مديحة يسري... سمراء النيل: عمر الشريف احتضنني كأمه وأبو عمار اعتبرني «إمبراطورة» (30)

نشر في 28-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-07-2014 | 00:02
لم يبق من زمن الحكاية إلا بضع كلمات...
مرت الأيام وهي تخطف في ذيلها الأسابيع والشهور والسنين وصولاً إلى «الصمت الرهيب»...
الآن هي وفقط، ولكن «هي» لم تعد «هي» كما كانت، فلا زوج يؤنس ما تبقّى من أيامها، ولا أبناء يمدّون جذورها في الأرض، بات جسدها لا يحسن الكتابة، خط القدر آخر تفاصيله، وآثار الزمن تركت بوضوح علاماتها على قسماتها.
فهل «هي» نجحت في أن تحقق كل ما كانت تحلم به «أهم فنانة مرت بشريط السينما سواء من سبقوها أو من جاؤوا بعدها أو حتى من كانوا معها»؟
لو استعادت الزمن مجدداً هل كانت ستتمسك بالحلم الأمنية حتى لو تعارض ذلك مع بيتها وأسرتها والدفء الذي حتما تفتقده مهما ادعت عكس ذلك؟
المؤكد أن مشوار الفنانة القديرة مديحة يسري كان طويلاً، رحلتها كانت متناغمة، تأثرت خلالها بكثيرين، وأثرت كذلك في كثيرين، عاشت مواقف محزنة وأخرى طريفة، تزوجت ممن دق لهم قلبها ثم انفصلت عنهم قبل أن تحتفظ بصداقتهم، جروح وآلام، حزن وفرح، كثير من الرضا وقليل من السعادة، جسد ساكن وورقة نتيجة معلقة تنتظر.

في منزلها الواسع، خصصت مديحة حجرة كاملة تضم ملابسها القديمة التي مازالت تحتفظ بها، باتت الملابس حاضرة بذكرياتها فيما رحل البشر الذين كانوا شهوداً على هذه الذكريات.

تقول مديحة: «ملابسي التي ارتديتها في تصوير أعمالي لم أستطع نفسياً الخلاص منها، ربما لارتباطي بهذه الأعمال تحديداً وما حققته خلالها من نجاح، وربما لأن بعضها صممته بنفسي وأعتبره جزءا من تاريخي وإبداعي، المؤكد أنني لم أتمكن من الاستغناء عنها، وحتى بعدما تراكمت وزاد عددها، كنت أبحث عن حلول أخرى للاحتفاظ بها غير الخلاص منها، وفي كل منزل أنتقل إليه كنت  أخصص لها مكاناً يضمها ويحافظ عليها وكأنها جزء مني، فلا يمكنني تخيل فكرة الخلاص منها»، تمسك مديحة بأحدها قائلة: «ده الفستان اللي ظهرت فيه في «إني راحلة» في مشهد حريق الكوخ».

تتابع: «في الحقيقة احتفظت بملابس كثيرة في هذا الفيلم، نظراً إلى مكانته في مشواري الفني، كذلك «روب المحاماة» في «الأفوكاتو مديحة».

تضيف: «أذكر أننا بدأنا يومها تصوير المشهد في إحدى قاعات المحكمة، وفي زحمة العمل لم يتذكر أي من فريق الإنتاج إحضار «الروب»، الذي بدونه لا يمكن للمحامي أن يدخل القاعة، وحينها صرخ يوسف بك وهبي وكان مخرج الفيلم، فارتبك الجميع وذهبوا لاستئجار «روب» من أحد السعاة في غرفة المحاماة، إلا أن معظمها كان مؤجراً والباقي غير مناسب، حينها أنقذ أحد مساعدي الإخراج الموقف بأن استعار «روباً» من أحد المحامين الذين كانوا قد انتهوا من عملهم، رحب المحامي الذي حضر لمشاهدة تصوير المشهد، وفي نهايته أهداني إياه كتذكار منه».

وبنظرات مليئة بالشجن أخرجت مديحة فستاناً آخر، كان يحتل مكاناً مميزاً في غرفة ملابسها... تتابع: «هذا الفستان ومعه قبعته الخاصة وحقيبته وحذاؤه اشتراهم لي محمد فوزي أثناء شهر العسل، لم أرتده في أي من أفلامي، احتفظت به كشاهد أكيد على تلك الأيام.

ذكريات من زمن فات

شهادات تكريم وجوائز تزيّن أماكن متفرقة ومميزة بمنزلها، كذلك الصور التي تجمعها بزملاء رحلوا، لكنها مازالت تقبض من الزمن على لحظات سعيدة عاشتها معهم وسجلتها تلك الصور.

