جميلات ... في ملفات القضايا (26): البحث عن شريك حياة

نشر في 24-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 24-07-2014 | 00:02
No Image Caption
غريب القدر، يفرق البشر ثم يعود فيجمع من يشاء، يكتب نهاية قصص الحب في قمة عنفوانها، ثم يعود ويشعل نار الحب من تحت الرماد. في قصة هناء التي عرفت الحب يوماًً، ضيعته وفضلت البحث عن شريك حياة، وعندما اختطف الموت منها زوجها، كان القدر بها رحيماً فأعاد إليها حبها الأول لتستعيد ذكريات الماضي وتعيش لحظات هناء في المستقبل، بينما كادت سعاد أن تدفع الثمن غالياً وتفقد زوجها وحياتها الأسرية، عندما اكتشف علاء واقعة زواجها الأول، لكنه تغلب على غضبه ليقرر الغفران.
1 عشق تحدى الزمن

 الزمان: الثانية فجر الأربعاء.

المكان: شقة الأرملة الحسناء في الطابق السابع في العمارة المطلة على أحد ميادين القاهرة الكبرى.

حالة من القلق والحيرة والارتباك لم تألفها الأرملة الحسناء سابقاً، تمضي داخل شقتها من حجرة إلى حجرة... ومن الشرفة البحرية إلى النافذة القبلية... فكرة مجنونة تلح على خاطرها منذ انتصف الليل، لكنها راحت تقاومها بكل قوة وعناد المرأة حينما تخلع ثوب الحب عن قلبها وعواطفها. جلست إلى حافة سريرها ثم أخفت وجهها بين كفيها وأجهشت ببكاء طويل... أدركت أنها وقعت داخل المصيدة التي هربت منها سنوات طويلة، وتجنبت الطرق كافة المؤدية إليها، والألغام المحيطة بها. أدركت أن الليلة لن تمر مرور الكرام، وأن في حياة كل إنسان ليلة أشبه بالثورة. الفارق الوحيد أن الثورة تصنع تاريخ شعب... و}الليلة} تصنع مستقبل إنسان.

 لم يحدث منذ ثلاثين عاماً أن تخلفت عن فراشها بعد التاسعة مساء كل يوم. حياتها كانت في دقة الساعات السويسرية أيام مجدها... تصحو في السادسة فجراً، تذهب إلى عملها في السابعة، تعود في الرابعة عصراً، تأوى إلى سريرها في تمام التاسعة... وها هي الليلة تفقد النظام الذي سارت عليه حياتها. أفكار تتلاحق، عواطف ومشاعر تعود إلى الحياة من داخل قبر محكم كانت تظنه لن ينفتح أبداً... قلب يصحو من غفوة طويلة... وإرادة فولاذية بدأت تتلاشى وتتضاءل وترفع راية السلام والصلح مع الماضي.

تأملت هناء شريط الذكريات الذي داهمها مع ساعات الليلة الثائرة، تنهدت بحرقة وهي تتذكر يوم دفنت حبها الكبير وتلقت فيه العزاء ليلة زفاف محمد ونادية. كان محمد أول رجل يقتحم أبواب قلبها البكر. كان بمقدورها أن تصد غزوته وترد هجمته وتلحق به هزيمة نكراء... لكنها استعذبت ناره واستملحت جرأته ورحبت باستعماره لعواطفها. رفعت الراية البيضاء وأفسحت له الطريق ليحتل ما يشاء من كنوزها... لكن لم تمض سنوات قليلة حتى دب خلاف حاد بينهما كان أخطر ما فيه إن كلاهما ركب رأسه وأعلن العناد ورفض أن يرحم الآخر حتى وصلا معاً إلى نهاية النفق المظلم ... واتخذ كل منهما قراره. تزوج محمد من نادية ابنة خالته، وتزوجت هي من الدكتور سلامة أستاذها الذي كان يشرف على رسالة الدكتوراه التي تعدها! كانت حفلة زفاف كل منهما أشبه بحفلات الانتصار الوهمي التي تقيمها الدول المهزومة.

