فلاديمير بوتين... هل يصمُد؟

نشر في 01-08-2014 | 00:02
آخر تحديث 01-08-2014 | 00:02
تسود نظرة عامة مفادها أن فلاديمير بوتين يحكم {الفدرالية الروسية} بطريقة دكتاتورية وأنه نجح في هزيمة وترهيب خصومه وفرض تهديداً قوياً على البلدان المحيطة. إنها نظرة منطقية ولكن قد تبرز الحاجة إلى إعادة تقييمها في سياق الأحداث الأخيرة. التفاصيل جاء بها جورج فريدمان في Stratfor.
• لا شك أن أوكرانيا هي نقطة البداية. هذا البلد محوري بالنسبة إلى روسيا باعتباره دولة عازلة ضد الغرب وطريقاً لتسليم مصادر الطاقة إلى أوروبا، علماً أن هذه العملية هي ركيزة الاقتصاد الروسي. في 1 يناير، كان الرئيس الأوكراني هو فيكتور يانوكوفيتش الذي يُعتبر بشكل عام أحد الأشخاص الذين يميلون إلى تأييد روسيا. لكن نظراً إلى تعقيد المجتمع والمشهد السياسي في أوكرانيا، من غير المنطقي أن نعتبر أنّ أوكرانيا في عهده كانت مجرد دمية في يد روسيا. لكن يمكن القول إن المصالح الروسية المحورية في أوكرانيا كانت آمنة في عهد يانوكوفيتش وداعميه.

كان هذا العامل بالغ الأهمية بالنسبة إلى بوتين. في عام 2000، استُبدل ببوريس يلتسين فلاديمير بوتين بسبب أداء يلتسين خلال حرب كوسوفو. كانت روسيا متحالفة مع الصرب ولم تشأ أن تطلق قوات حلف الأطلسي حرباً ضد صربيا. لكن تجاهل الجميع أمنيات روسيا. بكل بساطة، لم تكن الآراء الروسية مهمة بالنسبة إلى الغرب. مع ذلك، حين فشلت الحرب الجوية في إجبار بلغراد على الاستسلام، تفاوض الروس على تسوية سمحت للولايات المتحدة والقوات الأخرى في حلف الأطلسي بدخول كوسوفو وإدارتها. كجزء من تلك التسوية، حصلت القوات الروسية على وعد بتولي جزء مهم من عملية حفظ السلام في كوسوفو. لكن لم يُسمَح للروس يوماً بأداء ذلك الدور وأثبت يلتسين عجزه عن الرد على تلك الإهانة.

حلّ بوتين مكان يلتسين أيضاً بسبب وضع الاقتصاد الروسي الكارثي. صحيح أن روسيا لطالما كانت فقيرة، لكن ساد شعور عام بضرورة الاعتراف بها كقوة مهمة في الشؤون الدولية. لكن في عهد يلتسين، أصبحت روسيا أكثر فقراً وجرى التعاطي معها بازدراء في الشؤون الدولية. اضطر بوتين إلى التعامل مع المسألتين. احتاج إلى وقت طويل قبل أن يبدأ بترميم النفوذ الروسي مع أنه قال سابقاً إن سقوط الاتحاد السوفياتي كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. لا يعني ذلك أنه أراد إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي بشكله الفاشل، بل إنه كان يرغب في أن يأخذ الجميع النفوذ الروسي على محمل الجد وأراد حماية المصالح القومية الروسية وتعزيزها.

ثم حلّت المرحلة المفصلية في أوكرانيا خلال الثورة البرتقالية في عام 2004. انتُخب يانوكوفيتش رئيساً في تلك السنة وسط ظروف مشبوهة، لكن أجبره المتظاهرون على خوض انتخابات ثانية. فخسر فيها واستلمت حكومة موالية للغرب الحكم. في تلك الفترة، اتهم بوتين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ووكالات الاستخبارات الغربية الأخرى بتنظيم تلك التظاهرات. في هذه المرحلة بالذات، أصبح بوتين مقتنعاً بأن الغرب ينوي تدمير الفدرالية الروسية والتخلص منها كما فعل مع الاتحاد السوفياتي. بحسب رأيه، كانت أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا واضحة جداً. لذا ظنَّ أن وكالة الاستخبارات المركزية نظمت تظاهرات لتعريض روسيا للخطر وأن السبب الوحيد لفعل ذلك الرغبة الجامحة في إعاقة روسيا أو تدميرها. بعد أحداث كوسوفو، انتقل بوتين علناً من الاشتباه بالنوايا الغربية إلى معاداة الغرب.

