جميلات ... في ملفات القضايا (27): رانيا المدلّلة تبحث عن الغفران

نشر في 25-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 25-07-2014 | 00:02
No Image Caption
لم تعرف رانيا إلا أجواء القصور ولم تنشأ إلا كإحدى بنات الذوات في حي {الزمالك} الراقي في القاهرة، لذلك كانت مدللة لا تعرف عن بلادها إلا أقل القليل، تأمر فتجاب وتصرخ فيطلب الجميع رضاها، وعندما رغبت في أن تكون صحافية من دون مؤهلات وجدت نفسها في إحدى أعرق المؤسسات الصحافية المصرية بعدما نجحت {الواسطة} في إيجاد مكان لها من العدم. لكن تقلبات الزمن أجبرت رانيا على أن تعيد حساباتها وتبحث عن الغفران عند جميع ضحاياها فهل تنجح؟
التقى صديقي الصحافي الموهوب برانيا ثلاث مرات طوال حياته، المرة الأولى كانت زميلته في دار {أخبار اليوم} ثم استقالت وسط دهشة الجميع، والمرة الثانية كانت في أحد أندية مصر الجديدة الشهيرة واستقبلته بترحاب شديد رغم العداء الذي كان بينهما، والمرة الثالثة كانت في مطار القاهرة حينما كان ذاهباً لحضور مؤتمر وزراء الداخلية العرب في تونس... بينما كانت هي مسافرة إلى مكة... ودار بينهما حوار لا تمحوه الأيام من ذاكرته أبداً، بدأته هي بسؤال وجهته له وأصابه بالارتباك حينما قالت: إبليس سوف يخلد في النار... لكن هل يمكن لشيطان الإنس أن يتوب؟

ورد عليها بسؤال: ماذا تقصدين؟

قالت: أرجو أن تفهمني... أنا أتحدث عن نفسي؟!

تذكر صديقي الصحافي كيف بدأت القصة عندما دخلت رانيا الصحافة من أوسع الأبواب... بطاقة توصية من نائب رئيس الوزراء، ورغم أن رئيس مجلس الإدارة، آنذاك، كان يرفض مبدأ {الواسطة}... إلا أنه لم يكن يستطيع أن يرفض طلباً لصاحب البطاقة! خصوصاً أن رانيا كانت تملك مؤهلات النجاح كافة في بلاط صاحبة الجلالة. تجيد ثلاث لغات إجادة مطلقة، جميلة، أنيقة، فضلاً عن أنها المحررة الوحيدة التي تملك سيارة من طراز فريد ويفوق ثمنها أضعاف ثمن السيارة التي يركبها رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير في مؤسسة {أخبار اليوم} العريقة.

أصبحت رانيا بين عشية وضحاها حديث الصباح والمساء في أروقة وصالات ومكاتب الصحيفة. اعتقد الجميع أنها ستهدد عرش جميع الموهوبين، وتسحب البساط من تحت أقدام الحسناوات اللاتي كانت لهن حظوة ومكانة وكلمة مسموعة. لكن سرعان ما بدأت الأسطورة الجديدة تنهار وتتلاشي وتتكشف تفاهتها رغم صدور أسرع قرار تعيين، ربما في تاريخ المؤسسة الصحافية العريقة كله، فقد تم تعيينها بعد أسبوع من تدريبها على يد أحد نواب رئيس التحرير كان يطلب من صديقي إعادة صياغة الموضوعات التي يكلفها بها حتى يثبت لرئيس التحرير أن {البنت موهوبة} وتملك ناصية الكلمة. الكل كان يتصور أن إرضاء نائب رئيس الوزراء  سيجلب لهم السعادة والترقي وينالون من خلاله الرضا السامي.