تقول مديحة: «في «الزمن الجميل» اعتدنا «مجموعة الأصدقاء» أن نلتقي مرة كل أسبوع في منزل أحدنا، ومع نهاية السهرة نتفق على لقاء آخر في الأسبوع التالي بمنزل آخر وهكذا، كنا نجتمع أكثر من 20 فناناً وفنانة من بينهم: فريد شوقي، محمد فوزي، شادية، عبد الحليم حافظ، حلمي رفلة، يوسف وهبي، حسين فوزي وغيرهم، نناقش أعمالنا الجديدة، ونتحدث عن السيناريوهات التي نرغب في تقديمها».

تتابع: «وفي مرات كثيرة كان كل منا يقول رأيه للآخر بصراحة بلا تحيز أو مجاملة، وفي تلك الجلسات كثيراً ما تولدت أفكار لأفلام وأعمال خالدة (تتنهد قبل أن تتابع)، كانت أيام جميلة، وكانت المشاعر فيها أكثر نبلا وصفاء ومحبة، لكن للأسف لم يتبق منها إلا بضع صور أطالعها بين الحين والآخر لأستعيد ذكرياتي عنها.

تتابع: «أما الآن فلا أتصور أن هذه «العادة» مازالت سارية، فلقد شغلت الدنيا الجميع، ولم يعد الوقت يسمح حتى بلقاء الأهل وليس الأصدقاء فحسب، والذين للأسف لم يبق منهم إلا القليل».

قارئ الفنجان

وسط كل هذا الكم من الصور سواء المعلقة على الحائط أو الموضوعة على أرفف، استوقفتنا صورة لها بصحبة شاب وهو يقرأ لها الفنجان...

{هل تؤمنين بقراءة الفنجان والطالع و..؟

تضحك: {لهذه الصورة قصة طريفة، فأثناء تصويرنا لفيلم {أرض الأحلام}، استقلينا القطار إلى أسوان لتصوير بعض المشاهد، وكان من بين العاملين في الفيلم شاب أعرب عن قدرته على قراءة الفنجان ومعرفة الغيب، ونظراً  إلى طول الطريق وافقنا على قتل الملل بقراءة الفنجان، غير أننا، بعدما وصلنا إلى إحدى قرى الصعيد فوجئنا بالشاب نفسه يقرأ الفنجان لأحد أبناء القرية، وبسلاسة سأله عن اسم والده، وبسلاسة أكثر سأله عن اسم والدته، وفي لحظة ثار الشاب الصعيدي وتبدلت ملامحه ولهجته الودودة الكريمة وانقلبت إلى أخرى يغلب عليها التهديد والوعيد، ثم انسحب غاضباً وتركنا نضرب أخماساً في أسداس لا نفهم ماذا حدث أو سبب المشكلة، وما هي إلا لحظات حتى فوجئنا  بالشاب الغاضب نفسه يعود برفقته العشرات من رجال القرية الأشداء حاملين العصي، ما أصابنا بحالة من الرعب والفزع، وعبثاً حاولت تهدئة الجميع، وظللت أتحدث مع كبيرهم، لكنه تجاهل الرد عليَّ، وبعد فترة، وبكلمات مقتضبة للغاية قال لي: {فين راجلك إحنا ما بنتكلم مع الحريم}، من ثم عرفنا أن سبب تلك الثورة التي كادت تتحول إلى مأساة عدم معرفتنا بعادات وتقاليد أهل أسوان، فرغم كرم أخلاقهم وطيبتهم إلا أن البوح باسم الأم أو الزوجة والنساء، عموماً، أمر غير مستحب، ولا يتوافق وعاداتهم وتقاليدهم، وبصعوبة تفهموا ما حدث وقبلوا اعتذارنا بل دعونا إلى تناول الطعام معهم، وتأكيداً للعفو والسماح ذبحوا الذبائح، حينها همس لي قارئ الفنجان أنه كاد يلقى مصير {الذبيحة} التي ذبحت إكراماً لنا، وكل ذلك بسبب جهله العادات والتقاليد في الصعيد}.

تنهدت بحسرة قبل أن تتابع حديثها: {للأسف العادات والتقاليد الآن اختلفت، كذلك القيم والأخلاق تغيرت، باختصار ما كان لم يعد كائناً الآن، لذا أجد صعوبة في التعامل مع البعض، لأنني سأظل محكومة بقيم وعادات وأخلاق زمن الأبيض والأسود في معاملاتي وتصرفاتي و}...

