أستاذ الحضارة الإسلامية سعيد مغاوري محمد:

نشر في 22-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 22-07-2014 | 00:02
No Image Caption
ألاعيب السياسة حوّلت الربيع العربي إلى احتراب أهلي

أكد أستاذ الحضارة الإسلامية د. سعيد مغاوري محمد أن ألاعيب السياسة حولت ثورات الربيع العربي إلى احتراب أهلي، وأن السقوط في الهاوية يبدأ باستجابة المسلم لداعي الفتنة، مضيفاً في حواره مع «الجريدة» أن الأحزاب السياسية المؤسسة على أساس ديني تؤدي إلى دمار المجتمع لأنها تخلط الدين بالسياسة، ما يؤدي إلى شيوع الطائفية في المجتمع. في ما يلي نص الحوار.
وضح لنا الفرق بين الفتنة والثورة والهوجة والعصيان والاحتراب الأهلي من منظور الممارسة الإسلامية.

كل ما يحدث في الكون هو بأمر الله تعالى وتدبيره, لذلك تعد الفتنة ابتلاء من الله للإنسان لأجل الاختبار في الدنيا وتثبيت المؤمنين والكشف عن المنافقين. أما «الثورة» فهي خروج جماعي على الحاكم الظالم لأجل زواله, وهو أحد الأمور المشروعة التي أباحها الإسلام. ثارت شعوب دول الربيع العربي ضد حكامها بسبب اختفاء العدل والديمقراطية, واستخدام الحكام البطش والجبروت, فكانت الثورة عليهم مباحة ومشروعة. لكن مشروعية الثورة تعرضت، للأسف، للخطر بعدما تدخلت آلاعيب السياسة والمصالح الشخصية ففسدت وتحولت من ثورة إلى فتنة, وثمة من غرق في الفتنة وروَّج لها، بل وساعد في تحويل الثورة المشروعة إلى احتراب أهلي مرفوض.

«الاحتراب الأهلي» أحد الأمور التي نهى عنها الإسلام تماماً، لأنه يعني قتل المسلم لأخيه المسلم, وقد حرَّمته الشرائع السماوية والوضعية كافة لما له من تأثير كبير على الناس, لأنه يدمر كل شيء ويحدث البغضاء ويستدعي روح الشر بين أبناء الوطن الواحد المشتركين في العقيدة والدين واللغة, لذا نقول إن ذروة الفتنة هي الاحتراب الأهلي.

أما «الهوجة»، فهي خروج الناس في لحظة ما بسبب ظروف تاريخية معينة, وهي لحظية في أحداثها تظهر على السطح فجأة وتختفي فجأة، وغالباً لا تحقق أهدافها بسبب عدم تجانس أعضائها وتعدد مطالبها، فيما يأتي «العصيان المدني» عندما يكون الحاكم غير ذي بصيرة وحكمة, فتجبر أفعاله الناس على العصيان المدني, ولكن أحد شروطه ألا يعطل مصالح الناس, فلا يصح أن يمارس الطبيب العصيان المدني لحاجة الناس إليه. معنى العصيان المدني الصحيح أن أمارسه من دون تعطيل أو تدمير أو إعاقة الطرق, فالإسلام ينهي عن كل ما يضرّ البشر حتى وإن كان هذا الأمر سيحقق لهم طموحاتهم. كذلك أحد أبرز شروطه ألا يمتد لفترة طويلة.

كيف رصد القرآن والسنة النبوية مفهوم الفتنة وما وسائل تصديهما لها؟

تحدث القرآن في أكثر من موضع عن الفتنة وآثارها وحذَّر من الوقوع فيها، فقال تعالى: «ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنة» (الأنبياء: 35)، فالصراعات والمشاكل والفتن في حد ذاتها تنقي الإنسان, إذا ما استطاع تجنب الوقوع في الفتنة. أما إذا استجاب لداعي الفتنة، فهذا هو السقوط في الهاوية. والأمة الإسلامية تعيش راهناً في مستنقع فتن، فقد عمَّت فتن السياسة والدين شتى أراضي المسلمين, حيث رأينا انقسام أهل العلم من العلماء لأجل إرضاء فصيل معين, فبدلاً من أن يُكرّس العالم جهده وعلمه في التقريب بين وجهات النظر, ويحذر العامة ويسخر الدين لهذا الأمر لوأد الفتنة، نراه يغرق في الانحياز إلى فريق معين.