فراق... فلقاء

شريط الذكريات يمضي... ودقات قلب هناء تتلاحق، حصلت على الدكتوراه في بيت الزوجية، وسافر محمد ونادية إلى إحدى الدول الأوروبية. بعد عامين، عادت نادية تحمل حقائب سفرها ووثيقة الطلاق. لكن لم تفرح هناء، ربما لم تهتم بالخبر نفسه. كانت حياتها مع الدكتور سلامة نموذجية. لا شيء ينغص عليها هذه الحياة ما دامت قتلت الماضي ودفنته بيدها بعدما شيعت جنازته على مرأى ومسمع الجميع.

تمضي سنوات طويلة... الحياة تتغير... أناس يموتون وآخرون يخرجون إلى الحياة، خارطة العالم تتبدل، والأحزان تتبادل المقاعد مع الأفراح. ورغم هذا كله تمضي الأحداث الشخصية في حياتها بشكل رتيب لا يتغير حتى يموت الدكتور سلامة بعد زواج دام 20 عاماً بلا أمراض ولا شروخ ولا تصدعات. مات الدكتور وظنت هناء أنها ستواجه حياتها الباقية بمفردها. ابتلعت دموعها وكتمت أحزانها وندبت حظها الذي حرمها من أمومة كان يمكن أن تؤنس حياتها البائسة. لكن سرعان ما أهدتها الصدفة فرصة لقاء لم يخطر لها في بال ولم تتوقعه ولو في الأحلام، لقاء مع محمد الذي نسي يده في يدها حينما تصافحاً.

عرفت منه أنه لم يتزوج منذ طلق نادية قبل 18 عاماً... قرأت في عينيه ما لم ينطق به لسانه. استيقظت الأنثى في أعماقها، حرصت على الانسحاب فوراً، وحرص محمد أن تمنحه وعداً باللقاء صباح اليوم التالي. وها هي الليلة تضعف لحظة بعد لحظة وتستسلم كل جيوب المقاومة أمام غزو الماضي.

 اتخذت هناء قرارها الحاسم بأن تقابل محمد. تخيرت أجمل فساتينها، انتقت عطراً يزيد الحب ناراً واشتعالاً، وقفت طويلاً أمام المرآة كفنان يحرص على لقاء جمهوره في أبهى صورة. شعرت أنها تخرج من القمقم لحظة بعد أخرى وأنه لم يعد أمامها غير الإفراج عن الماضي بالعفو العاطفي، التقيا وكأنهما لم يفترقا إلا 20 دقيقة... دارت الدنيا بهناء وكأن العالم يرقص ويهتز معها... وشعر محمد أنه أقوى من كل عشاق الأساطير. اتفقا على الزواج فوراً... أيام وجاء محمد إلى شقة هناء كزوج يقود السفينة بعدما مات الربان... مات الدكتور مجدداً ليلة زفاف أرملته وبعدما دبت الحياة بين العروسين تحت سقف واحد، تذكر محمد وهناء أيام الماضي والحب المشتعل الذي كان، استيقظ الغرام من تحت رماد الأيام فعاد إلى حرارة اشتعاله، فكانت لهما ليالي أشبه بليالي ألف ليلة وليلة.

ويبدو أن صاحب العقار استكثر على هناء فرحتها... أقام دعوى قضائية يطالب بطردها من الشقة. قال في دعواه إن عقد الإيجار امتد في حقها باعتبارها زوجة المستأجر الأصلي وأنها الآن فقدت هذه الصفة بوفاة المستأجر الأصلي وصارت زوجة رجل آخر لا علاقة له بعقد الإيجار... وطالب بطرد هناء وزوجها الثاني. لم تلتفت المحكمة إلى طلب صاحب العقار وقضت برفض دعواه لأنه طبقاً لحكم محكمة النقض فإن استمرار الحياة الزوجية شرط استمرار عقد الإيجار في حق أحد الزوجين... وبموت الزوج الأول يمتد العقد في حق زوجته حتى لو تزوجت من رجل آخر بعد ذلك ولو كانت للزوج الثاني شقة خاصة به.

