المؤرخ الإسلامي د. عبدالمقصود باشا: غلق باب الاجتهاد يفتح أبواب الفتنة على مصراعيها

نشر في 25-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 25-07-2014 | 00:02
No Image Caption
أكد المؤرخ الإسلامي ورئيس قسم التاريخ والحضارة في جامعة الأزهر الدكتور عبدالمقصود باشا أن الإسلام عبر تاريخه لا يعرف الثورة بمفهومها الشامل، لكنه عرف الإصلاح والملحمة بشكل كامل وجذري، لأنه يقوِّم الحاكم ويقضي على الظلم ويحافظ على تماسك المجتمع الإسلامي.
وأضاف في حواره مع «الجريدة» أن ظاهرة الفتاوى التكفيرية التي تصدرت الساحة في الآونة الأخيرة هي أخطر مراحل الفتنة، التي مر بها المسلمون في العصر الحديث، بسبب تعرض الجهلاء وغير الخبراء وناقصي العلم للفتوى، فظهرت الطائفية والمذهبية بين المسلمين. إلى تفاصيل الحوار.
{الفتنة}، تلك الشرارة التي تحرق أي مجتمع أو التي تعمل على التفريق بين مجموعة ملتحمة لأسباب خفية، هل لها تعريف أو مفهوم مُحدد؟

تعددت معاني الفتن من زمن إلى آخر، حسب الظروف والمعطيات التي تقع في نطاقها، ومصطلحياً «الفتنة» تعني الابتلاء والامتحان، وقد تكون في الأموال، وفي الأولاد أو الزوجة. ومع ذلك فإن أعظم الفتن هي فتنة النساء. ويمكن تعريف الفتنة حديثاً بأنها كل ما يبث في المجتمع ويؤثر في حياة مواطنيه، كذلك تشمل جوانب عدة من بينها ما له علاقة بالعقيدة والخلق والأمن والمعيشة. والفتنة موجودة منذ هبوط أبونا آدم عليه السلام إلى الأرض، لكن هي نائمة لعن الله من أيقظها.

القرآن الكريم والسنة النبوية لم يتركا أمراً من أمور الحياة إلا وتحدثا عنه، فكيف رصدا الفتنة؟

الله سبحانة وتعالى أراد أن يحذر المسلمين من الوقوع في الفتنة، حتى إنه ذكرها صراحة في كتابه الجليل بحوالي ستين موضعاً، والفتنة في القرآن الكريم تشير إلى أن ما من أمة أو جماعة منذ بدء الخليقة إلا وأشيعت بينها الفتنة، ويقول الله سبحانه تعالى: «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون»، و«الفتنة أشد من القتل»، و{نبلوكم بالشر والخير فتنة». والفتنة كما وضحها القرآن الكريم إذا ظهرت في قوم يصبح لها وجهان، فإما أن يعقبها شر أو يعقبها خير. ومع ذلك فإن الله حذر منها بين خلقه، حتى إنه سبحانه قدم الفتنة على الشرك، وعلى قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.

وبيَّن في مواضع أخرى بأنها تعادل الكفر بالله إذ قال سبحانه وتعالى: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة»، ومتى كانت الفتنة من عند الله كانت على وجه الحكمة، وإذا كانت من الإنسان كانت على عكس ذلك، والمفسرون أحكموها في أمور عدة من بينها البلاء، والجنون، والحجة، والمقدرة، والضلالة، والعدل عن الحق والتعذيب.

بماذا ينصح القرآن والسنة في حال اشتعال الفتن في الأمة؟

من لطف الله سبحانه وتعالى بأمة نبيه محمد (صلى الله وعليه وسلم)، أنه رفع العذاب العام عنها فلا تهلك به، وحفظها من كل ضعف وقعت فيه حتى لا تفنى ويباد أفرادها. لكن قدر الله في هذه الأمة أن السيف إذا سل فيها لا يغمد، وأن الفتن إذا اشتعلت لا تُطفأ، ويكون بأسهم بينهم شديداً، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان حريصاً على أمته، لذا فقد نصح أمته وقت الفتن باجتنابها، واعتزال أهلها، وأمر بكف اليد واللغو باللسان سراً وجهراً. وذكر عليه الصلاة والسلام في أحاديث عدة، من بينها: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن يشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً  فليعذ به».

