«دريب الغاويات»

نشر في 28-07-2014 | 00:01
آخر تحديث 28-07-2014 | 00:01
No Image Caption
تصدر قريباً عن دار {الساقي} رواية {دريب الغاويات} بقلم سعاد العريمي، أكاديمية وكاتبة من دولة الإمارات العربية المتحدة، متخصّصة في التنمية والنوع الاجتماعي وعضوة في جمعيات إماراتية وعالمية عدة. عملت في مجال التدريس في جامعة الإمارات ثم انتقلت إلى السلك الدبلوماسي حيث تشغل منصب المستشار الثقافي في سفارة الإمارات في واشنطن.
هنا قسم من الفصل الثالث من الرواية.
نشأت، أنا صبحا بنت الريح، في نفس الحارة التي نشأت فيها جدتي صبحا بنت خلفان؛ حسناء حارة الشريعة التي ألهبت فؤاد جدي راشد بن مران فخطفها بعد أن رفض أبوها تزويجه إياها. هكذا تقول الأسطورة التي لم ترجّحها ابنتها سلامة بنت راشد وقالت إنها محض افتراء. كانت الجدة صبحا تشبه بنات الجن في حسنها ودلالها وعنفوانها وقوة شخصيتها. صبحا بنت خلفان هي من نحت ذلك الدرب، وهي من درس ممراته وعمّد حوافه. كانت كالفرس الشهباء، سولعية  تدكّ الطرقات ذهاباً وإياباً وهي تنتح مياه الشريعة ويتبعها رهطٌ من البنات الغاويات. اقتفيت أثرها في دريب الغاويات ولكني نحتُّ مساري الخاص وابتدعت نهجي المتفرّد في عشق التصوف وذوّبت قلب محبّي إلى درجة الانصهار. هذا ما قاله محمد وهو هائم في نظرة عيني:

يصهرني حضورك لدرجة أنني أفقد التركيز ولا أستطيع أن أفعل شيئاً إلا التفكير فيك.

أعرف أن لي سطوةً روحية على محبّي، وأنا من أوصلت محمد لدرجة الافتنان والبكاء. قيل إن جدتي أوصلت جدي راشد بن مران إلى حافة الجنون؛ كانت عاشقةً كلفة ملتهبة الحسّ. وتذكّرت كلام جارتي ماري عندما قالت إنّ نساء الربع الخالي يتمتعن بطاقة عشق تصل إلى حدّ الكلف وقتل المحبوب شوقاً. وقتها لم آخذ حكيها كيقينٍ قاطع، ولكن بعد زيارتي الأخيرة للخزنة وجدتني أشبه ما وصفته ماري كثيراً. فأنا عاشقة شغوفة تصل في كلفها إلى مصافّ أم الصبيان؛ تلك العاشقة – القاتلة التي أنهكت الريح في دريب الغاويات.

السولعي من أجمل حيوانات المها العربية، وهذه تسمية محلية.

يقع دريب  الغاويات  في حارة الشريعة ، في واحة العين، في إمارة أبوظبي، في دولة الإمارات العربية المتحدة. في هذا الدرب لا يوجد حاجز أو رصيف، حيث الطبيعة تتجلى بكل أبعادها وتشكّل حدودها الخاصة. للدرب جادة واسعة تضيق عند فتحة الأخدود حيث تقترب الزوايا من بعضها لتفطر مساحة كافية لخطواتنا نحن الثلاث. واليوم تقتصر تلك المسافة على خطواتي أنا وحدي، أنا صبحا بنت الريح الساكنة في أصقاع الغربة، وربما لخطوات روبي المفترضة وهي عائدة من أسرها تستقي من موارد المياه.

