سجينة الضمير

نشر في 26-07-2014 | 00:01
آخر تحديث 26-07-2014 | 00:01
No Image Caption
1

لقد مرت حوالى ست عشرة سنة منذ اختفاء تلك الأشباح ولكن، حدث تطوّر جديد جعل ماري تراها مجدداً! في كل ركن في نيويورك، وفي كل شارع وفي كل ناحية. وما جعل هذا الوضع أكثر سوءاً أنها كانت واثقة تماماً عند قدومها من لبنان إلى الولايات المتحدة برفقة والدتها وجدتها بأنها لن تراها مجدداً بهذا الشكل المباشر والخطير... كيف ستراها بعد أن دفنتها بجانب والدها في صور، جنوب لبنان؟ لقد أسرّت لنفسها عندئذ بأن الأشباح لا تستطيع أن تسافر لمسافات بعيدة... ولكنها في هذا اليوم البارد في السابع والعشرين من يناير عام 1990، عرفت بأنها كانت مخطئة لأن الأشباح كانت حاضرة ما جعلها تكرّر لنفسها... لقد انتهيت! لقد انتهيت!

بدأت قصة ماري وأشباح ضميرها قبل ست عشرة سنة في يوم عيد ميلادها الثامن عشر. كانت تنحدر من عائلة مسيحية مارونية في لبنان وهي الابنة الوحيدة لوالديها، والدها كان طباخاً يدعى أنطوان إلياس وأمها ربة منزل اسمها سارة.

كانت تعيش حياة سعيدة حتى وقعت في غرام إسحاق كشوغي، شاب مسلم، بعمر العشرين سنة، كانت قد قابلته في حفلة عيد ميلادها. وتطورت بعدها علاقتهما سريعاً، وانتهى الأمر بهروبهما سوياً، ما أدى إلى تعرّض والدها لأزمة قلبية توفّي على أثرها، حصل ذلك قبل عدة أيام فقط من خطته ليهاجر معها ووالدتها إلى الولايات المتحدة.

شهدت وفاته تحوّل ماري إلى سجينة لضميرها... حاولت عبثاً أن تقنع نفسها بأنها ليست من قتلته، ولكنها كانت تدرك في قرارة نفسها بأنها هي من مهّدت الطريق الذي تسبب في تلك المصيبة.

أثناء جلوسها اليوم على مقعد في المنتزه المركزي في مانهاتن، نيويورك كان بإمكانها أن ترى نفسها في الماضي مع أشباحها، هكذا بدأت تشق الطريق الذي قادها إلى هذا المصير الحزين... يوم عيد ميلادها الثامن عشر، كان التاريخ السابع من شهر مايو من العام ألف وتسعمائة وأربع وسبعين، قبل أحد عشر شهراً من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان.

في ذلك اليوم، كانت التحضيرات مكثّفة لإقامة حفلة صغيرة لها في شقة والدها الذي عاد من عمله مبكراً بأفكار جديدة، نظر إلى ماري بينما أعلن لزوجته قائلاً:

«سوف نقيم حفل ماري في مطعم «فلمنجو» بدلاً من هنا، الجو هناك أفضل وسيحس ضيوفنا بالمزيد من الراحة بدون شك». قامت والدتها فوراً عن كرسيها لتعترض وكان اعتراضها بناء على عدم قدرتهم المادية على إقامة حفلة في مثل ذلك المكان الغالي، ولكنه طمأنها قائلاً:

«إن رئيس الطباخين هناك يعدّ صديقاً حميماً منذ الطفولة ولذا لن يكلفني شيئاً. أليس ذلك أفضل من إقامتها في هذه الشقة الصغيرة؟». لم ينتظر ردها، بل مضى قدماً إلى غرفته... لم يكن في ذهنه عندئذ سوى سؤال واحد، أي البذلات ينبغي أن أرتدي؟

بعد أن اختفى تماماً عن نظرها، بقيت زوجته منزعجة... لماذا لم يتخذ ذلك القرار من قبل؟ ألم يرها منذ فترة وهي تبذل قصارى جهدها من أجل الحفلة؟ في تلك اللحظة، كان زوجها يبدو في نظرها كجنرال في جيش هتلر المستبد. كرّرت لنفسها بأن زوجها قد يدّعي للعالم بأنه طباخ، ولكنه مجرد عسكري بلا ضمير... حاولت أن تبدو هادئة على أمل عدم إفساد مزاج ابنتها... ولكن نظرة واحدة إلى وجه ماري كانت كافية لتخرج الكلمات من فمها... وطارت كلماتها كأنها كانت صواريخ صغيرة.

