رشدي أباظة... الرجل الأول: حياة أو موت (الحلقة الأخيرة)

نشر في 28-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-07-2014 | 00:02
شعر رشدي بأن التكريم الأول في حياته، تأخر كثيراً، وأن عشرات الأدوار يستحق عنها جوائز وتكريمات، ليس برأيه بل برأي النقاد وصناع السينما والمهتمين، فرغم أنه دخل عالم التمثيل بالمصادفة، ولم يكن ضمن مخططاته يوماً أن يصبح ممثلا أو نجماً سينمائياً، إلا أنه خاض التجربة وقبل التحدي، ليصبح خلال عشر سنوات، وتحديداً عام 1959، أحد الممثلين المعدودين في مصر، وبعد أقل من عشر سنوات أخرى، أي عام 1968، خرج الأول على كل الفنانين والمطربين المصريين والعرب في أحد أكبر الاستفتاءات الجماهيرية في الوطن العربي، وتخطى معبود الجماهير، العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي جاء في المرتبة الثانية.
مع أن المصادفة وحدها كانت وراء دخول رشدي إلى عالم السينما، إلا أنه عشقها بجنون، ولم يرد أن يجعل لها شريكاً في قلبه، لذا لم يفكر يوماً في خوض مجال المسرح رغم إعجابه به وإدراكه أهميته. أما المرة الأولى التي وقف فيها على خشبته فكانت لمناسبة تكريمه. كذلك الأمر عندما دخل البث التلفزيوني مصر، عام 1960، فظل بعيداً عنه  إلى أن طالبه الرئيس السادات، نظراً إلى جماهيريته الكبيرة، بتنفيذ مسلسل تلفزيوني، وهو ما شجعه على خوض هذه التجربة، مستعيناً بيحيى العلمي، مخرج فيلم «خائفة من شيء ما»، خصوصاً بعد تجربته الناجحة مع الفنان أحمد زكي في مسلسل «الأيام»، فطلب منه البحث عن مسلسل يدخل عبره البيوت العربية للمرة الأولى في حياته، نزولا عند رغبة الرئيس السادات.

لم يستطع رشدي الانتظار إلى حين عثور يحيى العلمي على عمل تلفزيوني مناسب، في وقت يتكالب عليه منتجو السينما، فقدم مع المخرج حسين حلمي فيلمين: «لمن تشرق الشمس» أمام ناهد شريف، مصطفى فهمي، نبيل نور الدين، وعبد العظيم عبد الحق، “دعوني أنتقم” أمام مديحة كامل، حسين فهمي، زيزي مصطفى، صلاح نظمي، إخراج تيسير عبود.

سامية دائماً وأبداً

لم يكن هذا العدد من الأفلام كافياً بالنسبة إليه، ليس طمعاً في مزيد من المال، فهو ليس بحاجة إليه، إنما تجنباً لمزيد من وقت الفراغ، فهو يريد أن يعمل طيلة الأربع والعشرين ساعة، لا لشيء سوى ألا يكون لديه وقت يفكر فيه، فهو لا يستطيع إبعاد سامية جمال عن تفكيره، ويقوم بمحاولات لإعادة الحياة بينهما، حتى  تحول الأمر إلى هدف لدى الأصدقاء والمقربين منهما: نادية لطفي، أحمد رمزي، صلاح نظمي، سمير صبري، الماكيير محمد عشوب، وعامل الأكسسوار تركي الشهير بـ»عم دنجل»، لإعادة الحياة بينهما، حتى نجحت مساعيهم أخيراً، ووافقت سامية على العودة إليه، غير أنها اشترطت شرطاً واحداً. فقط:

= ماعنديش مانع أنا موافقة.

- هايل دا خبر الموسم... رشدي ها يطير من الفرح.

= بس أنا ليا شرط واحد يا سمير.

- شرط!! شرط إيه يا ست الكل؟

= أنا هرجع له... بس هو ما يرجعش للشرب تاني... ولا حتى كأس واحد.

- وأنا بالنيابة عنه موافق على الشرط.

رغم صعوبة الشرط الذي أصبح أقرب إلى المستحيل بالنسبة إلى رشدي، إلا أنه وافق من أجل عودتهما، وإن كان له شرط، أيضاً،غير أنه لم يعلمها به، كما لم يبح به للوسطاء.

اقترح الوسطاء أن تكون العودة أمام فناني مصر كلهم، وأن تكون هذه المناسبة من خلال عرس فني يشهده العاملون بالوسط الفني، كما شهدوا انفصالهما، فاقترحوا أن يكون ذلك في الحفل الختامي لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليس الحفل الرسمي، بل خلال الاحتفال في فندق «مينا هاوس» الذي يقام لضيوف المهرجان عقب انتهاء الحفل الرسمي.

حرص رشدي على أن يمتنع عن الشراب على مدى أسبوعين هما عمر المهرجان، وراح يستعد للقاء المرتقب، وتجهيز كل شيء، لا سيما «المأذون» الذي سيكون حاضراً لعقد القران، وحجز غرفة في الفندق لقضاء شهر عسل جديد.