أو قد يفسح الطريق مساحةً، هي الأخرى مفترضة، لخطوات حمدة وهي تتمايل بعودها اليانع، أو ربما لخطوات راشد وهو يراقبنا من بعيد. أما خطوات عائشة فقد تحددت منذ زمنٍ بعيد، من قبل أن تونع قامتها. أخبرت محمداً عن دريب الغاويات كموقعٍ واسمٍ وأثرٍ لا يشبه أيَّ نوعٍ من الرسوم؛ ولكنني لم أفسّر له ما بطن في ذلك الدرب من روايات، ولم أعلمه عن شخوصنا نحن الخمسة، ولم أخبره بحكاية سلامة والريح، ولا حتى عن صبحا بنت خلفان؛ عميدة العشق في دريب الغاويات.

كان محمد يصغي إليّ باهتمامٍ بالغ حين قال:

– هل دريب الغاويات واقع أم أنه من تصورك؛ أنت قاصّة مذهلة يا صبحا!

لم أعرف عن نفسي هذه الخاصية، ولكن يبدو أنني ورثت فن القصّ عن أمي سلامة التي تسرد قصصها بطريقة أشبه بأساطير شهرزاد. كانت تمزج الواقع بالخيال، وحتى حكيها عن أمها يخالطه ضربٌ من {الخراريف} . فعندما كانت تقول لي خروفة، كانت تسرد ما حدث في دريب الغاويات من أخبار السيول والأهوال ومن حكايات الإنس والجان. وفي أواخر أيامها، عندما اختلط معها الواقع بالخيال، باتت لا تفرّق بين الحقيقة وبين تلك الخراريف التي تجسّد أم الصبيان ، وأصبحت لا تفرّق بيني، أنا ابنتها، وبين أم الصبيان نفسها التي تخب ليلاً في دريب الغاويات!

***

بالأمس واليوم، وربما غداً، ترتسم خطواتي أنا وحدي على ذلك الدرب العتيد. أنا صبحا العائدة من لندن، تلك البدوية الملتبسة، الواقعة بين البينين. صبحا التي لم تعد تدكّ التراب في دريب الغاويات، والتي أخذت تنظر إليه من زاوية فلسفية فقط. ولم يعد للمياه الدافقة من عيون الشريعة وقع الماء، فصبحا قد أسرتها المياه الوفيرة في بلاد الإنجليز. كنت أرقب الماء ينبعث من زوايا الجدران، من شقوقها ومن بطون الأفلاج ومن خوص  النخيل، ومن حواف الطين. وكنت أرقبه ينبثق من عيون الماء التي تترجرج خلف السواقي ومن شيلة عائشة التي ذابت في قاع الشريعة. أرقبه ينبعث من العلياء حين تسكب علينا {الرحمة} من السماء وتقول أمي سلامة إنّ الله هو من أرسل لنا المطر ونصدح نحن: {دق يا مطر دق بيتنا جديد ومرزابنا  حديد}.

قالت سلامة بنت راشد على لسان أمها صبحا بنت خلفان:

«كنا نتتبع أثر الماء عندما طافت بنا أودية جامحة سالت ما شاء لها أن تسيل وتبددت مياهها حتى رسمت أخدوداً بين الماء والماء، بين الجدار والجدار. كان الأخدود ضيقاً، يتوسط الجدارين، يحاذيهما ويرسم مساره بإصرار».

وأخذت صبحا تطرقه بخفيّ فرسٍ جموح حتى نحتت مساراً ضيقاً، ثم تحوّل المسار إلى مسلك وأسميَ المسلك {دريب الغاويات}. وبذلك تكون صبحا التي درست الدرب وأعطته اسمه ورسمه هي صبحا بنت خلفان، جدة صبحا بنت الريح الآتية من رحم سلامة، أو بالأحرى الدكتورة صبحا العائدة للتو من منفاها في لندن عاصمة الإنجليز. سلكت الدرب وسلكنه معي {ربيعاتي}  الغاويات.