استمرت رانيا في شارع الصحافة عاماً، ومثلما كانت صاحبة أسرع قرار تعيين، كانت صاحبة أسرع استقالة، قدمتها بإرادتها الكاملة بعدما فشلت في الاندماج داخل المجتمع الصحافي، فهي لم تنس أبداً أنها بنت ذوات، وتعتبر العمل الصحافي الميداني إهانة. كانت ترى أن زملاءها من العامة والسوقة... وتسخر من ملابسهم وتتندر بزحام الحافلات حينما يبرر أحدهم تأخره أو الإرهاق الذي أصابه في رحلة الوصول إلى الجريدة. ورفض زملاؤها أن تعاملهم بكبرياء، وكانوا هم أيضاً يسخرون من حديثها عن بابا وماما و{أونكل} و{طنط}... وحمام السباحة وشلة النادي وشاليه المنتزه وذكرياتها في رحلات الصيف إلى باريس والشتاء في أسوان.

 نعم، كانت تجيد ثلاث لغات، لكنها كانت تتحدث العربية بصعوبة. ثقافتها لا تتجاوز الأفلام الغربية والموسيقى الأوروبية وحفلات الديسكو... لا تفهم المجتمع المصري أو العربي ولا تريد أن تفهم. فشلت في أن تحصل على خبر واحد أو تكتب موضوعاً... ومع هذا طلبت لنفسها مكتباً مستقلاً حتى تبتعد عن رائحة علب الكشري وسندويتشات الفول والطعمية التي يطلبها المحررون في الصالة من باب عدم إضاعة الوقت وتناول الفطور والغداء أثناء العمل. لكن رئيس مجلس الإدارة فقد أعصابه وتشجع وصرخ في وجهها: {مكتب لوحدك، أكيد أنت مجنونة}.

وأشعل هذا الرد حماسة صديقي فوقف في الاجتماع يخاطب رئيس مجلس الإدارة بجرأة حسده عليها زملاؤه وقال له:

•• يا ريس... أتحدى أن تذكر لنا هذه الصحافية اسم وزير أو محافظ أو حتى مدير أمن القاهرة. أتحدى أن تذكر لك مشكلة واحدة من مشاكل المجتمع المصري... أو تكتب جملة من دون خطأ لغوي. أتحدى أن تذكر أمامنا أخوات كان أو إن... أو تخبرنا عن اسم زعيم ثورة 1919، أو اسم أي رئيس عربي حالي أو عاصمة أي دولة في العالم.

ويبدو أن رئيس مجلس الإدارة أراد أن يمرر الواقعة بسلام فضحك مع الضاحكين بينما انخرطت رانيا في البكاء... وبدأت تشن ضد صديقي الحملات بدءاً من ذلك اليوم. لكن لم تمض أشهر حتى استقالت واستراحت... وأراحت، لكن لم تنقطع علاقاتها بصديقي الصحافي الشهير.

اللقاء الثاني

كان اللقاء الثاني في أحد أندية مصر الجديدة الكبري حيث تعشق رانيا تمضية معظم وقتها منذ الصباح الباكر سواء على حمام السباحة أو حول مائدة حسناوات النادي. وأدهش صديقي ترحيبها البالغ به، ربما كي تثبت للآخرين حولها أنها كانت صحافية ذات يوم، والغريب أنها اعترفت له بأنه كان على حق وخدمها أكبر خدمة في عمرها عندما بدأت تقرأ الصحف بعد انتقاده لها وسخريته منها... بل وبدأت تستمع إلى نشرات الأخبار وتتابع الكتب وتتعمق في مشاكل المجتمع العربي كي تطور نفسها.

وسألها عن الزواج والأمومة فهمست له في أذنيه قائلة:

•  أنت لسه رجعي؟! أتجوزت وطلقت... والأمومة لسه بدري لأني عايزة أستمتع بشبابي.

انتهى اللقاء سريعاً... لكن بطلة العالم في إحدى الألعاب الرياضية من فتيات النادي كانت تعرف رانيا جيداً، وإذا بها تفاجئ صديقي على باب النادي وتبلغه بما أخفته رانيا وأنها تزوجت ثلاث مرات من دون أن تنجب، كما أنها مشهورة بين عضوات النادي بلقب {خطافة الأزواج}... وثمة أيضاً من يطلق عليها لقب {متعددة الطلاق} فلم تعد لها صديقات في النادي سوى خمس نساء، هن الجالسات معها حول المائدة وهي التي سعت إلى أن تطلق كل منهن من زوجها بأفكارها الهدامة ودفاعها عن الحرية المطلقة ورفع راية العصيان واعتبار أن طاعة المرأة لزوجها إذلال وعبودية، لم ينشغل صديقي بالحديث عن رانيا، ففي حياة الصحافي أسماء ووجوه وأحداث قد تشغله بعض الوقت، لكنه ينساها معظم الوقت.