إذاً تحثّ الأحاديث النبوية على اعتزال الفتنة، كيف ذلك؟

نعم حث الرسول صلى الله وعليه وسلم على اعتزال الفتنة، والهرب من أهلها، والاعتزال، وذلك لما فيه مصلحة العبد وحماية لدينه وسلامة ليده ولسانه وحقناً لدماء المسلمين وأعراضهم، لأن اعتزال الفتنة يعمل على تقليل الخسائر كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «قال رجل يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال: نعم أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام، قال ثم مَهْ؟ قال: ثم تقع الفتن كأنها الظلل. قال: كلا والله، قال: بلى والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض، فخير الناس في الفتن المؤمن المعتزل».

الخروج على الحاكم

يرى البعض أن الخروج على الحاكم نوع من الفتنة، ما مدى صحة ذلك؟

اختلف العلماء على فكرة الخروج على الحاكم، فمنهم من حرمها وجعلها بمثابة إيقاظ للفتنة داخل المجتمع، ومنهم من أجازها إذا كان الحاكم طاغية وظالماً وفاسداً. ويذهب أصحاب الرأي الأول إلى أن الخروج على الحكام والأفراد فتنة كبرى ولها مردود على البلاد والعباد وتتيح الفرصة لأعداء الإسلام أن ينالوا من الإسلام والمسلمين، حيث إن الأعداء لم ينالوا من الإسلام إلا عن طريق إشاعة الفتن وإثارتها بين المسلمين.

ويتجلى قول الله سبحانة وتعالى «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب». ويميل هذا الفريق إلى عدم الخروج امتثالا لقوله تعالى: «وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم مؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرا وأحسن تأويلاً».

وترى هذه الفئة أن الخروج على الأئمة والسلاطين والثورة عليهم لا تزيل الشر، بل تزيده، وتأتي بشرٍ أعظم، لأن النبي (صلى الله وعليه وسلم) نهى عن الخروج على الحكام إذا كان فيهم ظلم، لأن قتالهم فيه فساد وأعظم من فساد ظلمهم. فالثورات على الحكام لم تأت إلا بالقتل وإثارة الفتن وسفك الدماء، وبقاء الفجار وفناء الأخيار، وشيوع الظلم وإشغال الأمة عن طلب الجهاد ومتابعة الأعداء، ومع ذلك فإن ثمة الكثير من العلماء لن يجيزوا فكرة الخروج على الحكام إلا في حالة واحدة، وهي أن يصدر عنهم كفر بواح مسموع أو مرئي، وبذلك فإن العلماء أجازوا الخروج على الحاكم الظالم وليس كل الظلم ولكن الظلم المفسد المهلك فقط.

الإسلام والإصلاح

ولكن ما الفرق بين الثورة والهوجة والعصيان المدني والاحتراب الأهلي من خلال الممارسة الإسلامية؟

لم يعرِّف النظام الإسلامي عبر تاريخه الثورة، ولكن الأخيرة مصطلح غربي تم تصديره إلينا بمسميات عدة من بينها «التغيير الجذري الطارئ»، والمفاجئ للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بوسائل تخرج عن النظام المألوف والذي لا يخلو من العنف، كما حدث في جميع الثورات في أوروبا مثلاً.

ورغم ذلك فالإسلام لا يعرِّف الثورات، ولكن يعرِّف الإصلاح، وهو يعني أيضاً أن يتم التغيير بشكل شامل وجذري بما يشبه الثورة تماماً. لكن ثمة فرقاً في الأدوات، لأن الثورة قد تعتمد على العنف، والإصلاح يرفض التغيير بالعنف وهنا تبرز سماحة الإسلام في إصلاح المجتمعات بما لا يؤثر على العباد والبلاد، ووقف المتربصين والحاقدين والمستغلين لهذه الثورات.

وهنا نريد أن نبرز بعض المفاهيم المتشابهة مثل «الملحمة» وهي كلمة تضاد للثورات، والملحمة هي التلاحم وقت الصراعات والفتن التي تنتاب الأمة وتؤلف بين أفراد المجتمع فتتحقق الوحدة، ولهذا فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصف بأنه «نبي الملحمة»، أي موحد الأمة الإسلامية.

