جدعون ليفي... أكثر إسرائيلي مكروه ؟ (2-2)

نشر في 28-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-07-2014 | 00:02
جدعون ليفي أكثر رجل مكروه في إسرائيل، أو قد يكون الأكثر بطولية. {الفتى الصالح من تل أبيب}، كما يسميه البعض، ابن متزن وجدي للدولة اليهودية، وقد تعرض لإطلاق النار في مناسبات متكررة من قوات الدفاع الإسرائيلية وواجه تهديدات بالضرب المبرح في شوارع البلد، وطالب وزراء الحكومة بفرض مراقبة مشددة عليه باعتباره {خطراً أمنياً}. ذلك كله لأنه قام بتحرك بسيط جداً، وهو أمر لم يفعله أي إسرائيلي آخر. منذ ثلاثة عقود، يحرص على السفر إلى الأراضي المحتلة كل أسبوع تقريباً ويصف ما يشاهده هناك بكل بساطة ومن دون حملات دعائية. يقول: {مهمتي المتواضعة أن أتجنب الوضع الذي يمكّن بعض الإسرائيليين من قول: لم نكن نعلم!}. لذا يريد كثيرون إسكاته.

تعكس قصة جدعون ليفي (ومحاولة السخرية من كلامه أو قمعه أو إنكاره) جوهر إسرائيل الحقيقي. إذا خسر، فستضيع إسرائيل نفسها. جوهان هاري من {ذي إندبندنت} قابله وجاء بالتالي.

يقول جدعون ليفي: «أريد أن أفخر ببلدي. أنا إسرائيلي وطني. أريد أن نقوم بما هو صائب». هذا الموقف يجبره على اعتبار العنف الفلسطيني محدوداً جداً مقارنةً بالعنف الإسرائيلي وغالباً ما يكون رد فعل عليه: «مرت السنوات العشرون الأولى من الاحتلال بهدوء، ونحن لم نحرك ساكناً لإنهائه. وتحت غطاء الهدوء عمدنا إلى بناء مستوطنات إجرامية ضخمة» حيث يصادر الأصوليون الدينيون اليهود الأرض الفلسطينية ويدّعون أنها هبة من الله لهم. في تلك المرحلة فقط، أي بعد فترة طويلة من النهب وبعدما قوبلت محاولات المقاومة السلمية بعنف وحشي، لجأ الفلسطينيون بدورهم إلى أسلوب العنف. «ماذا كان ليحصل لو لم يطلق الفلسطينيون صواريخ «قسام» (الصواريخ التي أُطلقت على جنوب إسرائيل، بما فيها من بلدات مدنية)؟ هل كانت إسرائيل لترفع الحصار الاقتصادي؟ هذا هراء. لو قبع سكان غزة بكل هدوء، كما تتوقع منهم إسرائيل، ستختفي قضيتهم من التداول. ما كان أحد ليفكر بمصير سكان غزة لو لم يتصرفوا بعنف».

يدين ليفي بشكل قاطع إطلاق الصواريخ على المدنيين الإسرائيليين لكنه يضيف: {صواريخ {قسام} تُستعمل في سياق معين. يتم إطلاقها في معظم الحالات بعد عملية اغتيال من قوات الدفاع الإسرائيلية وقد تكررت هذه العمليات طبعاً}. لكن يبقى موقف إسرائيل على حاله: {يحق لنا أن نقصف كل ما نريده لكن لا يحق لهم أن يطلقوا صواريخ {قسام}. لخّص حاييم رامون، وزير العدل السابق في فترة الحرب الثانية مع لبنان، هذا المفهوم حين قال: {يحق لنا أن ندمر كل شيء}.

حتى المصطلحات التي نستعملها لمناقشة عملية {الرصاص المصبوب} تبدو خاطئة بحسب رأي ليفي: {تلك لم تكن حرباً. بل كانت هجوماً وحشياً على شعب عاجز ومحاصر. يمكن أن نعتبر المواجهة بين مايك تايسون وطفل في الخامسة من عمره مباراة ملاكمة، لكن ماذا عن التفاوت بين الطرفين؟ ويا له من تفاوت!}. استهدفت إسرائيل الفِرَق الطبية في مناسبات متكررة وقصفت مدرسة تديرها الأمم المتحدة وكانت تشكّل ملجأً للسكان الذين نزفوا حتى الموت طوال أيام لأن قوات الدفاع الإسرائيلية منعت إجلاءهم وتابعت القصف وإطلاق النار... لا يمكن التمييز بين دولة تتخذ هذه الخطوات ومنظمة إرهابية. يبررون أفعالهم باختباء {حماس} بين السكان المدنيين. وكأن وزارة الدفاع في تل أبيب لا تقع وسط المدنيين! وكأن غزة تشمل أماكن لا تقع وسط المدنيين!}.