ألبوم صور

على الجانب الآخر كانت صورة تجمعها بنادية لطفي، تعجبت لمعرفتي أنهما لم تلتقيا فنياً رغم كثرة الأفلام التي قدمتها كل واحدة منهما، خصوصاً  أن مديحة شاركت أبرز نجوم التمثيل في الأجيال المختلفة في مقدمهم سعاد حسني صديقة لطفي الحميمة.

تقول مديحة: {هذه الصورة كانت أثناء حضورنا مهرجان برلين، وشاركنا كمال الشناوي وشكري سرحان في الرحلة آنذاك، وأثناء جولتنا في شوارع برلين وجدنا أنفسنا بعيدين عن مقر إقامتنا، ونحتاج إلى دليل يرشدنا لنعود إليه بعد رحلة تسوق قمنا بها، وبالفعل لجأنا إلى ضابط مرور وتصورنا أنه بإمكانه مساعدتنا، إلا أن عدم إجادتنا للغة الألمانية حال دون ذلك، إذ لم نكن نعرف من مفرداتها إلا {جوتن ناخت}، وعبثاً حاولنا بلغة الإشارة أن نفهمه ما نريد فلم نفلح، ومن جانبه حاول أن يصطحبنا إلى أقرب نقطة شرطة لمساعدتنا، وبالفعل ذهبنا معه، لكنني أصريت أن أصل بمفردي، فدخلت دائرة {توهان} لم تنته، ولساعات طويلة كانوا خلالها يبحثون عني حتى عثروا عليَّ بصعوبة، الطريف أنني سقطت على الأرض ليس من شدة الإعياء والتعب، ولكن من الضحك لأن {شكلهم} وهم يبحثون عني كان أكثر رثاء مني}.

تتابع: {بحكم السن والمرض لا أستطيع التواصل مع الجميع الآن، كما كنت أفعل من قبل، إلا أن علاقة صداقة قوية ما زالت تربطني مع فنانين كثيرين، من بينهم نبيلة عبيد التي لم تفارقني يوماً خلال وجودي في المستشفى، بالإضافة إلى نجلاء فتحي، لبلبة، يسرا، عزت العلايلي، فهؤلاء الأصدقاء أعتز بهم.

عمر الشريف وأبو عمار

صورة أخرى لها جمعتها مع عمر الشريف تتذكر حكايتها قائلة: {التقطت لي هذه الصورة في مقر السفارة المصرية في باريس في إحدى المناسبات الفنية، ويومها فوجئ عمر بوجودي ولم يكن بالطبع يعلم أنني في باريس، لذا عندما رآني احتضنني وقبلني كأنه طفل صغير وجد أمه، فتحمس المصور لالتقاط هذه الصورة، مازلت أحتفظ بها، وأسعد دوماً كلما شاهدتها}.

تتابع: {كذلك أسعد بصورتي التي جمعتني مع الرئيس الفلسطيني أبو عمار، وكانت خلال افتتاح تلفزيون فلسطين، وكان حريصاً دوماً على دعوة الفنانين المصريين لمشاركته المناسبات المختلفة، وأثناء تناول العشاء، جلست في منتصف الطاولة، وفوجئت به يقول إن إمبراطورة السينما مكانها بجواري على رأس المائدة، فضحك الحضور، وأهداني المصحف الشريف وعلبة من الفضة}.

أيام زمان

صورة أخرى تجمعها بفنان عربي التقطتها مديحة قبل أن تقول: {هذه الصورة التقطت لي مع الفنان العراقي عادل عبد الوهاب،  عام 1946، أثناء تصوير فيلم {ابن الشرق}، إخراج إبراهيم حلمي. وكان لي أيضاً نصيب من المشاركة بفيلم عراقي آخر بعنوان {بغداد} (1947)، أخرجه أحمد بدرخان، وأدى  بطولته الفنان العراقي المعروف حينها حقي الشبلي}.

تتابع: {للأسف لم تحظ هذه الأفلام بالنجاح الجماهيري الذي حلمت به، صحيح نلت إشادات نقدية ومن زملاء، لكنني كنت أطمح في أن تحقق نجاحاً جماهيرياً}.

برواز آخر يضم قصاصة من إحدى المجلات الفنية مذيلة بتوقيع زينب صدقي، وهي ممثلة مصرية من أصول تركية، بدأت مشوارها الفني في المسرح قبل أن تنتقل إلى السينما، وقد جمعتها بمديحة صداقة كبيرة رغم اختلاف الأجيال بينهما.