في الحفلة جلس رشدي على طاولة برفقة الفنانين الوسطاء، ينتظر أن تهل سامية لتنير حياته من جديد، وفجأة أعلن المذيع مفاجأة الاحتفال:

= السيدات والسادة الحضور الكرام... ضيوف مصر الأعزاء... الآن جاء وقت مفاجأة المهرجان وحفلة الليلة... وهي فقرة راقصة تؤديها ملكة الرقص الشرقي النجمة الكبيرة سامية جمال في  عودة جديدة لها.

ضجت القاعة بالتصفيق، ما عدا رشدي، الذي كانت يداه مشغولتين بتناول واحدة من «الزجاجات الشقراء» المنتشرة بكثرة على الطاولة، ولم تمتد يده إليها منذ أول الليل، احتراماً للعهد الذي قطعه على نفسه، لعودة سامية إليه، لكن ما إن أطلت على خشبة المسرح، حتى كان الكأس الأول يستقر في جوفه، فقد اتخذ قراره في هذه اللحظة بعدم العودة إليها، هذا هو الشرط غير المعلن الذي لم يبح به رشدي لأحد من المقربين منه، ولم يكن أحد من الوسطاء يعلم حساسية رشدي من أن ترقص سامية جمال أمام جمهور، حتى عندما سمح به في الأفلام التي رقصت فيها وهي معه، كان على مضض، وعزاؤه فيها أنها جزء من سياق عمل فني، فقد تضطر الممثلة أحياناً للرقص.

في الوقت الذي اتخذ فيه رشدي قراره بعدم العودة، استقرّت سامية على قرار عدم العودة، بعدما رأته يخل بشرطها الوحيد، ويعود إلى الشراب.

يسرا  ورشدي

خرج رشدي من الحفلة، واتخذ قراراً نفذه في اليوم التالي مباشرة، إذ خطب «نبيلة أباظة» ابنة عمه المستشار سليمان أباظة، لتكون أول زيجة تقليدية بين زيجاته الأربع السابقة: تحية كاريوكا، بربارا، سامية جمال، أو حتى صباح، غير أن المثل العامي المصري يقول: «من فات قديمه تاه» فلم يستطع رشدي أن يعيش من دون حب ومغامرات، وما إن التقى الفنانة الشابة يسرا قبل أن يبدأ تصوير فيلم «أذكياء.. لكن أغبياء» حتى وقع في غرامها.

عرض عليه المخرج نيازي مصطفى الفيلم، وكانت البطلة أمامه يسرا، ومعهما مديحة كامل، عادل إمام، سمير غانم، إبراهيم سعفان، والوجه الجديد سمية الألفي، لكن لم يمر أسبوع واحد على بداية تصوير الفيلم، حتى كان قد أوقع يسرا في شباكه، فأحبته كما أحبها، ولم يبق سوى إتمام هذا الحب بالزواج:

= صدقني وأنا كمان بحبك... لكن مش هاقدر.

* ليه مش هاتقدري... قولي بصراحة... في حد تاني في حياتك؟

= خالص والله... ولا بفكر في الحب ولا الجواز دلوقت على الإطلاق... ولو فكرت مش هايكون في غيرك... لكن صدقني أنا كل اللي يهمني دلوقت هو مستقبلي الفني... نفسي أكون فنانة كبيرة ليا اسم وأعمل تاريخاً فنياً أفتخر بيه.

* وأنا معاكي... وهاساعدك لحد ما تبقي نجمة كبيرة... ومستعد كمان أكتبلك نص ثروتي... وقسمت النص التاني.

= ولا دا كمان هاينفع... لأني نفسي أعمل دا بنفسي... مش أطلع على أكتاف أي حد.

* بس أنا مش هابقى أي حد... هابقى جوزك.

= ماهو علشان كدا بقول لأ على الجواز.

* مش فاهم!

= مافيش حد في الوسط الفني ولا براه هايصدق أني أتجوزتك رغم الفرق في السن اللي بينا... لأننا بنحب بعض... هايقولوا إما إني أتجوزتك علشان أطلع على أكتافك.. أو طمعانة في ثروتك... وأنا عمري ماهقبل دا أو دا.

أحبت يسرا رشدي كما أحبها، وربما أكثر، لكنها اعتذرت عن موافقتها على الزواج به، وأصرت رغم إلحاحه عليها ومطارداته الغرامية لها، غير أنه بعد رفضها المتكرر، اقتنع بوجهة نظرها، ووافق على أن تربط بينهما صداقة، وأن يلتقي بها يومياً في حديقة مسبح فندق «مينا هاوس» حيث كان يفضل الإقامة بعد الانفصال عن سامية، وزواج قسمت.

لم يكن مجرد قبول رشدي بقرار يسرا لأنه نزل عند رغبتها، بل لأنه راح يفكر في الأمر، فأفاقه كلام يسرا من الحلم الطويل الذي كان يعيش فيه، أفاق على صدمة لم يكن يتوقع أن تحدث، أن يكتشف أنه بلغ السن التي لم يعد يستطيع معها أن ينال فتاة في عمر يسرا، رغم أنه لم يكمل عامه الثاني والخمسين، وهو العمر الذي بدأت معه تتفتح نجومية آخرين، فيما يعيش نجوميته منذ منتصف عمره تقريباً.