يناشد كل شخص مهتم بأمن إسرائيل وسلامتها بالانضمام إليه لإخبار الإسرائيليين الحقيقة بلغة بسيطة: {الصديق الحقيقي لا يدفع فاتورة المخدرات لصديقه المدمن، بل يرسل صديقه إلى مركز إعادة التأهيل. اليوم، وحدهم الأشخاص الذين يتكلمون ضد سياسات إسرائيل ويستنكرون الاحتلال والحصار والحرب يُعتبَرون أصدقاء البلد الحقيقيين}. أما الأفراد الذين يدافعون عن مسار إسرائيل الراهن، فهم {يخونون البلد} عبر تشجيعه على خوض {مسار كارثي}. الطفل الذي شاهد منزله يتدمر وشقيقه يُقتَل ووالده يُهان لن يسامح بسهولة}.

بحسب رأيه، {أصدقاء إسرائيل} المزعومون هم عملياً أصدقاء الأصولية الإسلامية: {لماذا يعطون الأصوليين حججاً وفرصاً إضافية ويؤججون غضبهم ويمنحونهم مجالاً لتجنيد المزيد من العناصر؟ انظروا إلى غزة. كانت غزة علمانية بالكامل منذ فترة غير بعيدة. اليوم، يصعب شراء الكحول فيها بعد كل الوحشية التي شهدتها المنطقة. تبقى الأصولية الدينية اللغة الدائمة التي يلجأ إليها الناس في أوقات اليأس إذا فشلت جميع الحلول الأخرى. لو كانت غزة مجتمعاً حراً، لما وصلت إلى هذا الوضع. لقد منحناهم بيئة خصبة لتجنيد المتطرفين}.

يظن ليفي أن الخرافة الكبرى (أي تلك التي تخيّم على أجواء الشرق الأوسط مثل العطر الذي نرشّه على الجثث) تتعلق بفكرة {محادثات السلام} الراهنة بقيادة الولايات المتحدة. هو نفسه كان يصدّقها في فترة معينة. في ذروة محادثات أوسلو خلال التسعينيات، حين تفاوض إسحق رابين مع ياسر عرفات، {استدرتُ بطريقة عاطفية في نهاية الزيارة ولوّحتُ بيدي لتوديع غزة. وداعاً غزة المحتلة، وداعاً! لن نتقابل مجدداً، أقله ليس تحت الاحتلال. يا لغبائي!}.

يقول الآن إنه مقتنع بأن المفاوضات كانت {خدعة} منذ البداية وكانت محكومة بالفشل. كيف يعرف ذلك؟ {ثمة اختبار بسيط جداً لأي محادثات سلام. تفرض شروط السلام الأساسية أن تفكك إسرائيل مستوطناتها في الضفة الغربية. لكن إذا كانت ستفكك المستوطنات قريباً، فيجب أن تمتنع عن بناء المزيد راهناً، أليس كذلك؟ لكنها تابعت البناء طوال فترة مفاوضات أوسلو. اليوم يرفض نتنياهو تجميد عمليات البناء، وهو الحد الأدنى من المطالب. هذا السلوك يختصر كل شيء}.

يقول إن نتنياهو، تماماً مثل المسؤولَين الأكثر ميلاً ظاهرياً إلى المعسكر اليساري، إيهود باراك وتسيبي ليفني، لطالما عارض محادثات السلام الحقيقية. حتى إنه يتباهى في مجالسه الخاصة بتدمير عملية أوسلو. في عام 1997، خلال ولايته الأولى كزعيم إسرائيلي، أصرَّ على متابعة المحادثات شرط إضافة بند ينصّ على عدم اضطرار إسرائيل إلى الانسحاب من {المواقع العسكرية} غير المحددة، ثم سُجّل صوته في إحدى المرات وهو يقول بكل فخر: {ما أهمية ذلك؟ اعتباراً من تلك اللحظة، أوقفتُ اتفاقيات أوسلو}. إذا كان يتباهى بـ{وقف} آخر عملية سلام، فلماذا قد يرغب في نجاح هذه العملية؟ يتساءل ليفي: {كيف يمكن عقد السلام مع نصف الشعب الفلسطيني فقط؟ كيف يمكن استثناء {حماس} وغزة؟}.