وتندرج الهوجة تحت الثورات ولكن من خلال معطيات هذا الزمن. أما العصيان المدني فهو أخطر أنواع التغيير لما له من ضرر كبير على الحاكم الذي خرج عليه الناس، بل تأثيره على البسطاء الذين يقع عليهم الظلم الأكبر، لأن فيه تعطيلاً للدولة كاملة.

وكيف تصدى الإسلام لفتنة الاحتراب الأهلي؟

الاحتراب الأهلي هو التجاء أقاليم البلد الواحد إلى النزاع المسلح في ما بينهم كوسيلة لإنهاء أزمة ما، والإسلام كان دائماً ضد هذا النوع من الحروب، لأنه يهدم الحرث والنسل، ويدمر مقومات الدولة، ويشتت العقائد. لذا فإن القرآن الكريم كان حريصاً في هذه المسألة عندما قال الله تعالى في كتابه العزيز: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما».

 

ما حجم تأثير الفتنة على مجريات التاريخ الإسلامي وانعكاسه على واقعنا المعاش؟

لعل أول محطة للفتن واجهت الدولة الإسلامية في مهدها كانت فتنة مقتل عثمان بن عفان، ويتم تعريفها بالفتنة الأولى وهي صفحة مؤلمة في التاريخ الإسلامي، والتي فقدنا فيها أكبر عدد من الصحابة، وهم حملة كتاب الله، وهم الذين بلغوا أحاديث الرسول بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. وكان لهذه الفتنة أثر كبير في تغير اتجاه الدعوة الإسلامية في تلك الفترة، وانعكاس على واقعنا المعاش. فنرى أن التاريخ يعيد نفسه، وهذه سنة الله في الأرض، ومع الأسف الشديد استغل أعداء الإسلام والمستشرقون هذه الواقعة، لترويج أن الإسلام دين لا يعرف التسامح والتعايش السلمي، بدليل تحارب أتباع محمد من بعد وفاته على الحكم، وتقاتلهم. والمتابع لهذه الحادثة يرى أنها تتشابه وأحداث 25 يناير 2011 في مصر، حيث حدثت موقعة الجمل وهنا تتشابه الظروف في وقت الفتن، ويتقابل الطرفان ويبث أهل الفتنة نارهم بينهم فتحدث المعركة.

التكفير فتنة

أكدت دراساتك وكتبك أن وحدة العقيدة ووحدة الحضارة ووحدة دار الإسلام كفيلة بمجابهة الفتنة، فكيف ذلك؟

إذا كانت التعددية، وكان التمايز والاختلاف في إطار وحدة هذه الجوامع إحدى نعم الله التي جاء بها الإسلام، فإن النقمة تتجسد في الخلاف الذي يجعل بأس المسلمين بينهم شديداً، ففي مقدمة أسباب هذه النقمة نزعة التكفير، وهي إحدى مقومات الفتنة. وقد رسم القرآن الكريم صور هذه الأمة كما أرادها الله سبحانه وتعالى عندما قال النبي (محمد صلى الله وعليه وسلم): «والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم».

لماذا وصم مؤرخو السلطة كل حركة اجتماعية بالفتنة، وحاربوها وهل هؤلاء المنوط بهم كتابة التاريخ؟

هؤلاء موجودون في كل عصر، وهم فعلاً كتبوا جزءاً من التاريخ، وهم ليسوا المنوطين بكتابة التاريخ، ولذا فالمؤرخ الذي يكتب لصالح حاكم أو سلطان لا يمكن أن نطلق عليه مؤرخ، لأن الأخير لا بد من أن يتصف بالموضوعية والحياد والتجرد. وهذه الفئة تمجد في كرسي الحاكم على  حساب التاريخ، وبسببها تعرَّض جزء من التاريخ للفقد، وعدم إلقاء الضوء على أحداث مهمة في حياة الأمم، خصوصاً أنهم في الماضي كانوا مقربين من الحكام على عكس العصر الحديث، والذي تحرر فيه المؤرخون من قبضة السلطان. ويمكن تقسيم المؤرخين إلى نوعين الأول يُدوِّن ليرضي ضميره، والآخر يُدوِّن لأجل إرضاء سيده، أو ما يمليه عليه، أو لأجل ذهب السلطان.