كتبت زينب تقول: {من ينظر إلى وجهها للوهلة الأولى يحسبها شخصية حزينة هادئة، لكنها في الحقيقة تميل إلى الفرح والفكاهة، فضلاً عن كونها تملك طاقة كبيرة من الثورة والطموح، هي شخصية عربية أصيلة، و{كوكتيل} جميل لفضائل العرب في كأس جذاب يغري {بالشراب}}.

النظام أسلوب حياة

بين غرفة نومها في الطابق الثاني وحجرة الاستقبال الكبيرة بالدور الأسفل، تتنقل مديحة في نظام يمكنك أن تضبط عليه ساعتك، وبحكم إصابتها القديمة في العمود الفقري، وعوامل الزمن وأمراض الشيخوخة لم تعد تفارق منزلها إلا نادراً، فقط تحرص على ممارسة الطقوس ذاتها كل صباح، الاستيقاظ في وقت مبكر تحديداً في التاسعة صباحاً، تناول طعام الإفطار يتبعه علاجها، الذي تحرص عليه دوماً، ثم احتساء الشاي وربما القهوة إذا كانت حالتها الصحية تسمح بذلك.

تحرص مديحة أيضا على أن تؤدي الصلوات في مواعيدها، وتقرأ القرآن وبعده المتاح من صحف ومجلات لم تعد تهتم بمتابعتها، ثم تشاهد التلفزيون لبعض الوقت قبل أن تخلد إلى نوم عميق.

تقول: {لم أعد أستطيع متابعة الأخبار بالقراءة، كما كنت أفعل سابقاً، اكتفي بمشاهدة برامج التلفزيون لتضمنها أحداث اليوم بأدق التفاصيل، ما بات يغنيني فعلا عن قراءة الصحف، والاحتفاظ بما تبقى لي من طاقة لقراءة القرآن، والحمد لله حرصت على أن أختمه أكثر من مرة}.

تتابع: {مشاهدة الأفلام عشقي الكبير، بالطبع لم أعد قادرة على الذهاب إلى دور العرض، ولا مشاهدتها في المهرجانات السينمائية التي كنت أواظب على حضورها، لذا أشاهد بعضها في التلفزيون، ولكن كثرة الإعلانات تفقدني متعة المشاهدة}.

تلتقط أنفاسها قبل أن تتابع: {كنت أتمنى ألا تتحول السينما إلى أداة تسهم في إفساد الأذواق، وبالأخص الأجيال الجديدة، فبدلا من أن تزيد لديهم قيم الانتماء والولاء، وتجعلهم يحافظون على العادات والتقاليد التي نشأنا عليها، إذا بها تعلمهم مفردات وكلمات وسلوكيات غريبة وشاذة، لذا بات {يصعب عليَّ شريط الخام} الذي تم تصوير مثل هذه الأعمال عليه}.

تتابع: {حينما خضت تجربة الإنتاج لم أفكر في جمع المال، لم يشغلني الربح المادي، بل كان همي وقتها الدفع بصناعة السينما إلى أفق أكثر رحابة، وترك مجموعة من الأعمال الجيدة في رصيد السينما قبل رصيدي،  تظل محفورة بذاكرة الجمهور، وتحظى بموقع جيد على خريطة السينما وفي ذاكرتها، والحمد لله تركت أعمالا جيدة أفخر بها».

تحدي المرض

آخر صورة أستوقفتني كانت وهي جالسة على مقعد متحرك، ترفع بيد علم مصر، فيما يدها الأخرى مزينة بالحبر الفسفوري، وذلك بعدما أصرت، رغم حالتها الصحية على أن تقوم بواجبها وتشارك شعبها اختيار رئيسه المقبل.

تقول: «لا بد من أن يكون للفنان دور سياسي، وأن يشارك في المجتمع بإيجابية، فرغم حالتي الصحية التي لا تسمح لي بالخروج من المنزل، إلا أنني تمسكت بالمشاركة في مجمل الاستحقاقات السياسية، مثل الاستفتاء على الدستور  ومن قبلها الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة، نزلت إلى الشارع على كرسي متحرك، وأدليت بصوتي في الانتخابات، وكنت سعيدة وأنا أرى شباباً ورجالا من أجيال مختلفة يقفون في  طوابير للتصوير}.

تتابع: أتمنى أن تكون هذه المرحلة بداية جديدة لتاريخ مصر، وأن تتوقف مشاهد القتل وسفك الدماء التي نراها على الشاشة، وأن نبدأ العمل لتعود عجلة الإنتاج، وتصبح مصر فعلا «أم الدنيا وقد الدنيا» كما كنا دوما.

الأخيرة

back to top