سعى الروس بين عامي 2004 و2010 إلى تعطيل الثورة البرتقالية. فحاولوا إعادة بناء الجيش الروسي وتركيز عمل جهازهم الاستخباري واستعمال أي نفوذ اقتصادي يملكونه لإعادة رسم علاقتهم مع أوكرانيا. حتى لو فشلوا في السيطرة على أوكرانيا، لم يشأوا أن تسيطر عليها الولايات المتحدة وأوروبا. لم تقتصر مصلحتهم الدولية على هذا الهدف، لكنه بقي الهدف المحوري.

كان الغزو الروسي لجورجيا يتعلق فعلياً بأوكرانيا أكثر من القوقاز. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة لا تزال عالقة في العراق وأفغانستان. لم تكن واشنطن ملتزمة رسمياً بمساعدة جورجيا، لكن برزت بين الفريقين راوبط وثيقة وضمانات خفية. كان غزو جورجيا يهدف إلى أمرين: أولاً، أرادوا أن تدرك المنطقة أن الجيش الروسي الذي كان متخبطاً في عام 2000 تمكّن من التحرك بشكل حاسم في عام 2008. ثانياً، أرادوا أن يثبتوا للمنطقة، وتحديداً كييف، أن الضمانات الأميركية، سواء كانت صريحة أو ضمنية، لا قيمة لها. في عام 2010، انتُخب يانوكوفيتش رئيساً لأوكرانيا، فعكس مسار الثورة البرتقالية وحصر النفوذ الغربي في بلده.

لاحظت إدارة أوباما الفجوة التي بدأت تتوسع مع روسيا والنزعة العامة ضد الولايات المتحدة في المنطقة، فحاولت إعادة ابتكار النماذج القديمة من العلاقات حين طرحت هيلاري كلينتون خطة {إعادة ضبط العلاقات} على بوتين في عام 2009. أرادت واشنطن أن ترمم العلاقة القائمة خلال ما اعتبره بوتين {الأيام السيئة القديمة}. لكن لا مصلحة له طبعاً في تلك الخطة. بل اعتبر أن الولايات المتحدة تبنت موقفاً دفاعياً وأراد استغلال الأمر لمصلحته.

هذا ما فعله في أوروبا حيث استغل اتكال الاتحاد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية للتقرب من القارة، لا سيما ألمانيا. لكنه أصبح في أفضل أحواله خلال الأزمة السورية، حين هددت إدارة أوباما بشن ضربات جوية لأن دمشق استعملت الأسلحة الكيماوية قبل أن تسحب تهديدها. عارض الروس بشدة تحرك أوباما واقترحوا إطلاق المفاوضات. خرج الروس من الأزمة وهم في موقف حاسم وقوي فيما بدت الولايات المتحدة مترددة وضعيفة. هكذا بدأ النفوذ الروسي يتصاعد وأصبح بوتين في موقف قوي رغم ضعف الاقتصاد.

الوضع ينقلب ضد بوتين

في المقابل، تبين أن الأحداث التي وقعت في أوكرانيا هذه السنة كانت كارثية بالنسبة إلى بوتين. في شهر يناير، سيطرت روسيا على أوكرانيا. وبحلول فبراير، هرب يانوكوفيتش من البلد ووصلت حكومة موالية للغرب إلى السلطة. لكنّ الانتفاضة العامة التي كان يتوقعها بوتين ضد كييف في شرق أوكرانيا بعد إسقاط يانوكوفيتش لم تحصل قط. في غضون ذلك، رسخت حكومة كييف نفسها بثبات أكبر، بدعمٍ من المستشارين الغربيين. في يوليو، سيطر الروس على أجزاء صغيرة من أوكرانيا، من بينها شبه جزيرة القرم حيث كان الروس يملكون دوماً قوة عسكرية كبيرة بموجب معاهدة متفق عليها، فضلاً عن مثلث من الأراضي التي تمتد من دونيتسك إلى لوهانسك وسيفيرودونتسك، حيث سيطر عدد صغير من المتمردين الذين يحظون على ما يبدو بدعم قوات العمليات الروسية الخاصة على 12 بلدة تقريباً.

