الولايات المتحدة تخسر جاذبيتها!

نشر في 24-07-2014
آخر تحديث 24-07-2014 | 00:01
 إيكونوميست في منتصف التسعينيات بدت الفرص الاقتصادية الأميركية إيجابية فجأةً، فارتفعت الإنتاجية بنسبة هائلة، وتدفق المهاجرون والرساميل الخارجية للاستفادة مما اعتُبر سريعاً "الاقتصاد الجديد"، وتراجع معدل البطالة إلى 4% لكن بقي معدل التضخم منخفضاً، هذه المعطيات كلها دفعت بالخبراء الاقتصاديين إلى استنتاج أن معدل النمو الأميركي المحتمل (أي السرعة التي يمكن أن يتوسع فيها الاقتصاد تزامناً مع الحفاظ على ثبات معدلات البطالة والتضخم) ارتفع بشكل حاد مقارنةً بالمعدل المسجل منذ عقود (3%) فبلغ 3.5% أو أكثر.

لكن لم يعد "الاقتصاد الجديد" موجوداً للأسف، وكان التعافي من الركود بين عامي 2008 و2009 الأضعف في حقبة ما بعد الحرب، وتزداد الأدلة على انخفاض معدل النمو الأميركي، كما تراجع العاملان الحاسمان في الاقتصاد، أي عروض العمل وزيادة الإنتاجية. كان الأداء في السنة الماضية ضعيفاً على نحو ملحوظ: لم تسجل اليد العاملة الأميركية أي نمو على الإطلاق وتراجع الإنتاج في كل ساعة عمل، وخفّض صندوق النقد الدولي حديثاً تقديراته بشأن معدل النمو المحتمل إلى 2%، ويعتبر خبراء اقتصاديون آخرون أن ذلك المعدل يقتصر على 1.75%. حتى الآن، بقي أثر هبوط الإمكانات الاقتصادية صغيراً من الناحية العملية، وبما أن الركود كان عميقاً والتعافي كان ضعيفاً جداً، فلا ينشط الاقتصاد بكامل قدراته، لكن على المدى الطويل، سيترافق تراجع سرعة الاقتصاد القصوى إلى النصف مع عواقب وخيمة، وسترتفع مستويات المعيشة بوتيرة أبطأ وستتراجع الإيرادات الضريبية وتزيد أعباء دفع الديون الراهنة.

يستلزم حل المشكلة على المدى القصير رفع الطلب، لذا يجب أن يحافظ الاحتياطي الفدرالي على انخفاض معدلات الفائدة، لكن لتعزيز النمو على المدى الطويل، يجب أن تستهدف الولايات المتحدة العرض أيضاً، فهي تحتاج على وجه التحديد إلى عدد إضافي من العمال وزيادات أسرع في الإنتاجية.

اختفاء العمال

ارتفع عدد الأميركيين في سن العمل بنسبة 1.2% في السنة خلال التسعينيات وبنسبة 0.4% فقط في عام 2013، وتراجعت نسبتهم ضمن فئة اليد العاملة من 67% إلى أقل من 63%، ويمكن لوم الركود جزئياً لأن بعض الناس أوقفوا البحث عن العمل بعد سنوات من البطالة، إنه أحد الأسباب التي تفسر أهمية تعزيز التعافي الاقتصادي، ويتعلق سبب آخر بتقدم جيل الطفرة السكانية في السن، ويرتفع عدد الأشخاص في أواخر الخمسينيات من عمرهم وما فوق (حين تبدأ المشاركة في اليد العاملة بالتراجع) بوتيرة متسارعة.

تتعزز نقاط الضعف هذه بفعل مشكلة ذاتية الصنع: السياسات التي تخفّض عروض العمل، لكنّ العنصر الأكثر ضرراً هو نظام الهجرة الأميركي الشائب. زادت صعوبة دخول البلد وأصبح عدد التأشيرات التي تصدر اليوم لأصحاب المهارات العالية جزءاً بسيطاً مما كان عليه خلال التسعينيات، وذلك رغم ارتفاع عدد الوظائف الشاغرة التي تطلب عاملين ماهرين، كذلك، زادت نسبة الترحيل وبات عبور الحدود الجنوبية أكثر صعوبة بكثير.