لم تتحول هذه الحقيقة التي اكتشفها إلى أزمة تقلب حياته رأساً على عقب، أو تدفعه إلى الإغراق في «البوهيمية»، بل لم يتوقف عندها كثيراً، خصوصاً أنه ما زال يحتفظ بإعجاب العشرات وانجذابهن، من المقربات سواء من الوسط الفني أو خارجه، والملايين ممن لا يعرفهن عبر الوطن العربي، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، فلم يكن ثمة من  يكرهه أو يتخذ موقفاً منه، رغم عصبيته الزائدة وغضبه السريع، إلا أنه يكون غالباً في الحق، فلم يكن يدخل الأستوديو حتى يمزح مع العمال بل ويناديهم بأسمائهم، مهما كثر عددهم، في حين كانوا ينادونه باللقب الذي يحبه:

= حمد لله على السلامة يا إكسلانس.

وإذا ما تعرض عامل لأي أزمة من أي نوع، كان رشدي أول من يهب لمساعدته، فضلا عن أنه يأتي كل خميس من أيام التصوير، ويسأل العمال والفنيين وهو جالس في سيارته من دون أن يغادرها:

* إيه يا ولاد... خدتم فلوسكم ولا لأ؟

إذا أجاب العمال بنعم، ينزل ويكمل التصوير، أما إذا أجابوا بلا، فيرفض استكمال تصوير مشاهده إلى أن يحصل العمال والفنيون على حقوقهم، وهو ما جعل العاملين والفنيين في الوسط السينمائي يتمنون العمل معه، بل ويتمنون تلبية أي طلب له، إلا أنه لم يكن يطلب شيئاً لنفسه قط.

أفلام بالجملة ومسلسل

في وقت كان يصور فيه فيلم «أذكياء لكن أغبياء» بدأ تصوير فيلم «دائرة الشك» مع سمير صبري، توفيق الدقن، يوسف فخر الدين، إبراهيم خان، إخراج زكي صالح، وبعدهما وقف مجددا أمام صديقته الجديدة يسرا في فيلم «بياضة».

تدور أحداثه حول «بياضة» فتاة تملك مطعماً، ويعمل خطيبها  حسن بصيد الأسماك، في أحد الأيام يصل إلى البلدة أجانب بحجة البحث عن جثة جدهم في قاع البحر إلا أنهم في حقيقة الأمر يعملون في تهريب الذهب، فيتفق الشاب خليل مع حسن على معاونتهم في الغطس مقابل مبلغ من المال، يشك فيهم حسن ويبدأ مراقبتهم، يعثر أحدهم على صندوق مليء بالذهب وعندما يهم بإخفائه يفاجئه حسن وأعوانه ويسلمونه للشرطة، فيُقبض على مجموعة الأجانب ويتضح أن خليل من رجال الشرطة.

شارك رشدي ويسرا في بطولة الفيلم: محمد رضا، وحيد سيف، فاروق يوسف، وإخراج أحمد ثروت، وقبل أن ينتهي من تصويره، سبق المخرج عادل صادق يحيى العلمي، وفاجأه بالعثور عما يبحث عنه:

= أيوا يا نجم... مسلسل هايكون علامة في تاريخ الدراما التلفزيونية.

* مش عايز مبالغة يا عادل... مش عايزهم يقولوا إني قعدت عشرين سنة ماقربش من التلفزيون... ويوم ما فكرت أعمل حاجة تكون مش على مقاس رشدي أباظة.

= هاتشوف وتحكم.

* قبل ماأشوف لازم أقرأ... بالمناسبة هو اسمه أيه؟

= صفقة الموت.

* اسم تجاري حلو... بس ياريت تكون الأحداث حلوة زي اسمه.

= اقرأ واحكم يا إكسلانس.

* اخترت الناس اللي هايشتغلوا معايا.

= تقريباً... صفاء أبو السعود، حمدي أحمد، حسن حسني، فكري أباظة... دول تقريباً الأساسيين... وبرضه اللي هاتقول عليه.

* لا هايل أوي... عموما خلينا نتكلم بعد ما أقرأ.

وافق رشدي على المسلسل بشكل مبدئي، غير أنه كان لا بد من الانتهاء من التزاماته السينمائية ليتفرغ لتصويره، فأكمل تصوير فيلم «سأعود بلا دموع» أمام مديحة كامل، مصطفى فهمي، محمود المليجي، مريم فخر الدين، سيناريو وحوار بشير الديك، إخراج تيسير عبود، المأخوذ عن رواية «زيارة السيدة العجوز» للكاتب العالمي «فريدرش درونيمات».

 تدور أحداثه حول «هند»، فتاة فقيرة تتورط في علاقة مع ابن أحد الأثرياء في بلدتها، لكن والده الثري يرفض تزويجهما، فيحرق منزلها ويطردها من البلد، فتعمل عند ثري عجوز، يتزوجها ويكتب لها كل ثروته قبل أن يموت، لتصبح صاحبة ثروة وجاه، وتقرر العودة إلى القرية للانتقام من حبيبها ووالده، بل من أهالي القرية الذين وقفوا عاجزين بالصمت.

