سيرة الأميرة ذات الهمة (5 - 5) تتويج أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية

نشر في 28-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-07-2014 | 00:02
رصدت الحلقات السابقة، آلام وانتصارات أشهر امرأة في الوجدان الشعبي العربي، الأميرة {ذات الهمة} ، صاحبة السيرة الشعبية العربية الوحيدة عن امرأة، ليست مصادفة أن تكون فلسطينية، ولم يكن عفوياً أنها تحذر العرب جميعاً من أطماع الاستعمار الغربي، زمن الخليفة {هارون الرشيد} .

 والحق أن الوجدان العربي خلدها، لأنها قاومت بجيشها قوات {التحالف الرومي} ، الذي حاول استغلال ضعف بعض الثغور في أرض الخلافة الإسلامية لينفد منها إلى أنهار اللبن والعسل، حيث كانت أسرة الأميرة، الفلسطينية الأصل، تقف لهم بالمرصاد، وتنبه الخليفة، إلى الأخطار القادمة من بلاد الغرب، وتقود جموع العيار والجنود لمواجهة العدو عسكرياً.

في الحلقة الخامسة والأخيرة من هذه السيرة (أطول سيرة عربية، وقد لخصناها للقارئ الكريم، اعتماداً على طبعة، أعدها الكاتب والباحث الفولكلوري المصري شوقي عبدالحكيم) نتابع أمجاد المرأة العربية المُحاربة، التي وصلت إلى حد اعتلاء عرش القسطنطينية، بينما كانت جيوش الروم تحاول دخول عاصمة الخلافة الإسلامية، فعادت سريعاً إلى عاصمتها، إلا أنها لم تتمكن من دخولها بفضل فطنة الأميرة وولدها وجيشها.

حين وصلت أخبار دخول الأميرة {ذات الهمة} وولدها الأمير {عبد الوهاب} إلى عاصمة الروم {القسطنطينية}، زاد الهياج الهستيري لدى ملوك وزعماء رأس {التحالف البيزنطي} وبينهم الملك {مانويل} ، خلال اجتماعه بمجلس حربه وكرادلته، وبعدما كانت قواته دخلت بلاد الرافدين، ووصلت إلى {الموصل} ، مُتقدِّمة باتجاه عاصمة الخلافة {بغداد}، انقلبت الدنيا على قدمٍ وساق، لكثرة المعارك والمواكب والرجال والإمدادات والتلاحم، وبات العرب أقرب إلى المنتصرين.

ألهبت الخُدعة الجديدة، التي قام بها {البطال} وأسقطت العاصمة {القسطنطينية} ، نيران الغضب في نفوس الروم، فقد تنكر {البطال} في زي بطريرك شهير، بعد فكه أسرى المسلمين واستيلائه على السبايا من عشرات الآلاف المؤلفة من جنود الأروام وبطاركتهم، وقاد المتنكرين من العرب، وكمُن بهم ثلاثة أيام، إلى حين حلَّ أحد أعيادهم: {وهو يوم ليس له مثيل في القسطنطينية}، حيث أشرف {البطال} وعياروه بالآلاف على دقة التنكر، واندفعوا يسوقون أسراهم {العرب} المزيفين، يرسفون في السلاسل، و} الأروام} ، الذين هم عرب متنكرون، يسومونهم العذاب بجلد ظهورهم، إلى حد قتل بعضهم قتلاً، على مرأى من حراس أبواب القسطنطينية.

كانت الأخبار تواترتْ، بوصول البطريرك، الذي يمثل شخصيته البطال، المنتصر بأسرى المسلمين، حتى زينت الأسواق والساحات الرومية وصدحت فرقهم الموسيقية، وتدافع تجار القسطنطينية، فدفعوا أموالهم وممتلكاتهم في شراء السبايا والأسرى والخيول العربية ومنتجات الشرق، ضُربت الطبول والمزامير، وسُكبت المشروبات أنهاراً، وتقاطرت الوفود من بقية المدن والعواصم والأقطار المشاركة بجنودها ووحداتها، وسرت المشروبات لتلهب الحلم الكبير.