مشينا على ذلك الأخدود بتؤدة ناعمة ورصينة، نحن بنات الجيل الثالث من الغاويات. كانت نفوسنا الصغيرة فائقة – رائقة، وخطواتنا على المسار هينة – لينة؛ فاستسلم لنا الطريق طوعاً حتى ردمته خطواتنا. خبرت تفاصيل الدرب وحددت كل زواياه، أحببت السير على تعرجاته واستوعبت القصص التي حدثت في ظلاله. وتعلمت أن هذا الدرب يعنى بشؤون الماء، يربط بين حواف السواقي وبين الماء والماء، فهو إذاً {درب الماء} الذي ترده النساء والفتيات الغاويات كي يستقين من موارده.

ينقطع درب الماء عند فتحة ضيقة مربّعة تسمى {الشريعة}، وهي التي توزّع الماء، ومن الشريعة استمدّت الحارة اسمها. تنبع تلك المياه الجارية من أماكن بعيدة لم ندركها ونحن صغار، ومن بطن الشريعة تأخذ المياه مجاريها في أربع اتجاهات متساوية غير متوازية. كانت حركة المياه اللولبية تثير فضولي وأنا لا أزال في فصولي الابتدائية. وعندما تعلمت الفيزياء عرفت سر الأفلاج  والشرائع. وعندما كبرت سحرتني المياه المتدفقة من السماء والنابعة من الأرض، ولم أصل إلى سر امتزاجها بعد! وأكبر دفقٍ مائي أثار فضولي وأنهك مخيلتي وتحدّى قدراتي الإدراكية وعمّق فكري وأفرحني وأبكاني وجعلني أبتهل لله إيماناً وخشوعاً، هو ذلك الفيض الرباني المنحدر من شلالات نياغارا.

وعندما كبرت عرفت أن الشريعة والفلج ليسا قصراً على حارتنا، بل هناك أيضاً عدة أحياء تحتضن الأفلاج وتسمّى هي الأخرى شرائع. فحارة الشريعة تقع في كل مكان، وكل شريعة لها اسم، واسم شريعتنا حارة الصاروج. وقد سألت أمي سلامة عن سر الصاروج، لكنها لم تصل إلى تفسير ماهيته. فطرحت ذلك الاستفسار على المطوع خميس الذي عرّف الصاروج بأنه...  عجبت من ذلك الوصف، ذهبت إلى السواقي وتلمّست ذلك الطلاء الذي أبهجني لسنين.

عرفتُ الكثير من هذه العلوم والمعاني من سلامة بنت راشد التي تعلّمت كل المسمّيات من زوجها الريح بن عبد الله، الذي كان مسؤولاً عن حسبة الماء. قالت سلامة: {كان الريح مولعاً بالماء، يدخل في بطن الشريعة ويسلك مجاريها ويسري مع جريان الأفلاج كي ينظفها ويوسّع بواطنها. كان خفيفاً كالريشة فيدفعه الماء حيث يشاء ويسكنه في قاع {غراق فلاح} {. وقالت: {كان الريح يدخل الغراق تحت أنظار أهل الفريج، يغوص ولا يبان له أثر، ومن ثم يلفظه الفلاّح في شريعة صعرا في البريمي: أبوك قد خُلقَ من الماء}!

أنا، إذاً، صبحا بنت الريح، مزيج من الهواء والماء!

وأضافت سلامة: {يحبس الريح مياه الشريعة ليلاً ويوزّعها على السواقي بحسبة لا تخطئ ولا تغفل}.

كانت أمي تسحرني بسردها الأخّاذ، ولكنها لم تستطع أن ترضي فضولي عن الأفلاج، أجادت فقط كيف تفصّل أوصاف الريح. علمت فيما بعد أنّ أبي كان «أمير الماء» يوزّعه على النخيل بالقياس؛ بالأذرع والأشبار، ثم يحبسه عن السواقي في الصباح الباكر ويعيده إلى الشريعة بالمواقيت. ويرتفع منسوب المياه في الأفلاج نهاراً وترتوي القلوب الظمآنة. هذا ما أخبرني به المطوع خميس عندما اتّسعت مداركي في الفهم والتعلّم وبدأت أسأل عن أسرار الشرائع والأفلاج وغراق فلاح الذي كان يخيفنا ونحن صغار.

back to top