رغم أن رشدي أعجب باسم المسلسل «صفقة الموت»، إلا أنه ما إن بدأ بقراءة السيناريو والحوار، حتى شعر بانقباض قلبه، فالأحداث تدور في قالب ميلودرامي، حول رجل يصاب بورم في المخ، وتكون المصادفة وراء اكتشافه مرضه، بعدها يؤكد له الأطباء أنه لن يعيش أكثر من ستة أشهر، وأن الأمل الوحيد في إجراء جراحة قد تكون نتيجتها غير مضمونة، فيبدأ في إعادة حساباته في كل شيء حوله، وعلاقاته بالآخرين، ولحظات وداعهم في أيامه الأخيرة، ثم يقرر أن يجري الجراحة، لكن القدر يستجيب وتنجح، لكنه يموت بعدها. هنا تدخل رشدي في السيناريو وطالب بتعديل النهاية حتى لا تكون قاتمة، أي يعود الرجل للحياة من جديد، فوافق المخرج عادل صادق.

رغم أحداث المسلسل القاتمة والقابضة، وافق رشدي على العمل فيه، وبدأ التصوير بالفعل، غير أنه بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أسابيع من العمل اعتذر عن التصوير، لمدة أربعة أيام بسبب آلام حادة هاجمته، بشدة، لدرجة أن «الصداع» لم يعد يفارقه، فأرجع ذلك إلى المهدئات التي يتناولها، غير أنه وجد أن الألم في تزايد، فاضطر أن يذهب إلى الطبيب:

= يا أستاذ رشدي أنت بتجهد نفسك زيادة عن اللزوم... لازم ترتاح.

* يعني أعمل أيه؟ أقعد في البيت ما شتغلش؟

= ماحدش قال كدا... بس مش بالطريقة دي... دا انتحار بالبطيء.

* ما تكبرش الموضوع يا دكتور.

= لازم أكبره علشان تاخد بالك من صحتك... أنا مش عايز أقلقك.

* مافيش قلق ولا حاجة... ما تصدقش يا دكتور... دا كلام دكاترة... هاهاهاهاها.

وصف له الطبيب بعض المسكنات، ونصحه بالراحة وعدم الإجهاد، لكن رشدي لم يمتثل لأوامره، بمجرد أن شعر براحة من الأدوية التي كتبها له الطبيب، استأنف التصوير في المسلسل، ولم يمر يوم إلا وهاجمته الآلام بشدة، لدرجة أنه سقط في البلاتوه، مغشياً عليه، فنقل على الفور إلى المستشفى ومعه شقيقه فكري، الذي اتصل بأفراد الأسرة، فكانت والدته أول من وصل إلى المستشفى، وبعدها شقيقتاه، منيرة ورجاء.

قام الأطباء بتوقيع الكشف عليه، وعمل الأشعة والتحاليل اللازمة، فكان اكتشاف الكارثة، التي خص بها الطبيب المعالج والدته من بين الحضور:

= أنا آسف ياهانم... أستاذ رشدي مريض بمرض خطير.

- عنده إيه يعني؟

= للأسف ورم في المخ... وفي مرحلة متقدمة.

- أنت بتقول أيه؟ إزاي مش ممكن... رشدي... دا مش ممكن أبداً... أنا لازم أعرضه على أكبر الأطباء في مصر... لا في العالم.

= للأسف دا مش هايغير من الأمر شيء... لأن دي الحقيقة... حتى لو عرضتيه زي ما بتقوللي على كل أطباء العالم.

- يعني مافيش أمل يا دكتور.

= الأمل في ربنا طول الوقت.

شعرت والدة رشدي بأن هذه هي النهاية، فلم يصب أحد بهذا المرض اللعين ونجا، لذا الموت قادم لا محالة، فقررت أن تحتكم إلى العقل الأوروبي، الذي يتجرد من المشاعر الإنسانية في اللحظات العصيبة، والتصرف وفقا لما يمليه عليها عقلها، وليس قلبها.

كانت والدته قد كتبت له ثروتها مناصفة مع ابنته قسمت، لكنها بعدما علمت بمرض رشدي، فكرت في أنه في حال موته، سيرث أشقاؤه من والده، فكري والشقيقات الثلاث، نصيباً كبيراً من ثروته، باعتبار ألا ولد يرثه، كما يقول الدين الإسلامي، ففكرت في كيفية استعادة ما كتبته لرشدي من ثروتها، غير أنه سيسأل، حتما، عن السبب، لكنها لم تتردد، وفور خروجه من المستشفى،  ومرافقته  لقضاء فترة النقاهة في مزرعته بالطريق الصحراوي... فاتحته في الأمر:

* إيه اللي إنت بتقوليه دا يا أمي؟ وليه فكرتي في الموضوع دا دلوقت؟

= أبداً... بس أنا شايفة إني ظلمت ابني.

* ابنك؟! وهو أنا مش ابنك... وبعدين أنا من الأول ماطلبتش منك إنك تكتبيلي حاجة... أنا مش قادر أفسر موقفك دا... قوليلي بصراحة في إيه؟!كان رشدي أباظة يكره المرض، ويكره أن يقال عنه إنه مريض، فالفتى الذي كان بطلا للملاكمة وكمال الأجسام، {مفتول العضلات}، رمزاً للقوة والفتوة في عشرات الأفلام، يحمل فجأة لقب {مريض}!!