ورغم تنكّر {ذات الهمة} على هيئة امرأة بدوية تزحف مولولة على أربع، مع بقية الأسرى، بينما السياط تلهب ظهرها الضامر، فإنها توزع فيالقها وكتائبها عبر الجهات الأربع، متابعة أوامرها في سلاسلها، لحَملة قوارير الغاز، والقنابل النفطية، ومشعلي الحرائق، ومطلقي البخور المركب والغازات السامة.

وركب أوسطليس بن جرجيس، النائب المعين من الملك {مانويل} على القسطنطينية، في عشرين ألفاً من الفوارس، وخرج ليلقى السبي العربي، حتى إذا ما التقى بقائد السبي،} أبو محمد البطال}، احتضنه، واعتلى مقامه، والآلاف كالبحر الهادر عند أقدامهما، إلى أن انفلتوا داخلين إلى ساحات القسطنطينية، من دون أن يفطن أحد من الروم إلى الخدعة، وأغلقت إثرهم أبواب القسطنطينية النحاسية، القانية الاحمرار، كذهب أندلسي متوهِّج.

هنا صاح {أبو محمد} على الرجال، فأطبق عليهم الأمير {عبد الوهاب} و{ذات الهمة} وكتائبهما المتنكرة، بأسرع من انطباق الجفن على الجفن، متخلصين من ثيابهم وأصباغهم ولحاهم وصلبانهم، وضربوا رقابهم، على مرأى ممن في القسطنطينية من المحتفلين بالكرنفال، حيث انطلقت الألوف المؤلفة بأصباغها وأقنعتها وملابسها الغريبة، مندفعة في كل اتجاه، لا تعرف لها مهرباً، بينما المجاهدون العرب، يتابعون مطارداتهم وحصارهم، سواء على طول الساحات والميادين العامة أو داخل أغوار الحدائق والمتنزهات المزدانة، وحتى داخل القصور والمباني من دون هوادة.

وحين انتهوا من إفناء كل نبض لمقاومة، احتضنت الأميرة {ذات الهمة} ابنها {عبد الوهاب} ، وهي تجفف عنه جروحه، وتمسح بكف يدها الحانية أصباغه التي تنكر بها، وهنا اندفع {أبو محمد البطال} ، مضاحكاً الأميرة {ذات الهمة} ، وهو يأخذ بيدها لتعتلي مكان أعلى عروش أوروبا هامة ومقامة، وهو عرش الملك {مانويل الثالث} ، نازعة عنها ثياب الروم والأصباغ والشعر المستعار والقناع، مشيرة إلى الكرنفال التنكري الذي استحال إلى عيد للذعر، دانت لهم فيه، {القسطنطينية} ، وعواصم وثغور بلاد الأروام الواسعة، التي تفيض بالخير والثراء.

هارون الرشيد

على هذا النحو الصادم، وصل الخبر إلى الملك {مانويل} ، وقادة جيشه، بعدما أشعلوا {الموصل} بالنيران، وقاربوا عاصمة الخلافة بغداد ذاتها، وبلغهم، كيف أن الأمير {عبد الوهاب} بعدما شُفي من جراحه الدَّامية، و{البطَّال} ومن معه من الفرسان، تملكوا البلاد والثغور طولاً وعرضاً، وفتحوا القسطنطينية ذاتها، وقتلوا من فيها من الحاميات والجنود، وكيف استولت الأميرة على قصر حكمه واعتلت عرشه، ووضعت تاج الآباء والجدود على رأسها.

ساعتها، طار صواب الملك {مانويل} غضباً، واستبد به الجنون، متسائلاً لكل من يقع بصره عليه:

- أترون ... أحقاً ما نسمع أحقاً ما يحدث؟

وحين اجتمع قادته من الملوك والكرادلة، أخذوا يترحمون على الملك الذي طاش صوابه، من هول المفاجأة، وأجمعوا على أهمية إيقاف القتال ومتابعة الزحف في وادي الرافدين، والإسراع بالإقلاع عائدين مندحرين، أمام فداحة الكارثة التي أحدثتها {ذات الهمة}، وابنها الأمير {عبد الوهاب} ، وتواترت الأخبار من مقر الخلافة في بغداد بالعودة المفاجئة لجيوش الأروام المتحالفة الجرارة مندحرة إلى مقر {هارون الرشيد} في مالطة، فتحسَّب الرشيد لأهمية عودتهم مروراً بمالطة، لأن جيشه لم يعد قادراً على مواجهتهم، فقرر العودة إلى مقر الخلافة، بعدما كاتب {ذات الهمة} والأمير {عبد الوهاب} ، بعودة الملك {مانويل} وجيش الأروام إلى محاربتهما والانتقام الدامي من {أبو محمد البطال} واسترداد عاصمة القسطنطينية، ورتب لحماية مالطة وبقية الثغور، ثم عاد أدراجه إلى بغداد المنقلبة رأساً على عقب، لما يحدث من مفاجآت غير متوقعة.

وضاعف من هول المفاجآت، السقم المفاجىء الذي حط على أمير المؤمنين الخليفة {الهادي}، ما حتم ضرورة عودة {هارون}، ليعتلي كرسي الخلافة الخامسة للراشدين، ويُعرف بالخليفة هارون الرشيد.

استتبّ الأمرُ لأم المجاهدين، كما لقبها الخليفة، في حكم القسطنطينية وتخومها من بلدان الأروام، حتى الأندلس، بعدما اقتحم العرب أسوارها التي اضطلع بها {البطال} والأمير {عبد الوهاب} ، وأقيمت أفراح زواجه من الأميرة {علوي} أخت هارون الرشيد، بعد النصر الذي أبهر الجميع، لمدة سبعة أيام متصلة.

لكن سرعان ما نشبت الصراعات بين {عبد الوهاب} وزوجته الأولى، أخت الأمير {راشد الكلبي} المدعوة {أخت راشد} نتيجة لزواجه، السياسي، الثاني من أخت هارون، خصوصاً أن أخت راشد هي الزوجة الأولى التي رُزق منها بأميرين سماهما {قشعم وضيغم}، والأخير ولد، قبل أن تموت أمه حزناً وغيرة من زوجته الثانية.

حزن {عبد الوهاب} على وفاة زوجته الأولى، حزناً شديداً، ولبس عليها السواد أشهراً، بل فضل دفنها بموطنها الحجاز، حسب وصيتها، وعاد مصطحباً ولديه إلى القسطنطينية، عبر رحلة بحرية طويلة، تعرض فيها هو وولداه {قشعم وضيغم} لبضع مؤامرات وكمائن من قراصنة الأروام، إلا أن النجدات سريعاً ما كانت تصله في كمائنه، خصوصاً من أعين الأمير {البطال} ، التي أصبحت لا تبعد عنه لحظة.

واجتاز الأمير {عبد الوهاب} وبصحبته ولديه سلسلة المؤامرات والكمائن التي نصبت له على طول البحر الأبيض المتوسط، منذ عودته من الحجاز، وإشرافه على القسطنطينية وتمكنه من اجتياز أسوارها ودخولها.

حين وصل {عبد الوهاب} بولديه إلى قصر والدته الأميرة {ذات الهمة} متلهفاً للقائها، فاجأته بأن دفعت إلى أحضانه بابنه قائلة:

- ابنك محمد... سيف الإسلام.

نكبة البرامكة

كانت زوجته الثانية الأميرة {علوي} أخت الخليفة الخامس هارون الرشيد، أنجبت له ابنه الأول، فاستبشرت به {ذات الهمة} وسمَّته محمد، وكان {عبد الوهاب} قد تركها حاملاً في شهرها الرابع، ومنذ ولادة سيف الإسلام تبنته (جدته) الأميرة {ذات الهمة} ، وحرصت على تربيته وإرضاعه كل أفكارها الكبرى عن الجهاد وتأمين ثغور وثغرات المسلمين، التي منها ينفذ دائماً الأعداء الطامعون.

الأميرة، بدورها، لم تَغْفل عينها لومضةٍ عن الخطر المُحدق، بوصول سفن وبواخر الملك {مانويل} وجيش الأروام، لاسترداد ملكه وعرشه بكل الطرق من أيدي العرب، فكانت تدخل، كل يوم، تحسينات وتحصينات على خطتها الرباعية، انتظاراً لوصول الأعداء، حتى إذا ما حط رجال الملك {مانويل} وجنده، استقبلته {ذات الهمة} و{عبد الوهاب} بجيشهما لتشتيت فلولهم عبر التلال والوهاد، ومن دون أن ينالوا الكثير من فيالق {ذات الهمة} المتحصنة، هذه المرة، داخل أسوار القسطنطينية المنيعة.