بعد 17 عاماً من لقائه الأول بها... كان اللقاء الأخير، فوجئ وهو يرتشف القهوة في صالة السفر في مطار القاهرة بأصابع رقيقة تنقر على كتفه... استدار... فوجئ بها تذكره بنفسها وتعرف إليها بعد جهد، فقد كان المنديل الأبيض يغطي شعرها الطويل الممزوج بالحرير والذهب... كانت كما هي، كأنها في العشرينات من عمرها لم يسجل الزمن على وجهها الجميل أي بصمة باستثناء بعض التجاعيد المتفرقة. أنيقة كالعادة، لكنه لمح في نظراتها انكسار البطل المهزوم. كان متبقياً على موعد إقلاع الطائرة ساعة وبضع دقائق... فدعاها إلى فنجان قهوة... جلست وهي تضع حقيبتها فوق المائدة ثم همست قائلة:

•  هذه آخر مرة ستشاهدني فيها. أرجو أن تسامحني لأني أخطأت في حقك يوم أهنتني في الصحيفة فتحدثت عنك بشكل غير لائق في غيابك. أنا الآن اتصل بكل من أخطأت في حقهم وأطلب منهم العفو. وعندما رأيتك الآن تذكرت الخطأ في حقك... ووجدتها فرصة للحديث معك،

وبدأ للمرة الأولى حوار ودي للغاية بين الاثنين... قال لها صديقي:

•• أرى أمامي إنسانة مختلفة.

•  حياتي كلها كانت مرتعاً للشيطان. كنت أملك المال والجمال والعلاقات وقوة التأثير في من حولي... أخطائي وخطاياي سر بيني وبين الله... افتريت على أزواجي الثلاثة وكان كل منهم رجل تتمنى أي امرأة تراب قدميه. هدَّمت بيوتاً... وحرمت أطفالاً من آبائهم. قهرت كل من وقف في طريقي، تعاليت على الناس لأنني بنت الحسب والنسب... مولودة وفي فمي ملعقة من ذهب... أملك شقة في الزمالك ورصيداً في البنك وسيارة أحدث وأغلى موديل... لكني لم أفق إلا حينما ذهبت إلى المستشفى لزيارة صديقتي {فريدة} وهي تحتضر. كنت أعتقد أنها نست أنني خطفت زوجها ذات يوم وأنه بعد أن طلقته، لأن العصمة كانت في يدي، وأراد العودة إليها هي التي رفضته. كان ظني أن الموضوع انتهى. لكني فوجئت بها تدعو وترفع يدها إلى السماء بمجرد أن رأتني وتطلب ألا يسامحني الله. صديقات النادي علمن بالواقعة. ابتعدن عني. وجدت نفسي في النهاية منبوذة. لم ينفعني مال ولا جمال ولا علاقات، وفي العام نفسه ماتت أمي على يدي ولحق بها أبي بعد أشهر قليلة.

طلب الغفران

 عرفتُ معنى الموت وبدأت أفكر بعمق للمرة الأولى بعدما رأيت الموت وصاحبته. كان الحديث عن الحساب يرعبني وأن الحياة زائلة لا محالة والحساب قادم لا شك... وكان شبح الذين ظلمتهم يطاردني في كل مكان، خصوصاً الذين لفقت لهم التهم وصدرت ضدهم أحكام لمجرد أنهم ضايقوني وهم من طبقات دنيا بينما أنا بنت الحسب والنسب وصاحبة النفوذ والعلاقات. كنت أبحث عن الغفران بأي شكل ولم يهدأ ضميري إلا بعد أن منحت شقتي التمليك قبل سفري لخادمة خرجت من السجن العام الماضي، كانت مشردة لأنها لم تجد مكاناً يأويها... كنت أنا التي حبستها ظلماً لأنها تركت الخدمة في بيتي من دون أن تستأذنني فلفقت لها تهمة سرقة خاتمي {الألماس}... لا تتصور كم كانت فرحتها عظيمة وهي تدخل الشقة وتطلق الزغاريد وسط دهشة بعض سكان الزمالك.