ما لم تقع أي انتفاضة أوكرانية، كانت استراتيجية بوتين لتسمح لحكومة كييف بفك التزامها من الاتفاق وفصل الولايات المتحدة عن أوروبا عبر استغلال الروابط الروسية القوية مع القارة الأوروبية على مستوى التجارة ومصادر الطاقة. هنا تكمن أهمية تحطم الطائرة الماليزية. إذا تبين (كما تشير الأدلة حتى الآن) أن روسيا وفرت أنظمة الدفاع الجوي إلى الانفصاليين وأرسلت فِرَق العمل لتشغيلها (بما أن تشغيل تلك الأنظمة يتطلب تدريباً مكثفاً)، فيمكن تحميل روسيا مسؤولية إسقاط الطائرة. يعني ذلك أن قدرة موسكو على إبعاد الأوروبيين عن الأميركيين ستتراجع. في هذه الحالة، سيتحول بوتين من الحاكم الفاعل والجدي الذي يستعمل السلطة بصرامة إلى مسؤول خطير وغير كفوء يدعم حركة تمرد فاشلة بأسلحة غير مناسبة. يجب أن يستوعب الغرب، مهما عارضت بعض البلدان التصادم مع بوتين، مدى فاعليته وقدرته على التصرف بشكل منطقي.

في غضون ذلك، يجب أن يفكر بوتين بمصير أسلافه. عاد نيكيتا خروتشوف من العطلة في أكتوبر 1964 ليجد أن ليونيد بريجنيف المقرّب منه حلَّ مكانه، وقد واجه تهماً بنسج «المؤامرات الطائشة». كان خروتشوف قد تعرّض حديثاً للإهانة في أزمة الصواريخ الكوبية. أُضيفت هذه المعطيات إلى فشله في تحريك عجلة الاقتصاد بعد عشر سنوات على وجوده في السلطة، ما جعل أقرب زملائه «يقيلونه». أدت انتكاسة هائلة في الشؤون الخارجية والإخفاقات الاقتصادية إلى إسقاط شخصية كانت تبدو لا تُقهر.

اليوم، لا يبدو الوضع الاقتصادي الروسي كارثياً بقدر ما كان عليه في عهد خروتشوف أو يلتسين، لكنه تدهور بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة، والأهم من ذلك أنه فشل في الارتقاء إلى مستوى التوقعات. بعد التعافي من أزمة عام 2008، شهدت روسيا تراجعاً في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي طوال سنوات، ويتوقع البنك المركزي أن يكون النمو معدوماً هذه السنة. نظراً إلى الضغوط الراهنة، يمكن أن نتكهن وصول الاقتصاد الروسي إلى حالة من الركود في مرحلة معينة من عام 2014. تضاعفت ديون الحكومات الروسية في السنوات الأربع الأخيرة وتوشك مناطق عدة على الإفلاس. كذلك، يواجه بعض شركات المعادن والتنقيب احتمال الإفلاس. أدت الأزمة الأوكرانية إلى زيادة الوضع سوءاً. بلغت قيمة هروب الرساميل من روسيا في الأشهر الستة الأولى 76 مليار دولار، مقارنةً بـ63 مليار دولار طوال عام 2013. كذلك تراجعت الاستثمارات الخارجية المباشرة بنسبة 50% في النصف الأول من عام 2014 مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2013. حصل ذلك كله مع أن أسعار النفط بقيت أعلى من 100 دولار للبرميل الواحد.

زادت شعبية بوتين محلياً بعد الألعاب الأولمبية الشتوية الناجحة في سوتشي وبعدما أظهرته وسائل الإعلام الغربية بصورة المعتدي في شبه جزيرة القرم. فهو بنى سمعته على أساليب الصرامة والعدائية. لكن مع اتضاح حقيقة الوضع في أوكرانيا، سيُعتبر النصر العظيم بمثابة غطاء للانسحاب الذي يتزامن مع مشاكل اقتصادية خطيرة. بالنسبة إلى عدد كبير من القادة، لا تمثل الأحداث في أوكرانيا تحدياً هائلاً لهذه الدرجة. لكن لطالما بنى بوتين صورته على السياسة الخارجية الصارمة، ويشير وضع الاقتصاد إلى أن نسبة تأييده لم تكن عالية جداً قبل أحداث أوكرانيا.

لنتخيل روسيا بعد بوتين...