عزز من موقع الجيش العربي هذه المرة، ما وقع في أيديه من مؤن وذخائر وأسلحة حديثة وجميع إمدادات جيش الأروام، ليعاود إشهارها في صدورهم بعدما تخلى هؤلاء من فورهم عن الوصول إلى عاصمة الخلافة، وعادوا أدراجهم لاستعادة القسطنطينية من أيدي {ذات الهمة} والأمير {عبد الوهاب} ، لكن من دون جدوى ومن دون إحراز تقدم يُذكر.

هكذا فشل جيش الأروام بقيادة الملك {مانويل} في استعادة القسطنطينية، نتيجة لترجيح الأسلحة الجديدة والمؤن التي أصبحت في أيدي العرب.

حينما استتب الأمر للأميرة {ذات الهمة} في القسطنطينية، عاد {هارون الرشيد} من فوره إلى بغداد، التي كانت تعاظمت شهرتها، واتسعت أحياؤها وصخبت بكل أنواع الفنون والثقافات والقطاعات الزراعية والبساتين اليانعة، على طول نهر دجلة، واستقبلت مواكب هارون الرشيد العائدة، بالتكبير والغناء والموسيقى.

وكان أبو موسى الهادي أوصى بالخلافة من بعد المهدي للرشيد أخيه الأصغر، وكان هارون الرشيد يشاركه قصر الخلافة، إلا في أوقات غيابه للجهاد حفاظاً على ثغور المسلمين، إلى حين عودته محملاً ببهجة النصر الكبير بتأمين الثغور، وفتح القسطنطينية ذاتها، وتنصيب {ذات الهمة} إمارتها.

خاف الخليفة المريض، سطوة الرشيد، خصوصاً بعدما لازمه حلم أو رؤيا، رأى فيها المهدي، وكأن الرشيد مُتربع على قبة الخلافة، إلى أن وخزه ذات ليلة شيء في قدمه اليسرى، فحكَّها حتى صارت مثل البندقة، ثم تورَّمت واتَّسعت، قبل أن يموت.

وما إن تعالى النهار، حتى شاع في بغداد موت المهدي وخلافة الرشيد، الذي سعى إليه جميع الملوك والأمراء وحكام الثغور، فاستقروا في مجده وعزه، وغنَّت {خيزران} باسمه من ألحان إسحق الموصلي آخر أغنياتها:

الدهرُ يومان ذا مَنٌ وذا قدرُ

  والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر

أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ

   وتستقر بأعلى قاعة الدُرر

وكم على الأرض من خضراء مورقة

  وليس يُرجَمُ إلاَّ من له ثمر

كذلك الريح إذا هبَّت عواصفُها

فليس تقصفُ إلا عالي الشجرِ

وفي السماءِ نجومٌ لا عدادَ لها

وليس يخسِف إلا الشمس والقمر

لا تأمنن إلى الدنيا وزينتِها

 فعند صفو الليالي يحدُث الكدر

وما إن خمدتْ نيرانُ الحرب حتى اندلعت نيران مؤامرات القصور، ففي جبهة القسطنطينية، اندلعت الصراعات التي يؤججها عم الأميرة {ظالم} وولده {الحارث} ضد الأميرة {ذات الهمة} وولدها، إلى حد دفع بالأمير {عبد الوهاب} إلى محاربتهما وقتل جده {ظالم} في شعاب الجبال، كذلك ألهب نيران تلك الفتن كبار وزراء البلاط لدى الخليفة الجديد، الذي حارب، منذ مطلع شبابه، تحت رايات الأمير {عبد الوهاب} ، باسم {هارون العلوي} .