تصورها مضحكة تلك الأنباء عن مرضه... لكن الضحك تحول إلى بكاء، والكوميديا إلى تراجيديا، وحلت الكارثة ويعيشها في الواقع، فمن يصدق أن صاحب اللكمات الفولاذية لم يعد يقوى على السير منتصب القامة مرفوع الرأس؟ بل ومن الممكن أن تكون أيامه في الحياة معدودة!!

ظل رشدي ثلاثة أيام في غرفته، لا يريد أن يرى أحداً، أو يتكلم مع أحد، فقط يدخن ويفكر في مصيره، فقد أدرك الرسالة التي أرادت والدته أن تصله، فهم أنه على مشارف الموت، ما دفعها للمطالبة باسترداد نصف ثروتها التي سبق وكتبتها له، قبل أن يذهب إلى أخوته من والده.

بعد عزلة ثلاثة أيام، خرج رشدي وقرر أن ينفذ لوالدته ما أرادت، ويعيد إليها ميراثها، غير أنه قرر، في الوقت نفسه، ألا يستسلم لهواجسه والأمر الواقع، ويجلس في حجرته فوق سريره ينتظر أن يأتيه الموت، بل مواجهة المرض بشجاعة، كما اعتاد في كل مواقفه، فحمل التقرير وذهب إلى طبيبه المعالج:

* ماتخبيش عليا يا دكتور... أنا قادر على مواجهة الموقف بشجاعة... أرجوك قوللي بصراحة... أنا فعلا عندي المرض دا؟

= للأسف هي دي الحقيقة.

* يعني خلاص هاموت.

= أستاذ رشدي أنا أعرف أنك قوي ومتماسك... أرجوك.

* لا لا... متخافش... أنا فعلا قوي ومتماسك... بس كنت عايز أعرف أنا فاضللي كام شهر... ولا كام يوم وأموت؟

= أستاذ رشدي الأعمار بيد الله...

* ونعم بالله... أنا عارف... دا بس علشان أعمل حسابي.

= تعمل حسابك على أيه... مافيش في الطب الكلام دا... الكلام دا عندكم في السينما وبس... لكن في الواقع ماحدش يقدر يحدد مين هايموت أمتى... أو هايعيش أد أيه؟

* طب قوللي بصراحة... مافيش أمل.

= الأمل موجود طول الوقت... طول ما عندنا إيمان بربنا... وعموماً في عمليات لاستئصال الورم دا اتعملت كتير في ألمانيا ولندن في الفترة الأخيرة... وكانت نسبة النجاح كويسة أوي.

* يعني تفتكر ممكن أعمل العملية دي... ولا مافيش داعي... وأنتظر لحد ما...

= أستاذ رشدي... أنت عارف أنه مافيش مستحيل قدام قدرة ربنا.. إحنا نعمل اللي علينا  ونبعت الأشعة والتحاليل لندن أو ألمانيا... وننتظر يردوا علينا بإمكانية عمل العملية.

لم يتردد رشدي، واتخذ قراره بالسفر إلى لندن لإجراء الجراحة، فكان عليه أن يؤجل ارتباطاته الفنية لحين العودة، خصوصاً ذلك المسلسل {صفقة الموت} الذي اعتبره رشدي شؤماً عليه، ورغم ذلك طلب من المخرج عادل صادق تأجيل التصوير إلى حين عودته.

كان رشدي على ثقة بأن الله سيكتب له النجاة، وهو ما جعله يلجأ إلى فكرة مجنونة راح يتفق عليها مع فكري:

= اللي بتقوله دا يا رشدي جنان.

* ولد... أتأدب... صحيح أنا مخي تعبان بس مش مفوت.

= مش قصدي والله... بس مافيش حد ممكن يعمل كدا.

* مافيش حد يعمل كدا غير رشدي أباظة... إلا إذا كنت حاسس أني مش هاقوم تاني.

= بعد الشر يا رشدي ماتقولش كدا.

* خلاص يبقى تبعت تلغراف لعادل صادق قوله يجيب الكاميرا معاه ويجي يصور العملية... دا ها يبقى أول عمل فني واقعي في العالم كله... بطل المسلسل بيعمل عملية استئصال ورم في المخ بجد... مش تمثيل يجيبوا أوضة العمليات واللمبات تنور وبعدها يخرج الدكتور يقول عملنا اللي علينا والباقي على الله.

= بيني وبينك هي فكرة عبقرية... بس تفتكر هنا ممكن يسمحوا بدا؟

* عندك حق... كانت فايته عليا دي... بعدين الدكتور أندرو ممكن يتعصب وهو بيعمل العملية ويشيل حتة زيادة من مخي... تبقى مصيبة.. ولا يطلب أجراً من عادل صادق باعتباره هايبقى بدل الممثل اللي هايقوم بدور الدكتور... هاهاهاها.

= أنت بتفكر في الموضوع دا بجد.