ركز بعض المستشرقين دراساتهم على الفتنة في الإسلام، هل كان ذلك لأجل البحث أم لأغراض أخرى؟

ثمة عدد كبير من المستشرقين، يحاول أن يوجد حالة من البلبلة، والجدل ويريد أن يصور أن الإسلام دين اعتداء على حريات الآخرين، ولا يوجد في ناموسه مصطلح الديمقراطية، وهذا غير صحيح. من المؤكد أنه لا توجد حادثة اعتداء على مر التاريخ من المسلمين على قوم أو جماعة، وتستوقفني مغالطة من هؤلاء المستشرقين مثل الرواية التي يؤكدونها دائماً أثناء الحرب الصليبية على الشرق، وهي أن قائد الحملة الصليبية على مصر ريتشارد جاء وحارب المسلمين، وانتصر ولكن تراجع وأقام صلحاً رغم التفوق العسكري الذي كانت عليه جيوشه، ويروجون دائماً أن الإسلام انتشر بحد السيف. هذه أقاويل لا يعقلها أحد، فببساطة شديدة نسأل: لماذا لم يتراجع كل الذين دخلوا الإسلام بعد استقراره؟ إنها مغالطات المستشرقين. ولا ننكر إسهامات المستشرقين المعتدلين الذين أنصفوا الإسلام، أكثر من إنصاف أبنائه له، ولهذا فإننا نلاحظ أن الذين تحدثوا عن الإسلام وأظهروا كيف أنه الدين الوحيد الصالح لكل زمان ومكان، أشهروا إسلامهم بناء على القناعة به لما حملته هذه الرسالة السمحة من تعايش وتوافق حياتي لكل فرد ينتمي إليه.

التجديد

لماذا يصنف علماء الدين التقلديون أي محاولة للتجديد بأنها فتنة؟

دعني أوضح جزئية مهمة للغاية في إطار هذا الموضوع، وهي أن غلق باب الاجتهاد جعل العلماء يرون أن أي فكر جديد أو محاولة لإيجاد حلول عصرية لم تكن موجودة في السابق هي فتنة، إلى جانب أن ثمة خوفاً شديداً من الاجتهاد والخوض فيه، لأن المجتهد يقابل عاصفة كبيرة من الهجوم حيال تعرضه للاجتهاد، خصوصاً من هؤلاء العلماء التقليديين الذين حصروا الإسلام في مجموعة من النواهي والأوامر الإسلامية وما دونها مخالف، وهؤلاء لا يعلمون أن الإسلام دين متجدد يتطور من زمن إلى آخر حتى يستطيع مسايرة الحياة، فيما الانغلاق يؤدي إلى فتنة.

كيف نبني مجتمعاً إسلامياً لا يعرف الفتنة؟

باتباع أوامر الإسلام التي تحفط النفس والدين من الانزلاق وراء الإشاعات، وتردادها، لأن الإشاعة هي الشرارة الأولى التي تؤدي إلى وجود الفتنة. كذلك يجب أن نعاقب مُروِّج الإشاعات، ونعمل على توافر إعلام هادف لأنه الأداة الأولى في ترويج الفتنة، وثمة دور كبير على الدعاة والعلماء وهو تحذير الناس بعاقبة الفتنة وأخطارها على المسلمين. لذا أطالب بتطبيق حد الحرابة على مروج الإشاعات، إلى جانب ضرورة العمل على التنشئة السليمة لإبنائنا وتربيتهم التربية الإسلامية الصالحة، وتبصير الناس بعواقب الفتن التي مرت على المسلمين ومدى تأثيرها على السابقين.

في سطور

- تخرج الدكتور عبدالمقصود باشا في كلية اللغة العربية وحصل على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف في التاريخ الإسلامي.

- رئيس قسم التاريخ والحضارة في جامعة الأزهر.

- له الكثير من المؤلفات في التاريخ الإسلامي ويلقب بأنه كبير مؤرخي التارخ الإسلامي في مصر.

- عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

- شارك في مئات المؤتمرات المصرية والدولية المهتمة بالتاريخ الإسلامي.

back to top