جميلات ... في ملفات القضايا (30): قصة حب من الزمن الجميل

نشر في 28-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-07-2014 | 00:02
No Image Caption
كثيرة هي قصص الحب بين المراهقين التي رصدتها كتب الأدب وخلدتها السينما، تحكي القصة عن حب وعشق بين شاب وفتاة تتكلل بالزواج، تنتهي القصة وتترك البطلين يشقان طريقهما في الحياة لا نعلم عنهما بعدها شيئاً. لكن قصة سعاد وسمير من نوع آخر، تبدأ من حيث تنتهي قصص الغرام التقليدية، حب من نوع آخر خلق ليبقى لا تبليه الأيام وتصقله السنوات فتزيده بريقاً لا يعرف الانطفاء، ولم ينجح الموت في التفريق بينهما بل ساعد في نشر قصتهما على أوسع نطاق.
كانت قصة من أغرب القضايا التي عشتُ تفاصيلها بعد سنوات من عملي في بلاط صاحبة الجلالة... وربما كانت أول قضية في مصر يتعاطف الناس فيها مع الجاني ويرفعون له القبعة ولا يبخلون بدموعهم حزناً عليه، ليس الناس فقط وإنما بكى الصحافيون وضباط الشرطة ووكيل النيابة الذي كان يحقق القضية، فقد اكتشفنا جميعاً أننا أمام واحدة من أعظم قصص الحب المصرية. وعلى مسؤوليتي أقول إنها أقوى من هذه القصص التي سجلها التاريخ العربي بما فيها قيس وليلى وأخواتها.

بدأت القضية ببلاغ من أقارب «سعاد» في فيللا صغيرة في حي «الهرم»... قالوا في بلاغهم إن سعاد اختفت منذ أسابيع وكأن الأرض انشقت وابتلعتها، وإن زوجها «سمير» لا يريد أن يخبرهم عن سر اختفائها شيئاً بل إن أقاربها اتهموه رسمياً بأنه وراء هذا الاختفاء وربما وراء قتلها. فملابسات الاختفاء غير واضحة وسكوت الزوج مريب كأنه يخفي شيئاً ما، صمته يوحي بأنه يعرف أموراً لا يريد البوح بها، ما زاد من حجم الإشاعات حول قتله زوجته.

قرر سمير أمام رئيس المباحث أن زوجته كانت لا تغادر الفيللا سوى أسبوعين من كل عام، تذهب فيهما لزيارة شقيقتها في الإسكندرية، وأنها خرجت هذه المرة ولم تعد، ولا يعرف شيئاً أكثر من ذلك... لكن أخت سعاد المقيمة في الإسكندرية أكدت أن أختها لم تزرها هذا العام ولم تتصل بها هاتفياً كعادتها قبل زيارتها... وأنها حينما بادرت بالسؤال عنها فوجئت بادعاء زوج أختها بأنها سافرت إليها.

قال الزوج أيضاً إنه بحث عن زوجته بعد أن علم بعدم وصولها إلى الإسكندرية، فلم يعثر عليها في المستشفيات ولا دفاتر الشرطة التي تقيد الحوادث وأنه كاد أن يفقد عقله مثل أقاربها تماماً للوصول إلى سر اختفائها... تحريات المباحث كانت تحمل أكثر من مفاجأة فالجميع بما فيهم أقارب سعاد وأختها أكدوا أن سعاد وزوجها عاشا قصة حب من أجمل وأروع قصص الزمن الجميل.

هذا الحب الذي لا يقتله الزواج وإنما يزيده شوقاً وإخلاصاً ووفاء حتى توحد الحبيبان والزوجان في شخص واحد... وأنهما كانا مضرب الأمثال لكل الجيران في الهرم، فرغم أن عمر زواج سعاد من سمير تجاوز الثلاثين عاماً، فإنهما كانا لا يفترقان لحظة، يشاهدهما الناس يجلسان في الصباح الباكر في حديقة الفيللا يتناولان الإفطار معاً وكأنهما عاشقان في مقتبل العمر، ثم تدخل سعاد وتعود بكوبين من الشاي ويرتدي سمير نظارتيه ليقرأ لها جرائد الصباح ويعلقان معاً على بعض هذه الأخبار. هكذا اعتاد الجيران مشاهدتهما منذ اللحظات الأولى لميلاد نهار كل يوم حتى العاشرة صباحاً، بعدها يخرج سمير لشراء الخضار واللحم ومتطلبات المنزل التي تكتبها له سعاد في ورقة صغيرة... فإذا عاد جلس هو ليكمل قراءة الصحف بينما تنشغل سعاد إلى جواره بتجهيز وجبة الطعام ثم تدخل إلى مطبخها، ويتجه سمير إلى حجرته وقت القيلولة.