«هل رأيت ما فعله والدك؟ كيف سأخبر كل الضيوف الآن بأن الحفلة ستقام في مكان آخر، قد يكونون على الطريق الآن؟ وماذا سنفعل بكل هذه الكراسي التي تم استئجارها بمبالغ باهظة؟». بعد أن قالت كل ذلك، اقتحمها الإحساس بالذنب القاتل... ماذا تتوقع أن تكون إجابة هذه المراهقة التي لطالما تستمع إلى الناس دون أن تتفوه بأي كلمة؟... ولكنها كانت مندهشة حين قالت ماري بهدوء:

«لا تقلقي ماما، هنالك حلول... قد نكون في حاجة إلى هذه الكراسي في حال حضور أقاربنا من الجنوب غداً، لأنني لا أظن بأن كراسينا ستكون كافية لهذا العدد من الزائرين... وبالنسبة إلى الذين لا نستطيع أن نخبرهم عبر التلفون بأن مكان الحفلة قد تغيّر، يمكننا أن نترك لهم رسالة عند البواب مع عنوان المطعم، فإنه ليس بعيداً عن هنا لحسن حظنا، ونستطيع أن نخبرهم بأن تغيير المكان كان مفاجأة تمّ تخطيطها مؤخراً. ما رأيك في ذلك؟» ابتسمت أمها بطريقة جعلتها تبدو أصغر من سنها ثم حضنت ماري قائلة:

«الكلام معك دائماً له فائدة، أنت بنت عظيمة... أنت بنت لطيفة... فأنت كالجوهرة». حضنتها لفترة ثم قامت فجأة حين تذكرت بأن عليها الاتصال بالضيوف لتخبرهم عن التغييرات، أمسكت بيد ماري وسحبتها إلى العليّة، حيث المكان الوحيد الذي يوجد به هاتف في شقتهم.

حتى بعد مرور الكثير من السنوات، لم تغب كلمات والدتها تلك عن ذهن ماري أبداً «أنت بنت عظيمة... أنت بنت لطيفة... أنت كالجوهرة»... وذلك لأن تلك الكلمات تحوّلت مع الوقت لتصبح الحبل الوحيد الذي يربطها بعهد البراءة والتوازن... عهد السلام وراحة البال والذي كان يميّز زمناً لطيفاً وجميلاً.

ذلك اليوم الذي كان يفترض به أن يكون الأجمل في حياة ماري، سيتحول إلى اليوم الذي ستسلك به طريقاً جديداً حيث لن يكون لديها رفيق سوى الوحدة والمرارة... وسيؤدي هذا الطريق إلى جبهة قتال ولمدة طويلة بينها وبين ضميرها، الذي سينتصر بعدها ثم يتحول إلى مجموعة من الأشباح ستجعل من ماري سجينة... سجينة لضميرها.

2

أخيراً وصل أنطوان وعائلته إلى «فلمنجو» بعد أن أهدروا وقتاً كثيراً في الزحمة في ذلك النهار الحار، وكان المطعم مزدحماً أيضاً لدرجة أصبح من السهل أن يكون لدى أي مراقب انطباع بأنه تم اختياره من قبل كل العائلات في بيروت لمناسبات مختلفة في ذلك اليوم.

بينما كانتا تمشيان بجانب أنطوان، وتتبادلان النظرات كأنهما كانتا تتساءلان، هل هذه حفلتنا أم حفلة الجميع؟ فجأة ظهر أمامهم درج قادهم إلى الأسفل حيث اقتنعتا بسبب ما شاهدتاه بأن أنطوان كان على صواب في رغبته إقامة الحفلة في ذلك المطعم.

كان هناك بساط ناعم للغاية على الأرض لدرجة كان من الصعب على كل من يمشي عليه أن يقاوم الرغبة في أن يلقي نفسه عليه متعمداً... وبالإضافة إلى ذلك، كانت الجدران مزينة بشكل جميل ببعض اللافتات مثل:

«مرحباً بك يا ماري في سن الثامنة عشر».