يميل برنامج الرعاية الصحية "أوباما كير"، رغم إيجابياته في جوانب أخرى، إلى تقليص اليد العاملة لأنه يساعد الناس على الاستفادة من الرعاية الصحية من دون أن يعملوا، ولا يمكن قول الكثير عن شبكة الأمان الاجتماعي البالية التي تبدو عقيمة ولا تشجّع على العمل، إذ تنفق الولايات المتحدة نسبة صغيرة من ناتجها المحلي الإجمالي مقارنةً بالدول الغنية الأخرى لإعادة تدريب العاطلين عن العمل ومساعدتهم على إيجاد وظيفة، وهي لم ترفع سن التقاعد وسمحت لنظام التأمين ضد الإعاقة بأن يصبح خطة بديلة للرعاية الاجتماعية، وتضاعف عدد العمال العاجزين منذ عام 1997 ووصل إلى 9 ملايين (ولن يعمل منهم أحد مجدداً على الأرجح)، وعلى غير عادة يمكن أن تعلّم أوروبا الولايات المتحدة بعض الدروس عن سوق العمل: بفضل إصلاحات الرعاية الاجتماعية، بدأت نسبة الأوروبيين العاملين ترتفع الآن.

تراجع في الإنتاجية

على المدى الطويل تقضي أقوى طريقة لتعزيز النمو بزيادة إنتاجية العمال كما حصل خلال التسعينيات، لكن يصعب رفع الإنتاجية ويبدو التراجع المسجل في الفترة الأخيرة مربكاً، فالابتكار هو الذي يحرك نمو الإنتاجية، وتشير مجموعة كبيرة من التطورات الجديدة، بدءاً من "البيانات الكبرى" وصولاً إلى "إنترنت الأشياء،" إلى أن الابتكار يتسارع، لكن بدأ متوسط النمو في إنتاجية العامل كل ساعة يتباطأ قبل أزمة عام 2007 وقد تراجع بنسبة أكبر منذ ذلك الحين.

قد يتغير هذا الوضع لأن الشركات تحتاج إلى فترة معينة كي تردّ على التكنولوجيا التخريبية، فبدأت الحواسيب تنتشر في الثمانينيات لكن لم يظهر أثرها في مستوى البيانات قبل مرور أكثر من عشر سنوات، وسيتطلب أحدث تقدم في مستوى الابتكار بضع سنوات كي يساهم في رفع الإنتاجية في الساعة الواحدة، ربما أطال التعافي البطيء بسبب الركود مدة هذا التأخير من خلال منع شركات كثيرة من الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات، لكن مجدداً جاء السياسيون ليزيدوا الوضع سوءاً في هذا المجال أيضاً.

يمكن أن تقوم الحكومة الأميركية بالكثير لتحسين الاستثمارات، فيمكنها مثلاً أن تزيد الإنفاق العام على البنى التحتية، ويمكن تشجيع الشركات عبر تخفيض الضرائب القياسية المفروضة عليها (تقترح شركة AbbVie مثلاً نقل مقرها إلى بريطانيا عبر شراء شركة Shire للانتقال إلى الخارج بدل الاستثمار محلياً)، ويمكن أن تبدأ الحكومة بتقليص السلسلة اللامتناهية من التنظيمات التي تقضي على الوظائف علماً أن الشركات تعتبر هذه المشكلة أسوأ من الضرائب، لكنها لا تقوم بأيٍّ من هذه الأمور.

أنتج بعض السياسيين البارعين خططاً لإحداث تغيير جذري في معظم هذه المجالات، لكن وقعت خططهم (مثل أمور كثيرة أخرى) ضحية السياسة الأميركية المنقسمة، فيعارض الجمهوريون تخفيف قوانين الهجرة في حين يخشى الديمقراطيون أن تكون الإصلاحات المتعلقة بعرض العمل مؤامرة لإيذاء المواطنين العاديين، ويجمع المسؤولون من الطرفين الأموال النقدية من مصالحهم الخاصة ويحرصون على إبقاء الأنظمة المعادية للمنافسة على حالها، كما أولى باراك أوباما، الرئيس الأقل تجاوباً مع قطاع الأعمال منذ عقود، انتباهاً ضئيلاً للمشكلة؛ لذا ترتفع احتمالات أن يتابع الاقتصاد الأميركي مسيرته بوتيرة بطيئة، ولن يتمكن الأميركيون من لوم أحد سوى قادتهم.

back to top