مفاجأة التحريات

وتمضي التحريات التي تحمل شهادة الجيران الذين أكدوا أن الزوجين اللذين لم ينجبا كانا يعاودان الظهور معاً في مكانهما في حديقة الفيللا قبل غروب شمس كل نهار، فيتخذ كل منهما مكانه حول المائدة تحت الشجرة العتيقة ولكن هذه المرة يعلِّق سمير راديو صغيراً على أحد فروع الشجرة ويضبطه على إذاعة أم كلثوم، وتظهر سعاد حاملة صينية فوقها «كنكة» القهوة والفناجين... يتحاوران وقتاً ويندمجان وقتاً آخر مع صوت أم كلثوم، وفي تمام الحادية عشرة مساء يتجهان معاً إلى حجرتهما بعد أن يغلق سمير أبواب الفيللا ويطفئ الأنور، فلا يبقى سوى نور أزرق ينبعث من حجرة النوم حيث يشاهدان برامج التلفزيون إلى الثالثة صباحاً فيسود الظلام.

ثلاثون عاماً على هذه الحال، نظام يفوق دقة الساعة السويسرية أيام مجدها... لكن فجأة اختفت سعاد في ظروف غامضة لم يتم الكشف عن تفاصيلها. حفظت النيابة التحقيق لعجزها عن العثور على أدلة تقود إلى مكانها، فلم تكن هناك أي أدلة تدين الزوج الذي كان يبكي بحرقة وساءت صحته وتدهورت بشكل لافت للانتباه. بعد أيام من حفظ التحقيق تطوع جار عجوز مجاور للفيللا وطلب الإدلاء بشهادة يريح بها ضميره... قال إنه في ليلة شديدة البرد والظلام فاجأته أزمة قلبية معتادة فانتفض من سريره باحثاً عن نسمة هواء، وبسرعة اتجه إلى الشرفة لتقع عيناه على منظر غريب.

كان سمير يحفر الأرض أسفل الشجرة العتيقة والأمطار تهطل بشدة والظلام دامس وليس هناك ما يدعو سمير إلى مثل هذا العمل في مثل هذا التوقيت. وأضاف الشاهد العجوز قائلاً: إنه ظل واقفاً لبضعة دقائق شاهد خلالها سمير وهو يدخل إلى الفيللا ويعود حاملا شيئاً ملفوفاً في ملاءة السرير، وعند هذه اللحظة يقول الشاهد إنه شعر بالخوف فعاد إلى حجرته، وحينما سمع عن حادث اختفاء سعاد قرر الإدلاء بشهادته، ربما أفادت جهات التحقيق! سأل المحقق الشاهد:

*الجو كان مظلماً للغاية كما تقول، فكيف رأيت هذا المشهد؟

* سمير كانت معه بطارية وأنا لم أكن أرى غير خيالات وشعرت بالخوف فدخلت.

أمرت النيابة بالحفر أسفل الشجرة العتيقة والشهيرة بجلوس سعاد وسمير تحتها أكثر من ثلاثين عاماً... لكن سمير يفقد صوابه ويطير عقله حينما يشاهد المباحث ومقاول وأدوات الهدم داخل فيللته... يتحول إلى وحش هائج رغم نحافة جسده يرفض الحفر ويصرخ في رجال الشرطة مؤكداً أنهم يرتكبون جريمة، حاول بكل ما يملك أن يمنعهم عن استكمال مهمة الحفر، كان يريد أن يمنعهم من المساس بحديقته إلى الأبد.

