة الفنلدية بعمل مشاريع جديدة باستخدام منصات الهواتف الذكية وبحلول سنة 2011 تمكن الموظفون السابقون في نوكيا من إنشاء 220 مشروعا تجاريا جديدا، علما أن روفيو وهي شركة باعت أكثر من 12 مليون نسخة من لعبة الفيديو الموجودة في الهاتف الذكي "أنجري بيردز" مليئة بموظفين سابقين من نوكيا.

وهذا التحول ليس من قبيل المصادفة، فاستثمار فنلندا المكثف في التعليم قد خلق قوة عمل مرنة، وعن طريق الاستثمار في المهارات القابلة للنقل وغير المحصورة في نشاطات تجارية أو صناعية محددة أو عرضه للحوسبة، فإن فنلندا قد أعطتنا برنامج عمل في كيفية التأقلم مع الثورة التقنية.

على الرغم من انتشار التقنيات المبنية على أساس البيانات الكبيرة، فإن الأبحاث تفيد بأن العمالة سوف تستمر في التمتع بميزة نسبية فيما يتعلق بالذكاء الاجتماعي والإبداع، وعليه فإن استراتيجيات التنمية الحكومية يجب أن تركز على تعزيز تلك المهارات، بحيث تكمل تقنيات الحاسوب بدلا من أن تتنافس معها.

*  زميل أبحاث في كلية أكسفورد مارتن بجامعة أكسفورد، وهو دكتور في التاريخ الاقتصادي في جامعة لوند.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top