الأبوة... كيف تغيِّر دماغك؟

نشر في 24-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 24-07-2014 | 00:02
بصفتي أب لتوأم وُلد منذ 12 أسبوعاً، شعرت بالحيرة عند قراءة دراسة جديدة تتمحور حول تغيرات دماغية مرتبطة بتجربة الأبوة. في السابق، كان معظم الأبحاث البشرية في شأن الآثار العصبية للتربية يركز على الأمهات.
حين تصبح أباً، يشبه الأمر أن تدور رقاقة في دماغك (أو اثنتين في حالتي)، أي أنك تشعر فجأةً بيقظة متواصلة تجاه أولادك الضعفاء مهما كنت تفعل أو أينما تواجدت. ثم يحين وقت اللعب وإطعام الأولاد، فتتنبّه إلى كل ذرة عاطفة على وجههم الصغير أو كل حازوقة عابرة أو نوبة بكاء. من السخافة ألا تترك هذه المسؤوليات وطرق التفاعل الجديدة أثراً عميقاً في الدماغ.

مسح فريق بقيادة بيليونغ كيم في جامعتَي دنفر ويال أدمغة 16 أباً جديداً مرتين (يبلغ متوسط عمرهم 36 سنة وأصبح سبعة منهم آباءً للمرة الأولى). حصل المسح الأول بين الأسبوع الثاني والرابع بعد ولادة الأطفال، ثم جرى المسح الثاني بين الأسبوع الثاني عشر والسادس عشر. أثبتت الأبحاث السابقة حصول تغيرات وظيفية في أدمغة الآباء، بمعنى أنها تسجل نشاطاً عصبياً متزايداً عند مشاهدة الأولاد. وهي المرة الأولى التي يوثّق فيها الباحثون التغيرات البنيوية في أدمغة الآباء من البشر.

عند مقارنة الفحصَين، لاحظ فريق كيم زيادةً في حجم المادة الرمادية في مناطق عدة من أدمغة الآباء، وقد شملت مناطق تبين سابقاً أنها تنمو عند الأمهات الجديدات، بما في ذلك المنطقة المخطّطة (ترتبط بتحليل المكافآت ووظائف أخرى)، والمهاد (السيطرة الهرمونية)، ولوزة الدماغ والقشرة الحزامية الأمامية (ترتبط بالتحليل العاطفي)، والقشرة الجانبية ما قبل الجبهية (ترتبط بالذاكرة واتخاذ القرارات). تُعتبر هذه القشرة الأخيرة من المناطق التي ترتبط بزيادة النشاط الدماغي حين يشاهد الآباء أولادهم. كانت دراسة سابقة على القرود قد أثبتت زيادةً في التشعّب بين الخلايا العصبية في القشرة الجانبية ما قبل الجبهية عند الآباء.

ما معنى هذه الزيادات كلها في حجم المناطق الدماغية؟ يصعب أن نعرف ذلك، لكن تعتبر كيم وزملاؤها أن الأبحاث على الحيوانات تُلمِح إلى أن عدداً من تلك المناطق العصبية يحتل الأهمية نفسها في سلوكيات الارتباط العاطفي والاعتناء بالغير. قد تعكس هذه التغيرات أيضاً تعلّق الأطفال بآبائهم. لكن أيهما يأتي أولاً؟ تعلّق الطفل أم التغير الدماغي؟

تيقّظ الأب

كشف البحث الجديد أيضاً عن انكماش بعض المناطق الدماغية في بداية تجربة الأبوة. شملت المناطق التي يتراجع فيها حجم المادة الرمادية: القشرة الوسطية ما قبل الجبهية، وجدار الشق المركزي الأمامي، والتلفيف المخي الصغير، والقشرة الجدارية السفلى. تُعتبر هذه المناطق كلها جزءاً من «شبكة الوضع الافتراضي». تنشط هذه المجموعة من المناطق الدماغية جماعياً حين ننفصل عن العالم الخارجي. توقعت كيم وزملاؤها أن يعكس الانكماش في تلك المناطق الدماغية تحولاً في الموار» بعيداً عن شبكة الوضع الافتراضي، بما يتماشى مع تيقّظ الأب المستجد تجاه أولاده الأعزاء.

شملت المناطق الأخرى التي شهدت تراجعاً في حجم المادة الرمادية: القشرة الأمامية المدارية والقشرة العازلة اليسرى (ارتبطت المنطقتان سابقاً بمشاعر القلق، وتوقّع الباحثون أن يعكس انكماشهما تراجعاً في قلق الآباء خلال الأشهر الأولى من حياة أولادهم). ما يدعم هذا التفسير أن الأب الذي يكون أكثر جرأة في طريقة اللعب مع أولاده (استناداً إلى تحليل جلسات اللعب التي تمتد على خمس دقائق) يسجل تراجعاً أكبر في حجم القشرة الأمامية المدارية.

عمدت مقاربة أخرى في البحث إلى مقارنة التغيرات الدماغية عند الآباء مع مستويات الاكتئاب لديهم. اكتشف علماء النفس حديثاً أن الأب، تماماً مثل الأم، يكون معرّضاً للاكتئاب بعد ولادة طفله. تشير البيانات إلى أن زيادة حجم المنطقة المخططة والقشرة الحزامية الأمامية ترتبط بتراجع مستويات الاكتئاب. لكن لم يواجه أيٌّ من الآباء المشاركين في الدراسة مؤشرات جدية على الاكتئاب، لذا تبقى النتيجة غير مهمة بشكل عام.

أهمية التفاعل

يمكن أن نستنتج إذاً أن هذا البحث أولي بكل بساطة. يبدو حجم العينة صغيراً وما من مجموعة مرجعية يمكن الاستناد إليها وتتوافر بيانات هيكلية فقط، لذا لم يبقَ أمام الباحثين إلا تكهّن معنى نتائجهم. لا نعرف الكثير عن مدة التغيرات الدماغية الملحوظة. لكني سررتُ لأن علماء الأعصاب بدأوا يهتمون بالجوانب العصبية عند الآباء. بدأت دراسات علم النفس تثبت بشكل متزايد أهمية حصول تفاعل مبكر بين الآباء والأولاد، لذا من المنطقي أن يواكب علم الأعصاب هذه النتيجة.

هذا التطور يرضيني، لكن يجب أن أعترف بأن النقاش الحاصل بين الباحثين في شأن التطبيقات المستقبلية المحتملة لأبحاثهم أزعجني بعض الشيء. يأملون أن يوفر البحث المستقبلي الذي يجمع بين البيانات الهيكلية والوظيفية معلومات أوسع عن التغيرات الدماغية الحاصلة عند الأب الذي أجاد التكيف مع وضعه الجديد وأنشأ رابطاً صحياً مع ابنه. بحسب رأيهم، يمكن استعمال هذه المعلومة لتحديد التغيرات البارزة في دماغ الآباء المعرّضين للخطر لأجل التدخل عند اللزوم بطريقة دقيقة ومبكرة. هذا ما جعلني أفكر بمقاربة مريبة حيث تخضع أدمغة الآباء للمسح لأجل معرفة ما إذا كانوا ينشئون رابطاً سليماً مع أطفالهم. لا شك في أن أي تطورات في هذا المجال ستتطلب أبحاثاً إضافية ولا بد من التعامل معها بحذر شديد. تخيلوا الضرر المحتمل في حال القيام بتشخيص عصبي خاطئ!.

back to top