تبدو هذه المحادثات المزيفة أسوأ من عدم التفاوض بحسب رأي ليفي: {إذا بدأت المفاوضات، لن تشتد الضغوط الدولية. عندما نخوض النقاشات، يمكن متابعة الاستيطان من دون رادع. لذا تُعتبر المفاوضات العقيمة خطيرة. تحت غطاء تلك المحادثات، ستتلاشى فرص السلام بشكل تدريجي... الرسالة الضمنية الواضحة هي رغبة نتنياهو في الحصول على الدعم الأميركي لقصف إيران. للقيام بذلك، يظن أنه يحتاج على الأقل إلى مسايرة أوباما الذي طلب منه خوض المحادثات. لذا يشارك في التفاوض}.

بعد قول ذلك، صمت ليفي ورحنا نحدق ببعضنا البعض للحظات. ثم قال بصوت هادئ: {الوقائع واضحة. لا تنوي إسرائيل فعلياً الرحيل من الأراضي المحتلة أو السماح للشعب الفلسطيني بممارسة حقوقه. لن يتغير شيء مع النسخة الراهنة من إسرائيل المتغطرسة والعدائية والمكتفية. حان الوقت لابتكار برنامج لإعادة تأهيل إسرائيل}.

الأعلام الإسرائيلية مصنوعة في الصين

وفق استطلاعات الرأي، يدعم معظم الإسرائيليين حل الدولتين، لكنهم ينتخبون حكومات توسّع المستوطنات، ما يجعل حل الدولتين مستحيلاً. يوضح ليفي: {سنحتاج إلى طبيب نفسي لشرح هذا التناقض. هل يتوقعون أن تقع الدولتان من السماء؟ لا شيء يدعو الإسرائيليين اليوم إلى إحداث أي تغيير. الحياة في إسرائيل مدهشة. يمكن أن نقيم في تل أبيب ونعيش حياة ممتعة. لا أحد يتحدث عن الاحتلال. لماذا يأخذون عناء التغيير إذاً؟ يفكر معظم الإسرائيليين بعطلتهم المقبلة وسيارة {الجيب} التي سيشترونها ولم تعد الأمور الأخرى تعنيهم}. هم متمسكون بالتاريخ لكنهم يغفلون عنه.

في إسرائيل، يبدو {ميدان وسط البلد فارغاً منذ سنوات. لم تحصل احتجاجات مهمة خلال عملية {الرصاص المصبوب}، لذا لم يبقَ ما نقوله. المستوطنون الناشطون هم الفريق الوحيد الذي يتحرك في سبيل هدف معين عدا النزوات الشخصية}. كيف يمكن أن يحصل التغيير إذاً؟ يقول إنه {متشائم جداً} وسينشأ في المستقبل على الأرجح مجتمع يميل بشكل متزايد إلى {الفصل العنصري}. ثم هز رأسه وقال: {خضنا حربين حتى الآن، منها الغارة على الأسطول المتوجه إلى غزة. لكن لا يبدو أن إسرائيل تعلّمت الدروس، كذلك لا تدفع أي ثمن. الإسرائيليون لا يدفعون الثمن مقابل الاحتلال الظالم، لذا لن ينتهي الاحتلال مطلقاً. هو لن ينتهي قبل أن يفهم الإسرائيليون الرابط بين الاحتلال والثمن الذي سيضطرون إلى دفعه. لن يوقفوا الاحتلال من تلقاء أنفسهم}.