* فعلا فكرت... لكن اتراجعت دلوقت... تعرف أن المسلسل دا وشه وحش عليا... من ساعة مامسكته وأنا حاسس إن أنا {توفيق البنهاوي} بطل المسلسل مش رشدي أباظة... لحد ما الخيال اتحول لحقيقة.

= يعني خلاص مابعتش التلغراف؟

* لا ابعته... بس قول له فيه يشوف ممثل تاني غيري... أنا مش هاعمل الدور دا مرتين... كفاية عليا أعمله مرة واحدة في الحقيقة... ولما أرجع هابقى أرجع له فلوسه... ولو مارجعتش... أبقى رجعهم له أنت.

فيما كان يخضع رشدي لمبضع الجراح {أندرو} كانت قلوب محبيه وعشاق فنه، من المصريين والعرب، تؤازره بالحب، ويرفعون أكفهم تضرعاً إلى الله بالدعاء، ليعود إليهم نجمهم المحبوب سليماً معافى، وقبلهم جميعاً الفنانة نادية لطفي، التي كان جسدها في القاهرة، بينما كان قلبها وعقلها في لندن، فيما راحت سامية جمال تتابع من خلال فكري، عبر نادية لطفي وسمير صبري، خطوات العلاج والجراحة لحظة بلحظة، بل وراحت تتضرع إلى الله في بيوته التي يسكنها أولياؤه الصالحون، وتطعم المساكين، وتتصدق من أجله، وتطلب منهم الدعاء لرشدي أباظة... حتى استجاب الله لهم.

لم يصدق رشدي أنه خرج من غرفة العمليات، وعاد إلى الحياة، شعر أنه ولد من جديد، فقد زال الكابوس، وراح الأطباء يهنئونه بنجاح الجراحة الدقيقة النادرة، بعدما أدركوا حجم نجومية مريضهم، من حجم المكالمات الهاتفية التي تنهال عليه، والورود التي تملأ ممرات المستشفى.

كان أول شيء فعله بعد السجود شكراً لله، وطمأنة زوجته نبيلة أباظة، ووالدته وشقيقاته البنات، أن اتصل بالماكيير محمد عشوب:

* الحمد لله يا عشب... الحمد لله... كان كابوس يا محمد وربنا أنقذني منه.

= مصر والوطن العربي كله كان بيدعيلك يا نجم.

* وحشوني كلهم... وحشتني الكاميرا والجمهور... شوف بقى أنا عايز أعوض الفترة اللي فاتت ونفسي مفتوحة على الشغل.

= ربنا يفتح نفسك دايماً... وترجع لنا بألف سلامة.

* أنا قدامي هنا حوالي أسبوعين... مش هايلحق شعري يطلع فيهم.. أنت عارف أني علشان أعمل العملية حلقت راسي {ظلبته}.

= يا سيدي الحمد لله اللي جت على كده.

* الحمد لله... بس على بال ما أرجع... عايزك تكون جهزتلي {باروكة} شبه شعري بالظبط.. وتزود فيها شوية شعر أبيض... لأن أشرف فهمي كان كلمني قبل السفر على فيلم اسمه {الأقوياء}... إن شاء الله هابدأ فيه أول ما أرجع.

= اعتبره حصل يا نجم... أنا والباروكة ومصر كلها هانكون في انتظارك.

احتفت الصحافة المصرية بعودة النجم الأباظي إلى أرض الوطن، وراح الجميع يؤكدون على استرداد {مفتول العضلات} صحته، وأنه تعافى تماماً بعد نجاح العملية، وتصديقاً لهذا الكلام سيعود إلى السينما بفيلم جديد قريباً.

بعد أقل من ثلاثة أشهر كان رشدي يقف في البلاتوه أمام الكاميرا ليبدأ بالفعل تصوير دوره في فيلم {الأقوياء} مع المخرج أشرف فهمي، وأمام نجلاء فتحي، محمود ياسين، عزت العلايلي، مديحة يسري، توفيق الدقن، أحمد غانم، نعيمة الصغير، والراقصة هياتم، فاحتفل الجميع بعودة نجم مصر الأول رشدي أباظة.

لم يمر أسبوع على تصوير رشدي مشاهده بالفيلم، حتى عاودته الآلام مجدداً، وبدأت تظهر مضاعفات الجراحة، فمن المؤكد أنها نجحت، لكن المضاعفات بدأت.

سقط في بلاتوه التصوير، فنقله شقيقه فكري بمساعدة فريق العمل إلى المستشفى، وبعد الإسعافات اللازمة، وبمجرد أن استرد وعيه، طلب من فكري أن ينصرف على أن يعود إليه في الصباح لأمر مهم.

لم ينم رشدي ليلته، ظل طيلة الليل يفكر في حياته، التي مرت كشريط سينمائي أمام عينيه، ليشعر بأن الرحلة قد انتهت، فرغم نجاح الجراحة إلا أنه لم يعد يقوى على الوقوف أو المشي، أو حتى الجلوس، دائم الإحساس بالإرهاق، فضلا عن معاودة «الصداع» مرة أخرى، فقرر أن يعيد ترتيب ما تبقى من حياته، وأن ينهيها حراً، كما بدأها حراً.