وسمعت أنا من هناء بعد الحكم أغرب إجابة حينما سألتها:    

* لماذا لم يكن قفص الزوجية الجديد في منزل زوجك الثاني؟

قالت: {هذه متعة لا يقدرها إلا من يعيشها... أن يكون الماضي والحاضر والمستقبل في مكان واحد وبين أربعة جدران وتحت سقف واحد أيضاً}.

2 رحلة البحث عن زوجة

وقع علاء في حيرة شديدة حينما ضغطت عليه أسرته ليتزوج قبل أن تعبره سن الشباب بعدما تجاوز العام الثلاثين من عمره بعام وأشهر، بكت أمه وهي تحثه على أن يمنحها الفرصة لتفرح من قلبها قبل أن يخطفها الموت من فراش المرض... وحذره أبوه من أنه اليوم يتدلل ويختار وينتقي، لكنه في الغد لن يكون هو ضمن قائمة اختيارات الفتيات والنساء... وكما يدقق هو اليوم سوف تتدلل عليه النساء في الغد.

 وبدأ علاء يفكر جدياً في مهرب جديد يؤجل به رده، لكنه عجز عن إيجاد المبرر هذه المرة. تخلت أمه عن ترشيح ابنة خالته له، وتخلى أبوه عن ترشيح ابنة عمه. حررته أمه من كل قيد، وأطلق له أبوه العنان في الاختيار. الشقة جاهزة، والمهر في البنك، والسيارة الجديدة أسفل المنزل، ومرتب علاء يكفي ويزيد متطلبات الزوجية.

لم يتركه أبوه إلا بوعد قطعه على نفسه بأن يحسم أمره خلال أيام أو أسابيع قليلة... دخل إلى حجرته، لكن النوم خاصم عينيه حتى الصباح. قفزت إلى ذاكرته أسماء زميلات الجامعة وبنات الحي وزميلات العمل اللاتي تميزن عن غيرهن... وراح يفكر في كل واحدة على انفراد. طال به الوقت واشتدت حيرته. لكنه في النهاية وجد نفسه أمام امرأتين قرأ في عيني كل منهما أرق رسائل الغرام يوماً ما... منال وسوسو.

الأولى كانت أجمل من أن يصفها الإنسان بالجمال، أما سوسو فأقسم عليها الجمال بأغلظ الأيمان بألا تكون بينهما صلة إلى الأبد، منال هجرت كل المعجبين بها وتمنت لو كان علاء من نصيبها وشريك عمرها... والثانية طاردته بكل سبل وألاعيب النساء وحيلهن. منال اكتفت بالمؤهل المتوسط وكأنها اكتفت بأنوثتها التي كانت أعظم مؤهل يتمناه رجل في زوجته، وسوسو انتهت من الماجستير وبدأت تستعد للدكتوراه. منال صبرت على حبها الحزين وضحت بكل الذين طلبوا يدها لأجل عين علاء، وسوسو كانت تنتظره رغماً عنها آملة في طيبة قلبه وخجله الشديد وخلقه الرفيع. إعجابه بمنال فاق الحدود كأنثى ساحرة، لكن ثقافتها المحدودة وضيق الأفق وتفاهة الأفكار كانت في رصيدها السلبي الذي لم يغض عنه علاء بصره، وإعجابه بسوسو في قوة شخصيتها وذكائها الحاد وثقافتها المبهرة وأفكارها العبقرية، كان يقلل منه ويفسده ويشوهه أنفها الحاد وشعرها الجاف وفمها العريض وبشرتها السمراء وقامتها القصيرة وقوامها النحيل.