كان كثيرٌ من وزراء هارون ورجال بلاطه، يدسون ضد الأميرة وولدها، لكن {ذات الهمة} رأت في الوزير الأول {جعفر بن يحيى البرمكي} كل تفهم، وكان تعاظم دور البيت البرمكي داخل بلاط الرشيد، إلى حدٍ فجر الأحقاد الدفينة ضد الوزير الأول، بسبب هيمنته على أهم القرارات المتصلة بقضايا الحرب والسلم، لأنه ساند دائماً جبهة {ذات الهمة} .

أضمر الرشيد للبرامكة الحقدَ الدفين، بينه وبين ولديه الأمين والمأمون وأخص خواصه، وسرّب جواسيسه وعيونه وبصاصيه للتجسس عليهم وعلى أعوانهم، حتى داخل إيوان وغرف نوم الوزير الأول جعفر، ووالده الشيخ يحيى البرمكي، وأخيه الأصغر الفضل، وهكذا تجمعت الوساوس، باتجاه نكبة البرامكة وحلفائهم، وهم هنا {ذات الهمة} وابنها الأمير الفاتح {عبد الوهاب} ، وساعده الأيمن الأمير {أبو محمد البطَّال} .

اعتقال الأميرة

ساور الشك الأميرة، وهي تستقبل مبعوث الخليفة الجديد، {هارون الرشيد} ، وأحاطتْ بها الهموم، وهي تصرف الرسول مستعدة للخروج والتوجه إلى مضارب الأمير {عبد الوهاب} ، لبحث الأمر من جوانبه كافة من دون عجلة، والوقوع في حبائل فعل أو قرار خاطئ، يقلب حياتهم رأساً على عقب.

اتخذتْ {ذات الهمة} طريقها على صهوة جوادها إلى مضارب ولدها {عبد الوهاب} ، حتى إذا ما وصلته، لم تترجل عن جوادها بعدما علمت من الحراس والحجاب، تغيبه، منذ ضحى اليوم، في مهمة سرية للغاية لم يبلغاها بها، ترددت الأميرة {ذات الهمة} قليلاً، ثم غمغمَتْ: {لا بأس} ، متذكرة أنها، ومنذ فتح القسطنطينية، أصبحت بموجب مرسوم أمير المؤمنين الخليفة المهدي، أول إمبراطورة عربية تعتلي عرش ملوك الأروام، لكنها تقبَّلت هذا الأمر إرضاء لخليفة المسلمين، بعدما رفضه بإباء وحزم، ثلاث مرات، ابنها {عبد الوهاب} ، مترفعاً زاهداً، كعادته.

تساءلت الأميرة وهي تتحسس مكتوب أمير المؤمنين:

- يا ترى أين ذهبا؟

تحسستْ رسالة أمير المؤمنين في جعبتها من جديد، مدركة أنها الرسالة الثالثة التي تصلها من الخليفة، وتحمل المعنى الآمر الناهي ذاته كما في المرتين السابقتين، فنجح {البطال} في ثنيها عن رأيها ووافقه الأمير {عبد الوهاب} ، مُقتنعاً بحجج {البطال} وبصيرته الثاقبة، خصوصاً أن عاصمة الخلافة، مضطربة بالفتن والمؤامرات التي تنذر بالكثير، وكانت الأخبار تصلها من عاصمة الخلافة، عما يحدث داخل أروقة البلاط، فيزيدها الأمر أسفاً.

تحوَّل الرشيد، نتيجة سعي وزراء بلاطه المقربين ذوي العقلية الضيِّقة، التي لا ترى أبعد من موطئ القدم، ولا تريد سوى الاستحواذ على الثراء ومصادر القوة وإعلاء شؤون القبائل والعشائر، من دون إعطاء أدنى اعتبار لظروف الحرب التي خفتت نيرانها جهاراً، وما كان يحدث في الخفاء من {تحالف الأروام} الراغبين في الانتقام.

حين عبرت الأميرة {ذات الهمة} ساحات مقر قيادة قصر الأمير {أبو محمد البطال} ، تطلعت طويلاً إلى قلاعه وتعزيزاته التي لم تشهد لها مثيلاً وقالت باندهاش:

- كل هذا!!