لم يلتفت إليه أحد، بل تعمقت الشكوك لدى رئيس المباحث فأمر المقاول ببدء الحفر فوراً... ورغم صراخ سمير ومحاولات ضرب رأسه في الحائط استمر الحفر وسمير تحت حراسة الشرطة حتى كانت المفاجأة المذهلة... عثر رجال المباحث على جثة سعاد ملفوفة بملاءة السرير بينما يصرخ سمير بأعلى صوته:

«أتركوها في مكانها... حرام عليكم، أنتم لا تعرفون الحقيقة. لو علمتهم الحقيقة سوف تعتذرون عن هذه الجريمة».

أمسك به رئيس المباحث برفق ثم همس له:

- تعال معانا... وفي القسم سوف تسمع معنا الحقيقة!

داخل قسم الهرم... تكلم سمير من دون أن تتوقف دموعه لحظة... قال:

«...أنا وسعاد لم يكن لنا في الدنيا غير بعضنا. صحيح كانت لها أخوات وكان لي أشقاء... ولكن سعاد كانت تزورهم لأيام عدة كل عام، هذه هي الفترة الوحيدة التي كانت تفترق عني فيها وتبقى معي خلالها على الهاتف حتى تعود فتجدني متلهفاً عليها كطفل استرد أمه الغائبة فترتمي بين أحضاني ونبكي معاً طويلاًًً على تلك الأيام التي زارت فيها أختها... وكنت أنا لا أزور أشقائي وإنما نطمئن على بعضنا البعض هاتفياً فلم يكن في مقدوري أن أترك سعاد وأذهب للزيارات ولم تكن تذهب معي لأن أشقائي كانوا على خلاف معها لأنهم اعتقدوا أنها أخدتني من كل الدنيا».

كان الضابط يستمع ويكاد صبره ينفد، لكن كان عليه أن يتحمل فربما يحصل على اعترافات قاتل توفر عليه جهداً كبيراً، بينما كان سمير يطمئن بين لحظة وأخرى على أنهم سينفذون العهد، ولا يحركون الجثة من مكانها قبل أن يكمل الحقيقة.

فجأة... صاح الضابط في الرجل الذي كاد يهوي جسده إلى الأرض:

- كمل يا عم سمير... كيف قتلتها؟!

- يا بيه لا تتسرع. أرجوك اعتبرني والدك اسمعني. أنا وسعاد بعد تجاوزنا سن الخمسين كانت عندنا مشكلة واحدة تؤرقنا كلما جلسنا معا تحت الشجرة أو حول مائدة الطعام أو حتى في فراش النوم. كان كل منا يتخيل أنه فارق الحياة قبل الآخر فتنهمر الدموع مني ومنها على الصدمة التي سيتلقاها شريك العمر. أنه الفراق الأبدي الذي كان تخيله يفسد علينا حياتنا... وذات يوم عثرنا على الحل السحري أنا وسعاد... اتفقنا على أنه إذا مات أحدنا فلن يغادر الفيللا ولن يترك شريك العمر يتجرع مرارة الفراق وحده. اتفقنا على أن من يبقى على قيد الحياة يدفن الآخر تحت الشجرة العتيقة التي شهدت أجمل سنوات عمري وعمرها وأروعها، وسجلت كل حواراتنا، واستمعنا من الراديو الذي يتدلى من أحد أغصانها أبدع أغنيات أم كلثوم، وكنا نلتف حول مائدة صغيرة نتناول إفطارنا وعشاءنا.

اتفاق مكتوب

وفجر سمير مفاجأة من العيار الثقيل بقوله إن سعاد اقترحت أن تجعل هذا الاتفاق عقداً مكتوباً ووقعنا عليه معاً، ووضعناه في خزانة الملابس، واستمرت حياتنا بلا مشاكل بعدما وجدنا الحل المثالي لمشكلة فراق أحدنا عن الآخر... وبعد خمس سنوات ماتت سعاد، تمنيت لو فارقتني الروح في هذه اللحظة حتى ندفن معاً، لكن لم يكن هناك وقت للتفكير ونفذت الاتفاق حرفياً. ساعدتني ظروف تلك الليلة، أمطار وثلوج وظلام دامس... حفرت تحت الشجرة ودفنتها بدموع عيني. أخفيت أحزاني عن الجميع حتى أبعد الشكوك عني، وكما اتفقنا أشعت أنها خرجت ولم تعد. كنت أجلس بعد موتها إلى جوار قبرها تحت الشجرة العتيقة بعد أن أجهز وجبتين للإفطار والعشاء وكأنها معي تماماً.