يبدو أنه يبرر مقاطعة إسرائيل ولكن يبقى موقفه أكثر تعقيداً: {أولاً، تحمل معارضة إسرائيل لحملات المقاطعة الكثير من النفاق. إسرائيل نفسها أحد أبرز المقاطعين في العالم. لا تقاطع غيرها فحسب، بل تحث الآخرين أو حتى تجبرهم أحياناً على الاقتداء بها. فرضت إسرائيل مقاطعة ثقافية وأكاديمية وسياسية واقتصادية وعسكرية على الأراضي المحتلة. أما المقاطعة الفاضحة والأكثر وحشية، فهي تتمثل طبعاً بالحصار على غزة ومقاطعة {حماس}. لأجل إسرائيل، وافق معظم البلدان الغربية على حملة المقاطعة بزخم غير مبرر. لم يكن الحصار وحده هو الذي جعل غزة في حالة من العوز طوال ثلاث سنوات. بل إنها سلسلة من المقاطعات الثقافية والأكاديمية والإنسانية والاقتصادية. تحث إسرائيل العالم أيضاً على مقاطعة إيران. لذا لا يستطيع الإسرائيليون أن يتذمروا إذا استُعملت هذه الطريقة ضدهم}.

تحرك ليفي في مقعده وتابع قائلاً: {لكني لا أقاطع إسرائيل. كان يمكن أن أفعل ذلك. كان يمكن أن أغادر إسرائيل. لكني لا أنوي مغادرتها. أبداً! لا يمكن أن أدعو الآخرين إلى فعل ما لن أفعله... لكن يتساءل الجميع دوماً عن مدى فاعلية هذه الطريقة. أنا واثق من أن الإسرائيليين سيفهمون الرابط بين الأحداث. لنتذكر الرعب الذي ساد بين عامي 2002 و2003: كانت الحياة في إسرائيل مرعبة في ظل انفجار الحافلات وانتشار الانتحاريين. لكن لم يربط الإسرائيليون بين الاحتلال وبين الإرهاب. بالنسبة إليهم، كان الإرهاب مجرد {إثبات} على أن الفلسطينيين وحوش وأنهم ولدوا ليقتلوا وليسوا كائنات بشرية. وإذا تجرأ أحد على إقامة ذلك الرابط، سيظن الناس أنه {يبرر الإرهاب} وأنه خائن. أتوقع حصول الأمر نفسه في ما يخص العقوبات. كانت حملة الإدانة بعد عملية {الرصاص المصبوب} والغارة على الأسطول كفيلة بزيادة منسوب القومية في إسرائيل. إذا اعتُبرت المقاطعة بمثابة الحكم الذي يطلقه العالم في قضية معينة، تصبح هذه الطريقة فاعلة. لكن يميل الإسرائيليون إلى اعتبارها {إثباتاً} على أن العالم معادٍ للسامية وأنه سيكرهنا دوماً}.

يظن أن نوعاً واحداً من الضغوط فقط سيعيد إسرائيل إلى صوابها ويضمن سلامتها: {يوم يقرر الرئيس الأميركي إنهاء الاحتلال، سيتوقف الاحتلال لأن إسرائيل لم تكن تتكل يوماً على الولايات المتحدة كما تفعل اليوم. أبداً! هي لا تعتمد عليها اقتصادياً وعسكرياً فحسب بل سياسياً قبل كل شيء. أصبحت إسرائيل معزولة اليوم ولا تحظى إلا بدعم الولايات المتحدة}. كان ليفي يأمل في البداية أن يكون باراك أوباما حاسماً. يتذكر أنه تأثر كثيراً حين ألقى خطاب النصر في {غرانت بارك}، لكنه يقول إن الرئيس الأميركي اكتفى بـ{خطوات محدودة وشبه معدومة، مع أن الوضع كان يستلزم خطوات كبرى}. هذا الوضع لا يضر إسرائيل فقط بل الولايات المتحدة أيضاً: {الاحتلال أفضل عذر بالنسبة إلى عدد كبير من المنظمات الإرهابية العالمية. ليس عذراً فاعلاً دوماً لكنها تستعمله. لماذا نسمح لتلك المنظمات باستعمال هذا العذر؟ لماذا نؤجج غضبها؟ لماذا لا نحل المشكلة نهائياً إذا كان الحل بسيطاً جداً؟}.