في الصباح وجد الأطباء أن المستشفى تحول إلى معرض للزهور التي امتلأت بها الممرات، ثم بدأت أعداد كبيرة من الفنانين تتوافد على زيارة رشدي، في مقدمهم زملاؤه في فيلم «الأقوياء» عزت العلايلي، محمود ياسين، صديق الرحلة توفيق الدقن، المخرج أشرف فهمي، نجلاء فتحي، إضافة إلى نادية لطفي، أحمد رمزي، صلاح نظمي، سمير صبري، محمد عشوب، وعم «تركي» الشهير بـ{دنجل» عامل الإكسسوار، فضلاً عن ابنته قسمت وزوجها الفنان أحمد دياب، زوجته نبيلة أباظة، شقيقه فكري، وما إن اطمأنوا عليه وانصرفوا، حتى طلب من نبيلة أن تنتظر بالخارج ليتحدث إلى فكري في أمر مهم:

= «مأذون» ليه... المرة دي العطا رسي على مين يا ترى... ممرضة ولا دكتورة؟

* هاهاها... لا دي ولا دي... أنا هاطلق نبيلة.

= ليه... أنت ماتعرفش أنها من ساعة ماعرفت إمبارح وهي مابطلتش عياط... وكانت مصره تيجي المستشفى في نص الليل... وبعدين دا مافتش على جوازكم ست سبع شهور... وماعملتش حاجة علشان تطلقها.

* ماهو علشان كدا... مش عايزها تاخد بواقي رشدي... وكمان مش عايز أسيب معاها ذكرى كويسة تتألم بيها... عايزها تفتكرني بس بالطلاق... علشان كدا إنت هاتمشي دلوقت معاها... وتفهمها أني اتسرعت وندمت... وأني هارجع تاني لسامية جمال.

= طب ليه دا؟

* لأني عشت طول عمري حرّاً... وعايز أموت حرّاً.

خرج رشدي من المستشفى... وطلق آخر زوجاته نبيلة أباظة بعد ما يقرب من ستة أشهر زواج، ليستأنف تصوير دوره في فيلم «الأقوياء»، لكن لم يمر أسبوع، صور خلاله رشدي أقل من ربع مشاهده بالفيلم، سقط مرة أخرى، ونقل مجددا إلى مستشفى العجوزة، غير أن الإسعافات لم تفلح هذه المرة في إفاقته، فقد اكتشف الأطباء أن «الورم السرطاني» عاد للنمو من جديد، بل وامتدت جذوره وتشعبت، وهو ما عرفه رشدي هذه المرة، بشكل مباشر من الأطباء، غير أنه لم يقرر السفر، بل وافق على أن يقوم الأطباء المصريون بإجراء الجراحة له، والتي حدد الأطباء موعدها بعد عشرة أيام يتم خلالها تهيئته لها عبر علاجات كيماوية.

لم تنقطع الزيارات يوماً عن رشدي، كما لم تخلُ حجرته ساعة من المحبين، ورغم ذلك كان ينتظر واحدة فقط أن تأتي إليه لتزوره ويراها، فهو يعيش على أمل أن ينجح المصريون فيما فشل البريطانيون فيه، لكنه أمل ضعيف، وقد لا يراها أو تراه مرة أخرى إلى الأبد، فتمنى في داخله أن تأتي سامية جمال لتزوره.

لم تكن سامية بعيدة عن هذه الأمنية، بل تعيش بها ليل نهار، قلبها يتمنى أن تحدث، لكن عقلها يمنعها، كما لم يقوَ أي من المقربين أن يطلب منها ذلك، لكنهم رأوا أن صديقتها المقربة هند رستم، يمكنها أن تقوم بذلك، خصوصاً  بعدما بدأت حالته تزداد سوءاً، ويدخل في نوبات من الغيبوبة المتقطعة، فكان لا بد من أن تذهب إليها هند:

= يعني ما بيفوقش خالص.

- ممكن يفوق شوية ويتكلم وساعات يضحك ويهرج... بس يا حبيب قلبي مش هو رشدي اللي تعرفيه وأعرفه... ممكن يبقى فيه شبه منه... بس مش هو.

= طبعا مراته الأباظية قاعدة جانبه ليل ونهار.

- أنا برضه قلت كدا.

= قلتي إيه؟

- إن دا السبب اللي مانعك.

= مش هو اللي عمل كدا؟

- مش قصدي... يظهر إنك ماعرفتيش أنه طلق نبيلة.

= إمتى... وفي الظروف دي؟

- أنا اللي هاقولك على دماغ رشدي؟

= أيوا... دماغه دي هي سر عذابه في حياته.

- لازم تروحي تزوريه يا سامية... كل ما يدخل عليه حد أوضته يبص... وبعدين يغمض عينه... كأنه منتظرك أنت.

= أنا بتمنى... بس مش قادرة.

- أيه اللي مانعك؟

= رشدي كان طول عمره قوي... وما حبش أشوفه في الحالة اللي بسمع عنها منكم... مش عايزاه يشوف الدموع في عنيا... ولا يحس أني بشفق عليه... ولا قلبي بيتقطع علشانه.