أجلس وأحدثها وأتخيل أنها ترد... وفي المساء أدير الراديو أسمع أم كلثوم وأتخيل أنها تسمع معي. وكثيراً ما كان يغلبني النوم تحت الشجرة العتيقة فلا أدخل إلى فراشي واستمتع بالنوم إلى جوار سعاد، أنا فوق نجيل الحديقة وهي تحت الأرض في قبرها الذي حفرته لها. أنا يا سيدي لم أرتكب جريمة... صدقني... وسوف تتأكدون من صدق كلامي... اتركوني حتى أدفن إلى جوارها لم يعد من عمري إلا القليل.

كان عمال الحفر قد أخرجوا جثة سعاد وأمرت النيابة بتشريحها على وجه السرعة لتحديد موقف عم سمير، بينما فتش ضابط المباحث خزانة غرفة النوم حتى عثر على الاتفاق المكتوب وقدمه إلى النيابة، أيام قليلة وعم سمير محتجز في قسم الهرم بأمر النيابة، كان كل من يعبر خارج القسم يسمع صراخ العجوز منذ اللحظة التي علم فيها بتشريح جثة سعاد.

المفاجأة الكبرى... حملها تقرير الطب الشرعي، الزوجة ماتت بالسكتة القلبية ولا توجد أي شبهة جنائية في وفاتها... أصبح عم سمير غير متهم بالقتل وإنما بالدفن من دون تصريح وفي غير الأماكن المخصصة. إلا أن النيابة أمام حالته المتدهورة أمرت بحفظ التحقيق والإفراج عنه. لم يخرج عم سمير من القسم وحده، كان بصحبته وكيل النيابة وضابط المباحث والرسام سلامة ضحا الذي تصادف وجوده في المكان... ذهب الجميع مع العجوز الذي أبكى كل من معه وحوله، أوصلوه إلى الفيللا، لكنه لم يكد يرى مكان الحفر خالياً من سعاد حتى انهار مرة أخرى... بصعوبة بالغة دخل حجرته... أسقطه الإعياء فوق سريره غائباً عن الوعي.

تركه الضباط بعدما اتفقوا على أن يتناوبوا الحضور على مدار اليوم وانضم إليهم وكيل النيابة، كل واحد كان مكلفاً بإحضار الإفطار أو الغذاء أو العشاء مع تمضية بعض الوقت لمؤانسة الرجل... لكن هذا الاتفاق لم يتم، لأنهم عثروا على سمير في اليوم التالي وقد فارق الحياة. سارعتُ إلى مكان الحادث وسلمت على أصدقائي من الضباط ووكلاء النيابة الذين أبلغوني بالواقعة وهم في غاية التأثر. كل منا كان يحبس دموعه حتى تنتهي إجراءات دفن جثة سمير. اتصل الضابط بشقيقة سعاد التي تسلمت جثتها، واستأذنها في أن يدفن عم سمير إلى جوار زوجته في القبر نفسه... واستدعينا حانوتي الحي وشاركنا الجيران في البكاء والرجل يغادر الفيللا هو الآخر محمولاً على أعناق الضباط ووكلاء النيابة والجيران.

مرت سنوات قليلة...

العام الماضي وجدت نفسي أمر بسيارتي أمام مكان الفيللا فلم أجدها، كان مكانها برج سكني ضخم، لا يعرف سكانه أنهم يعيشون فوق أعظم قصص الحب المصرية... أما الشجرة العتيقة فلا أعرف من الذي طاوعه قلبه على اقتلاعها وقد كانت هي الشاهد العملاق على كل ما جرى، ولو كانت هناك جائزة نوبل في الوفاء لاقترحت على مصر ترشيح سعاد وسمير للفوز بها مناصفة، فقصة حبهما الممزوجة بإخلاص شديد لكل معاني الحب والوفاء كانت وبحق جديرة وأن تخلد على صفحات الكتب وفي سجلات الأدب وعلى شاشات السينما... لكن ما أشد الجحود والنسيان في زمن المادة... نظرتُ إلى البناية الشاهقة التي تخترق السماء بحسرة، تساءلت هل تشهد تلك البناية يوماً قصة حب لم تتلوث وظلت رمزاً للنقاء كقصة حب سمير وسعاد.

back to top