كان يرى منال كإشراقة صبح في نهار الربيع بينما تبدو سوسو كظلمة ليل في أمسيات الشتاء... ومع هذا كان علاء يدرك أن نظرته هذه كان خلفها قلب يعشق الجمال. أما عقله فكان يميل إلى سوسو ويلتمس لها الأعذار والمبررات، تارة يغريه بشرفه الذي ستصونه سواء رغماً عنها أو بإرادتها... وطوراً يغريه عقله بأن يعيد تجربة عمه الذي تزوج من امرأة تنتمي إلى نفس قبيلة سوسو التي خاصمها الجمال وقاطعتها الأنوثة فكانت زوجة عمه مضرباً للأمثال في الوفاء والنجاح الذي حققه عمه من هذا الاستقرار، وذلك البيت الذي عاش فيه على طريقة سي السيد وأمينة، بينما قريب آخر تزوج من حسناء جميلة ثم انتهى به الأمر إلى الطلاق والعلاج في العيادات النفسية.

أشرق الصباح... خرج علاء إلى عمله، جلس مع أقرب أصدقائه يشكو إليه حيرته، وراح صديقه ينبهه إلى أنه يطلب المستحيل وراهنه أنه يجد هذه المرأة التي يحلم بها وتجتمع فيها كل مزايا النساء دفعة واحدة... سرح علاء وشردت نظراته يتأمل كلمات صديقه الذي استطرد في حديثه مؤكداً أن المرأة التي يجتمع عليها العقل والقلب معاً، لا وجود لها في زماننا الحاضر إلا في روايات الأفلام، وربما جاءت إلى عالمنا يوماً من زمن آخر لم يصل إلينا بعد.

سأله علاء: وما العمل؟ وأجابه صديقه بسرعة: أرشح لك سعاد ابنة خالتي وشقيقة زوجتي، متوسطة الجمال، متوسطة الثقافة، متوسطة الطموح. ذهب علاء مع صديقه لرؤية سعاد. لم تبهره مثلما بهرته منال، ولم تزعجه مثلما أزعجته سوسو التي لا يتأكد المرء من أنوثتها إلا بعد سماع اسمها.

تم الزواج سريعاً... لكن سرعان ما تحول قفص الزوجية إلى جحيم بعدما عاشت حماته فيه. فشل علاء في إصلاح سلوك زوجته التي تتحكم فيها أسرتها وتخطط لها وتتدخل في أدق تفاصيل حياتها. فكر أن يطلقها ثم صبر عليها حرصاً على أطفاله. تحملها فتمادت، نصحها فلم ترتدع. عاشت معها أمها وتفننت في الوقيعة بين ابنتها وزوجها الصابر. لكن صبر علاء نفد... وجاءت الفرصة الذهبية حينما طلبت سعاد الطلاق بتحريض من أمها من باب التهديد لعلاء... وهمس الناس في أذني علاء أن زوجته سبق لها الزواج.

أقام هو أيضاً دعوى تزوير ضد زوجته التي وقفت في المحكمة تعترف بواقعة زواجها السابق وتبررها بأنها لم تزف إلى زوجها الأول ولم يختل بها منذ عقد القران عليها وحتى طلقها... وقدم علاء وثيقة زواجه من سعاد وعليها توقيعها وفوق سطورها عبارة {لم يسبق لها الزواج}، وقضت المحكمة ببراءة سعاد لأن التزوير يجب أن يكون منصباً على الواقعة التي أنشئ المحور الرسمي لإثباتها وعقد الزواج إنشئ لإثبات واقعة بكارة الزوجة أو عدم بكارتها.

ويبدو أن قلب علاء رق لدموع زوجته التي لم تفرح بالبراءة وأنما انشغلت بالجدال مع أمها لأنها كانت مصدر النكد في حياتها الزوجية. تراجع علاء على باب المحكمة وسأل زوجته:

* هل ستعودين معي إلى بيتنا؟

وردت عليه من دون تفكير... وفي عينيها دموع:

** نعم أنا وأنت والأولاد فقط.

back to top