لم تنجح زيارة هند رستم في ثني سامية عن موقفها، رغم دموعها التي لم تتوقف ليل نهار، وهي تسمع أخباره لحظة بلحظة، حتى فوجئت بصديقتهما المشتركة نادية لطفي تتصل بها هاتفيا:

- سامية... رشدي تعبان أوي... حالته سيئة جداً.

= إزاي طمنيني أرجوك أنا حاسة إني بنهار.

- الدكاترة بيقولوا إنه مفيش داعي للعملية... لأن حالته ما تسمحش.

= مش ممكن... مش ممكن.

- رشدي طلب يشوفك وسأل عليك أكتر من مرة... حاولي تحققي له آخر أمنية في حياته.

= أنت بتقولي إيه... مش ممكن... مش ممكن... يا حبيبي يا رشدي... أنا أفديه بروحي... أنا طول الوقت حاسة أنه هايقوم تاني ويرجع رشدي أباظة اللي أعرفه.

- ما تتأخريش يا سامية.

راحت سامية تتزين كأنها عروس تستعد لزفافها، فهي ستلقى حبيبها بعد دقائق، فلا يفرق العجوزة عن الزمالك، سوى فرع صغير للنيل، لا يستغرق عبوره سوى دقائق لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.

أصرت نادية لطفي أن تدخل إليه غرفة «الرعاية المركزة» رغم منع الأطباء ذلك، لكن أمام إلحاحها وافقوا، وقفت عند رأسه... مسحت جبينه، لكنه لم يفتح عينيه، فقد دخل في غيبوبة أكد الأطباء أنه لن يفيق منها، وأنها «مسألة وقت» والأعمار بيد الله، لكن نادية لم تيأس، راحت تخاطبه عله يسمعها:

- رشدي أنا نادية لطفي... الولد الشقي زي ما بتسميني... فاكر... فاكر يا رشدي... لما كنت بتجرينا قدامك في الأستوديو وأنت ماسك المسدس... ولما كنا نقعد ناكل سوا وتعزمنا على العدس الأباظي... تتصور أنا نفسي فيه... رشدي رشدي... أنا واثقة إنك قوي... وإنك هاتهزم المرض وتقوم إن شاء الله... إن شاء الله.

هنا حدثت المعجزة التي لم يتوقعها الأطباء... فتح رشدي عينيه ونطق بكلمة واحدة ثلاث مرات:

* يا رب... يا رب... يارب.

كانت هذه آخر كلمة نطق بها رشدي، قبل أن تصفّر الأجهزة معلنة توقف القلب الذي لم يتوقف طيلة ثلاثة وخمسين عاماً عن النبض، توقف ليعلن رحيل الفتى الأباظي... رحيل النجم رشدي أباظة، ظهر يوم (الأحد) السابع والعشرين من يوليو 1980.

قبل أن تصل سامية إلى باب شقتها للخروج، رنّ  جرس الهاتف، وقفت مترددة تخشى أن ترد... يتوقف الجرس، ثم يعاود... تقترب منه سامية ببطء، ترفع سماعة الهاتف، تضعها على أذنها من دون أن ترد، ليأتي صوت سمير صبري مشروخاً مخنوقاً:

- مدام سامية... رشدي تعيشي أنت.

لم تقو سامية حتى على الرد بكلمة، بل سقطت منهارة مغشياً عليها... فقد مات رشدي أباظة... مات الحبيب والصديق والأخ والفنان... مات بعد تسعة عشر يوما قضاها في المستشفى، يصارع فيها الفتى مفتول العضلات المرض، غير أن عضلاته لم تتحمل الألم، ولم تقوَ على الصمود أمام هذا الوحش المفترس، ليرحل النجم صاحب رصيد يقترب من 155 فيلماً سينمائياً، وشهدت سيرته تحولات كثيرة في أدائه كممثل بدءاً من «امرأة على الطريق» و{الرجل الثاني»، مروراً بـ «الزوجة 13»، «آه من حواء»، «صغيرة على الحب»، ثم «شيء في صدري»، «أريد حلا»، «غروب وشروق»، رحل من دونما أن يشعر بالسعادة الحقيقية يوما، غير أنه عاش من أجل إسعاد كل من حوله، بالحب والضحك والعطاء، ليترك لهم أعماله «نجوما» تزين سماء السينما العربية.

رحل رشدي بعدما أوصى بمكافأة كبيرة لكل من ساهم في تمريضه بمستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة، فضلا عن تبرعه بمبلغ مالي كبير للمستشفى، بعدما رفض العلاج على نفقة الدولة.

في المساء تحدثت سامية جمال هاتفياً مع الماكيير محمد عشوب وطلبت منه زيارة قبر رشدي.

في الموعد مرّ عليها محمد عشوب بسيارته، واتجه بها إلى حيث المقبرة وتركها ووقف بعيداً، فاقتربت وجلست في مواجهتها:

= إنت اللي عملت كدا... إنت اللي اخترت... كان نفسي أكون آخر صدر تحط رأسك عليه... كان نفسي أسمع آخر نفس يخرج من صدرك... كان نفسي أسمع صوت آخر كلمة تنطق بيها شفايفك... رشدي... عشت بحبك وهأفضل أحبك لحد ما أجيلك... مع السلامة يا رشدي.

النهاية

back to top