لإحراز أي تقدم، لا بد من اعتبار الأميركيين اليمينيين اليهود الذين يبتهجون كلما أمعنت إسرائيل في القتل والتدمير {أعداء إسرائيل} كونهم يقودون البلد الذي يُفترض أنهم يحبونه إلى حرب أبدية: {الأميركيون اليمينيون اليهود هم الذين يكتبون أبرز الكلمات المشينة. يقولون إنني حفيد هتلر ويصلّون كي يصاب أولادي بالسرطان... إنه موقفهم لأنني أضرب على الوتر الحساس. ثمة ما يزعجهم في آرائي}. يدعي اليمينيون أنهم يعارضون إيران، لكن يشير ليفي إلى أنهم يعارضون الخطوتين اللتين يمكن أن تعزلا إيران فوراً وتجرّدا محمود أحمدي نجاد من أفضل حججه الدعائية: {السلام مع سورية والسلام مع الفلسطينيين، وهما خياران متاحان لكن ترفضهما إسرائيل. إنهما أفضل طريقتين لإضعاف إيران}.

يرفض أن تخضع إسرائيل للأشخاص الذين {يلوحون بالأعلام الإسرائيلية المصنوعة في الصين ويحلمون بتطهير الكنيست من العرب وبتجريد إسرائيل من منظمة {بتسيلم} لحقوق الإنسان}. بدا ليفي في هذه اللحظة غاضباً وناقماً فقال: {لن أغادر أبداً. هذا هو مكاني على الأرض. إنها لغتي وثقافتي. حتى الانتقادات التي أوجهها ومشاعر العار التي أحملها تشتق من انتمائي العميق إلى هذا المكان. لن أغادر إلا إذا أُجبِرتُ على الرحيل. سيضطرون إلى إخراجي بالقوة}.

توقعات بعيدة المنال

هل يظن أن هذا الاحتمال حقيقي؟ أي أنّ حريته قد تُسلَب منه في إسرائيل تحديداً؟ أجاب قائلاً: {نعم، هذا ممكن طبعاً. لقد سُلبت مني حريتي أصلاً عند منعي من الذهاب إلى غزة، وهذه هي البداية فقط. أتمتع بحرية الكتابة والظهور على التلفزيون في إسرائيل، كذلك أعيش حياة جيدة، لكني لا أستخف بحريتي مطلقاً. إذا استمرت هذه البيئة القومية المتطرفة في إسرائيل بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات...}. توقف عن الكلام وتنهد ثم تابع قائلاً: {قد تبرز ضوابط جديدة وقد تُقفَل صحيفة {هآرتس}، لا سمح الله. لا أستبعد شيئاً. لن أتفاجأ إذا تم تجريم الأحزاب الإسرائيلية والفلسطينية خلال الانتخابات المقبلة مثلاً. يطاردون أصلاً المنظمات غير الحكومية التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين. تعبّر غالبية من الناس في استطلاعات الرأي عن رغبتها في معاقبة الأشخاص الذين يفضحون أخطاء الجيش وفي كبح تحركات منظمات حقوق الإنسان}.

يبرز أيضاً خطر وقوع اعتداءات مستقلة. في السنة الماضية، اقترب رجل معه كلب كبير من ليفي حين كان بالقرب من منزله وقال له: {أردت أن أبرحك ضرباً منذ فترة طويلة}. بالكاد هرب ليفي ولم يقبض أحد على ذلك الرجل. يقول الآن: {أنا خائف ومع ذلك لا أعيش في خوف دائم. لكني لا أنعم بنوم هانئ مثل الآخرين طبعاً. عند سماع أي ضجة، أفكر بأن الخطر اقترب. لم أظن في أي لحظة أن الخطر أصبح واقعاً ملموساً. لكني أعلم أن ذلك الوقت سيحين}.

هل فكر يوماً بعدم قول الحقيقة وبتخفيف حدة تصريحاته؟ ضحك عند سماع السؤال، وللمرة الوحيدة في المقابلة تلعثم في الكلام وقال: {ليتني أستطيع! مستحيل! هذا الأمر ليس خياراً بالنسبة إلي. لا أستطيع فعل ذلك. هل يُعقل؟ مستحيل! أشعر بالوحدة لكنّ محيطي يدعمني... جزء منه على الأقل. حتى إن بعض الإسرائيليين يقدّر ما أفعله حتى الآن. إذا تجولت معي في شوارع تل أبيب، ستشاهد جميع أنواع ردود الفعل، لكن ثمة تفاعلات إيجابية أيضاً. إنه وضع صعب لكن... أي خيار آخر لدي؟}.