وسألها صديقي:

•  إلى أين أنت ذاهبة؟!

•• إلى السعودية. أنت لا تعرف أن أخي يعمل هناك منذ عشرين عاماً ومتزوج من سعودية. وكان يتبرأ من تصرفاتي وسلوكي ولهذا كان يرفض زيارة مصر، وفي الأشهر الأخيرة اتصلت به وأخبرته بأنني منهارة وأفكر في الانتحار. جاء في أول طائرة ومعه زوجته وأولاده وشقيق زوجته. احتواني الجميع ومسحوا عني دموعي... كنت صريحة معهم إلى أبعد حد. وفوجئت بعد يومين فقط بأن أخي يخبرني بما لم يخطر لي في بال. شقيق زوجته طلب يدي، وطلب أن أعيش معهم في الرياض... ووجدت نفسي أوافق على الفور لكني وضعت شرطاً واحداً... أن يكون سكني في مكة... ووافق الرجل فوعدته أن أكون خادمة له!

•  أنت تقولين عن نفسك خادمة؟!

•• نعم. إبليس موعده النار... لكن شياطين الإنس هل تعتقد أن لهم توبة؟!

•  هذا مؤكد طالما بقيت الروح في جسد بني آدم... إن الله يغفر الذنوب إلا أن يشرك به.

•• إذن لا تندهش من أن أكون خادمة للرجل الذي سأعتذر لكل أزواجي السابقين في شخصه!

•  ما زلت عنيدة؟

•• أبداً... من أين جاءك هذا الانطباع؟

•  لأنك تزوجت بشرط... رغم أن عريسك لم يضع أي شروط؟!

•• لم أطلب سوى سكن في مكة. أريد أن أكون قريبة من الحرم. معظم وقتي سيكون في خدمة زوجي. لكن باقي الوقت سأكون على باب الله في الكعبة. أنا واثقة من أن الباب سينفتح لي ذات يوم... ولن أرجع إلى مصر ثانية... أريد أن ابتعد عن كل مكان يذكرني بالماضي. أريد أن أنسى أخطائي وذنوبي وخطاياي. أريد أن أطهر قلبي وأن أغسل بدموعي هذا الماضي. وأن أسمح لرانيا الجديدة ببدء حياتها في أطهر بقاع الأرض.

وحان موعد إقلاع طائرته، صافحها صديقي... وتحرك  إلى الأمام في اتجاه طائرته... وجلست هي تنتظر طائرتها وهي تلوح له بيدها. كان يتمنى لو طال اللقاء... لكن سرعان ما ارتفعت به الطائرة وراحت تحلق بين السماء والأرض فأغمض عينيه ليرى رانيا مرة أخرى... لكن بين الجفون. استيقظتُ من تأملاتي بعدما بدأت الطائرة الاستعداد لإجراءات الهبوط في مطار تلك الدولة البعيدة التي كنت أتأهب لزيارتها.

 وفي أول اتصال هاتفي بيني وبينه حكى لي كل ما دار بينه وبين رانيا... بينما كان عقلي أنا شارداً وفي أعماقي سؤال عريض:

* من هي الخادمة التي حصلت على شقة تمليك في أحد أرقى أحياء القاهرة ثمناً لحبس ستة أشهر... وهل تساوي الشقة التمليك مئة وثمانين يوماً خلف الأسوار العالية؟! وكيف ستتعايش مع سكان الزمالك... وهل ستكون لها خادمة هناك؟ لكن ليس لهذه الأسئلة أي إجابات، بالتأكيد الخادمة رضيت وسامحت مخدومتها التي أصبحت على باب الله، لكن الدهشة الكبيرة ظلت من نصيبي على القدرة غير الطبيعية للنفس البشرية على الانتقال من النقيض إلى النقيض في لمح البصر، أن تتحول الفتاة المدللة ذات الطباع الشيطانية إلى سيدة هادئة ذات خلق ملائكي.

back to top