كانت أغنيات عبد الحليم حافظ، مطربها المفضل على مدى سنوات كثيرة تصدح، واكتشفتا بأن أنطوان قام بتخطيط كل شيء بشكل ممتاز، وذاك ما أكسبه رضا وسماح زوجته في آن واحد، استدارت سارة إليه مبتسمة ثم قالت بصوت يلفه المرح والحيوية:

«أنت الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يتحول من جنرال متعجرف إلى ملاك لطيف في لمح البصر..».

اكتفى أنطوان بابتسامة عريضة قبل أن يقبّلها، وأمسك بيدها وبيد ماري في نفس الوقت ثم قال قبل أن يحضنهما:

«بعد قليل سيكون هذا المكان مكتظاً بالناس... ولكنني أريد أن أخبركما شيئاً مهماً قبل ذلك... هو أن وجودهم جميعاً مهما كان عددهم كبيراً لا يساوي في نظري شيئاً مقارنة بوجودكما معي في هذه اللحظة».

وهكذا أنهى كلامه... لطالما تميزت طبيعة هذا الرجل الضخم بقلّة الكلام وكثرة الأفعال عند تعامله مع الناس بشكل عام، ومع أعضاء عائلته بشكل خاص.

كان زواجهما ناجحاً في كل المقاييس، فهو قد دام لعشرين سنة رغم كونهما صاحبي مزاج مختلف... وسر ذلك النجاح يكمن في معرفته ضرورة تقديم التنازلات في الوقت المناسب. لم يكن لديهما طفولة متشابهة... بالرغم من أن زوجته من عائلة مسيحية مارونية مثله، ولكنها ولدت في حالة مادية أفضل منه بكثير، وكان والداها مدرّسين مما جعلهما قادرين على تلبية معظم طلباتها. أما بالنسبة إلى زوجها، فلقد فقد والدته أثناء ولادتها إياه مما أجبره على العيش مع زوجة والده الشريرة، ما دفعه إلى أن يعتمد على نفسه قبل سن المراهقة، فبدأ يعمل كموزع للجرائد قبل أن يستقر كعامل تنظيف في أحد الدكاكين قرب بيتهم، واستمر في هذه الوظيفة حتى قرر والده أن يستسلم لضغوط زوجته ويرسله بعيداً عن صور، إلى مدرسة الفندقية في بيروت... وهكذا أصبح طباخاً محترفاً اليوم.

ظل أنطوان وسارة وماري في حضنهم العائلي حتى أحست ماري بلمسة على ظهرها، سحبت نفسها من والديها واستدارت لترى أمامها داليا، صديقتها المقربة منذ عدة أعوام.

«كيف حالك داليا؟ أتمنى بأنه لم يكن من الصعب عليك إيجاد هذا المطعم».

اقتربت إليها والدة داليا وقدمت لها حقيبة ثم قالت لوالديها:

«نهاركما سعيد يا سيد وسيدة إلياس. هذه هديتنا لابنتكما العزيزة، نتمنى أن تنال إعجابها». نظرت إليها ماري بامتنان ثم قالت:

«شكراً جزيلاً».

ألقت نظرة سريعة إلى محتويات الحقيبة ثم ابتسمت قائلة:

«ماما، لقد أحضرت لي فستاناً جميلاً». ثم حدّقت إلى والدة داليا وقالت:

«أتمنى أن يكون المكان قد نال إعجابك يا سيدتي كما نالت هذه الهدية إعجابي».

ملأت الضحكات المطعم. لم يحصل أحد على فرصة لقول شيء إضافي لأن المكان صار مكتظاً فجأة بالناس، وكأن الضيوف خرجوا من مخبئهم.

أول جماعة ظهرت كنّ صديقات ماري من «مدرسة البنات»، ثم ظهر أصدقاء والدها ووالدتها في نفس الوقت، كأن موعد ظهورهم كان أمراً متفقاً عليه مسبقاً. كان الجو احتفالياً جداً بسبب المرح الذي ران كل ركن، مما أسعد سارة أكثر وجعلها تقبّل يد زوجها باستمرار... كان ذلك سبيلها لتطلب منه مسامحتها على اعتراضها السابق على إقامة الحفلة في هذا المطعم.

back to top