في ظل النظام الذي أسهم بوتين في بنائه، قد لا تكون العملية الديمقراطية العامل الأساسي لفهم ما سيحصل في المرحلة اللاحقة. أعاد بوتين إحياء عناصر من الحقبة السوفياتية في بنية الحكومة، حتى إنه استعمل عبارة {المكتب السياسي} لوصف لجانه الداخلية. جميع الرجال هم من اختياره طبعاً لذا يسهل أن نفترض أنهم سيكونون موالين له. لكن في {المكتب السياسي} بالمعنى السوفياتي، كان الزملاء المقربون هم الذين يخيفون محيطهم أكثر من غيرهم.

يسمح نموذج {المكتب السياسي} لأي زعيم ببناء التحالفات بين مختلف الفصائل. كان بوتين بارعاً جداً في هذا الدور، لكنه كان ناجحاً أيضاً في جميع المهام التي قام بها حتى الآن. في المقابل، تتراجع قدرته على التحكم بالوضع حين تتراجع الثقة في قدراته ويبدأ مختلف الأطراف القلقة من عواقب الحفاظ على روابط وثيقة مع زعيم ضعيف بالمناورة. مثل خروتشوف الذي فشل في الاقتصاد والسياسة الخارجية، قد يطيح زملاء بوتين به.

يصعب أن نعلم كيف ستتطور أزمة الخلافة على الحكم بما أن العملية الدستورية قائمة إلى جانب الحكومة غير الرسمية التي أنشأها بوتين. من وجهة نظر ديمقراطية، يحظى وزير الدفاع سيرغي شويجو ورئيس بلدية موسكو سيرغي سوبيانين بشعبية توازي شعبية بوتين وأظن أنهما سيتفوقان عليه مع مرور الوقت. في ظل الصراع القائم على الطريقة السوفياتية، قد يكون رئيس الأركان سيرغي إيفانوف ورئيس مجلس الأمن نيكولاي باتروشيف من المنافسين المحتملين. لكن يبرز منافسون آخرون. من توقع مثلاً وصول ميخائيل غورباتشوف إلى الحكم؟

في نهاية المطاف، لا يصمد السياسيون الذي يخطئون في حساباتهم وطريقة إدارتهم للوضع. أخطأ بوتين في حساباته في أوكرانيا ولم يتوقع سقوط حليف له ولم يرد بفاعلية على التطورات ثم وجد صعوبة في استعادة توازنه. لم تكن إدارته للاقتصاد مثالية في الفترة الأخيرة أيضاً. يظن بعض زملائه أنهم قد يقدمون أداءً أفضل منه وسيُسَرّ بعض الأشخاص المهمين في أوروبا برحيله الآن. يجب أن يقلب هذا المسار بسرعة أو سيتم استبداله.

لن ينتهي دور بوتين قريباً. لكنه حكم طوال 14 سنة، بما في ذلك الفترة التي كان فيها ديمتري مدفيديف الحاكم الرسمي، وهي فترة طويلة. قد ينجح في استعادة موقعه. لكن وفق الظروف الراهنة، أتوقع أن زملاءه منشغلون ببعض الأفكار الضمنية التي تراودهم. يجب أن يعيد بوتين تقييم خياراته يومياً. سيصعب الانسحاب في وجه الغرب وتقبّل وضع المراوحة في أوكرانيا، بما أن أحداث كوسوفو هي التي أسهمت في وصوله إلى السلطة ونظراً إلى ما قاله عن أوكرانيا على مر السنين. لكن لا يمكن أن يستمر الوضع الراهن. إذا وجد بوتين نفسه في مشكلة سياسية جدية، قد يصبح أكثر عدائية. لا يمكن التأكيد على أن بوتين سيواجه مشكلة حقيقية، لكنه واجه عقبات كثيرة في الفترة الأخيرة لذا يبقى هذا الاحتمال وارداً. وكما يحصل في أي أزمة سياسية، يمكن التفكير في خيارات أكثر تطرفاً إذا تدهور الوضع.

كل من يظن أن بوتين هو الزعيم الروسي الأكثر قمعاً وعدائية يجب أن يتذكر أن الواقع مغاير. كان لينين مرعباً، لكن يبقى ستالين أسوأ منه بكثير. وفي مرحلة لاحقة، قد ينظر العالم إلى حقبة بوتين باعتبارها فترة من الانفتاح. إذا زادت حدة الصراع الذي يواجهه بوتين لضمان صموده مقابل محاولات تنحيته من منافسيه، قد تزيد نزعة الجميع إلى التصرف بوحشية.

back to top