كان {البطال} ، الذي بدأ من قاع صفوف البدو الفلسطينيين معدماً، وصل إلى أقصى درجات السطوة والقوة، حتى أصبح مضرب الأمثال، مشرقاً ومغرباً، ثراء ونفوذاً وقوة، بل أصبح الخليفة ذاته يضمر له العداء، كلما وصلته سطوته وثروته التي أحرزها بذكائه المتوقد قبل الأظفار والنواجذ.

 ضحكاتُ {البطال} وحلو تعليقاته في الترحيب بها وبحاشيتها، أخرجتا {ذات الهمة} من هواجسها، وما إن اجتمع الشمل، وحاولت {ذات الهمة} فض رسائل أمير المؤمنين، قبل تناول العشاء، عاجلها {البطال} ، بما تحتويه الرسائل، كما لو كان كاتبها حرفاً بحرف، معلناً: {هذا كمين ... عذراً أنا لن أذهب} .

وهكذا استقر رأي {ذات الهمة} وولدها على الرحيل العاجل، إلى عاصمة الخلافة، استجابة لطلب أمير المؤمنين، من دون {البطال} ، لبحث كثير من الأمور مع الخليفة، لكن ما إن وطأت قدماهما عاصمة الخلافة، وقد دخلاها سراً ليلاً، حسب مطلب الرشيد، وحين تلاقت عيناها والخليفة، عادت فنظرت إلى ابنها {عبد الوهاب} كأنها تقول:

- أبو محمد معه كل الحق.

في هذا الجو المشحون الذي أثارته مؤامرات ودسائس وزراء الرشيد، بدءاً من رأس بني سليم، والفضل بن الربيع، مروراً بالقاضي (الضيق الأفق والمروءة) عقبة بن مصعب، ومع غياب الوزير الأول جعفر بن يحيى البرمكي، الذي أصبح في موضع المغضوب عليه، لم تتراجع {ذات الهمة} عن مواجهة الخليفة ومعارضته الرأي في كثير مما طرح بحثه ونقاشه، حتى إذا ما تطرق الأمر، حول مروق وعصيان {أبي محمد البطال} ، دافعت {ذات الهمة} بكل قواها عن الأدوار الهائلة التي لن تنسى والتي أسداها البطال، لجيش الخليفة، والتي لولاها لما تحقق النصر.

هنا استشاط الخليفة غضباً من دفاع {ذات الهمة} وولدها، ومن تغير {البطال} وكسر أمره بالمجيء ثلاث مرات، وقام الخليفة مُحتداً، ما دفع {ذات الهمة} إلى محاولة الانسحاب احتجاجاً من حضرة الخليفة، لكن الحجاب أرجعوها عند الباب.

أما {عبد الوهاب} فرفض أمراً صريحاً للخليفة بتعيينه حاكماً، رسمياً، على القسطنطينية، في حالة تخليه عن أبي محمد البطال، وتسليمه وجيشه، الذي اعتبره الخليفة مارقاً منشقاً عنه.

ولما لم يجد هارون الرشيد، تقبلاً لما استدعاهما لأجله، هبَّ في ثورة غضبه، مشيراً إلى حراسه باعتقال الأميرة {ذات الهمة} ، والأمير {عبد الوهاب} .

هنا تدخل {البطال} ، مجدداً، وفك أسر الأميرة {ذات الهمة} وولدها الأمير {عبدالوهاب} ، من المطمورة التي سجنا فيها مستخدماً ما عُرف عنه من حيلة، وعادوا جميعاً إلى بلاد الأعداء، وحاربوا تحالف {الأروام} ، من جديد، إلى أن أصيبت الأميرة، وماتت متأثِّرة بجراحها، ودفنت إلى جوار جدّها، {الصحصاح} ، وصارتْ حكايتها تروى كأول امرأة عربية تدخل أرض الروم بجيشها، وتنجح في الجلوس على عرش {القسطنطينية} .

سيرة الأميرة {ذات الهمة} (4 - 5)

سيرة الأميرة ذات الهمة (3 - 5) قائدة الجيوش تلد الأسد الوثاب الأمير عبد الوهاب

سيرة الأميرة ذات الهمة (2 - 5) أم المجاهدين تحترف الفروسية وتحاصر جيوش الروم

سيرة الأميرة ذات الهمة (1 - 5) الصحصاح يُحاصر عاصمة الروم... والوليد يخفي الوصية

back to top