يقول إن أوساطه الخاصة تدعمه {جزئياً}. أي جزء لا يدعمه؟ خلال السنوات الأخيرة، واعد نساء غير إسرائيليات: {لم أتمكن من التقرب من امرأة قومية يمكن أن تردد تلك الأمور المريعة عن الفلسطينيين}. لكن لا يقرأ ابناه أي شيء مما يكتبه: {لديهما آراء سياسية تختلف عني. أظن أن الوضع كان صعباً عليهما بل صعب جداً}. هل يدعمان المعسكر اليميني؟ {لا، لا، ليس الوضع كذلك. مع التقدم في السن، هما يقتربان من وجهة نظري. لكنهما لا يقرآن أعمالي}. أضاف وهو ينظر نحو الأسفل: {هما لا يقرآنها بكل بساطة}.

تاريخ الشعب اليهودي القديم يعيد نفسه دوماً: كل بضعة قرون، يقف شخص يهودي شجاع لتحذير شعبه من أنه يسير على طريق غبي أو غير أخلاقي ولا يمكن أن ينتهي إلا بكارثة، فيحثهم على تغيير المسار. حذر النبي الأول، عاموس، من أن مملكة إسرائيل ستتدمر لأن الشعب اليهودي نسي الحاجة إلى العدل والسخاء، وقد تعرّض للرفض بسبب ما قاله. رأى باروخ سبينوزا ما وراء الأصولية اليهودية في عصره وتوقع نشوء كون مادي يمكن شرحه بطريقة علمية، فعُزل عن محيطه مع أنه فتح الطريق أمام ظهور العباقرة اليهود العظماء. هل يمكن أن يُعتبر ليفي، مع مرور الوقت، نبياً يهودياً وسط وحشية الدولة اليهودية فيدعو شعبه للعودة إلى المسار الأخلاقي؟

أومأ ليفي برأسه وابتسم وقال: {كتب لي نعوم تشومسكي في إحدى المناسبات أنني أشبه الأنبياء اليهود من العصور القديمة. كان أفضل إطراء أسمعه يوماً. لكن سيقول خصومي طبعاً إن هذا النوع من المواقف يعكس تقليداً قديماً عن نزعة اليهود إلى كره الذات. لكني لا آخذ هذه التعليقات على محمل الجد. أشعر طبعاً بأنني أنتمي إلى نهج النقد الذاتي. أؤمن كثيراً بالنقد الذاتي». لكنّ هذا النهج يضعه في مواقف مربكة: «في مناسبات عدة، كنت أقف بين المتظاهرين الفلسطينيين، فأدير ظهري لهم وأنظر إلى الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يطلقون النار في اتجاهنا. أنا وسط شعبي وجيشي. الشعب الذي أقف بينه يُفترض أن يكون العدو. لكن...». راح يهز رأسه. لا مفر من التساؤل أحياناً: ماذا يفعل فتى يهودي لطيف مثله في دولة مماثلة؟

لكنه عاد فجأةً إلى سؤال سابق وكأنه لا يفارقه: {أنا متشائم جداً طبعاً. قد يكون الضغط الخارجي فاعلاً إذا صدر عن الأميركيين، لكني لا أتوقع حصول ذلك. وقد لا تكون الضغوط من جهات أخرى في العالم فاعلة. لن يتغير المجتمع الإسرائيلي من تلقاء نفسه، ويبدو الفلسطينيون أضعف من أن يغيروه. لكن لو كنا نجلس هنا في أواخر الثمانينيات وأخبرتني بأن جدار برلين سيسقط خلال أشهر، وأن الاتحاد السوفياتي سيسقط خلال أشهر، وأن أجزاءً من نظام جنوب إفريقيا ستسقط خلال أشهر، كنت لأسخر منك. كل ما يمكن أن أتمناه هو أن يكون نظام الاحتلال الراهن فاسداً لدرجة أن يسقط من تلقاء نفسه يوماً. يجب أن نكون واقعيين بما يكفي كي نؤمن بالمعجزات}.

في غضون ذلك، سيتابع جدعون ليفي توثيق جرائم بلده بكل صبر، وسيحاول دعوة شعبه إلى العودة إلى المسار الصحيح. عبس ليفي قليلاً، وكأنه تخيّل صورة نجوى خليف وهي تتمزق إلى أشلاء أمام حافلة المدرسة أو تذكّر والده المحطم، وقال لي: {حتى التوقعات البعيدة المنال تبقى ممكنة}.

جدعون ليفي... أكثر إسرائيلي مكروه (1-2)

back to top