في هذا الإطار، أين تضع «الربيع العربي» بين مفهومي الفتنة والثورة؟

«الربيع العربي» فتنة وثورة في آن, فهو بدأ ثورة شعبية رائعة استجابة لمظلومية الشعوب العربية، ثم تمّ استغلالها لأغراض أخرى فتحوَّلت إلى فتنة, وتم تطبيق مراحل الفتنة كاملة عليها. الأحداث في سورية مثلاً، بدأت كثورة ثم تمَّت إدارتها من الخارج, وبسبب مكر الصهاينة الذين سمحوا بتمويل الطرفين المتصارعين دُمرت سورية وأصبحت خراباً. هنا تحولت الثورة إلى فتنة متكاملة الأطراف سقط فيها جميع فرقاء المشهد السوري, ثم تحوَّلت إلى إبادة جماعية وإلى تشريد الملايين وترويع البسطاء والضعفاء.

ربط البعض بين الفتنة وبين عملية الخروج على الحاكم، ما رأيك؟

ثمة فرق بين الفتنة وبين الخروج على الحاكم، لأن للفتنة أهدافها وهي تدمير المتصارعين، أما الخروج على الحاكم فهو أمر مشروع ولكن مرتبط بوقوع الظلم. والفتنة شيء خفي، أما الخروج على الحاكم فهو شيء مرئي ومعلوم ومشروع (في بعض الحالات)، ولكن إذا ارتبطت الفتنة بالخروج على الحاكم فهنا تقع الشرور المترتبة على خلع الحاكم لأن المقصد سيئ.

ما حجم تأثير الفتنة الكبرى على مجرى التاريخ الإسلامي وواقعنا المعاش؟

لا شك في أن الفتنة الكبرى ألقت بظلالها على مجريات التاريخ كافة إلى يومنا, لأنها كانت البداية التي قسمت المسلمين إلى مسلم سني ومسلم شيعي. ولا تزال أصداء الفتنة تعيش بيننا, فقد قامت الثورة الإيرانية على أهداف الفتنة الكبرى, فقيام دولة شيعية وزرع جماعات تنشر فكر هذه الثورة في الدول المحيطة بإيران أدى إلى نوع من الفتنة. والأحداث اليوم في العراق وسورية هي امتداد طبيعي لأحداث الفتنة الكبرى التي شهدت ميلاد البذور الأولى للخلافات التي ظهرت على سطح التاريخ الإسلامي. فالفتن عبر التاريخ الإسلامي كثيرة، وأهمها كان مقتل الخليفة عثمان بن عفان لأنه فتح الباب أمام جميع الفتن اللاحقة.

هل ثمة خطر أن تتحول الفتنة المذهبية إلى الخطوة الأولى لتفتيت الدول العربية؟

لا يريد لنا الغرب الوحدة والتقدم, لأن قوتنا كمسلمين تكمن في وحدتنا التي تفتح أبواب المجد والقوة والعزة للمسلمين, لا سيما أنه يعلم جيداً خطر توحد المسلمين على تفوق الحضارة الغربية, لهذا كان دور الفرقة وصناعتها, فقد نفخ في الطائفية بين المسلمين, هذا مسلم سني وذلك مسلم شيعي وذاك درزي, حتى أصبحنا نردد مثل هذه النعرات التي تعمل على فرقتنا في حديثنا وتعاملاتنا. وكان العراق نموذجاً في عملية تقسيمه من خلال الفتنة الطائفية. والغرب رغم محاولاته لبث الفتنة فإنه يسلك طريقه الخاص في تدعيم وحدته الداخلية. مثلاً، نجحت دول أوروبا رغم تعدد الأديان واللغات والأجناس، في تشكيل تكتل موحد لأوروبا, وإذا نظرت إلى حالنا لوجدت توافر جميع المؤهلات التي تجعل عملية التكتل متاحة.

كيف نصنف الصراع السني- الشيعي في المنطقة العربية؟

صراع مصنوع وقع فيه الطرفان, ففي شكله الراهن بين السنة والشيعة هو صناعة غربية بامتياز. مثلاً، لماذا ظهر الصراع السني- الشيعي بعد سقوط العراق؟ ولماذا لم يظهر قبله؟ ولماذا قسمت العراق إلى مناطق مذهبية وطائفية؟ فقد كان العراقيون يعيشون في سلام طوال مئات السنين. هنا تتجلى المؤامرة الكبرى التي يقودها الغرب لإشعال نار الفتنة بين أهل البلد الواحد لتدمير هذا البلد الغني, وبعد ذلك يتم نهب ثروات العراق بكل سهولة. للأسف، الغرب أعلم منا بتاريخنا وهو يلعب على تناقضات هذا التاريخ بإحياء ما يشعل الفتنة ويغذيها. فالغرب يعلم أن بلادنا غنية بثروات بترولية ومعدنية وبشرية ضخمة, لذلك يفتعل المشاكل والفتن, فتتم الدعوة إلى الانفصال أو التقسيم, كما حدث في السودان وما يحدث في سورية والعراق وليبيا الآن.

لكن يعتبر البعض أن التعددية المذهبية سمحت لمزيد من الفرقة بين المسلمين.

أرفض مصطلح التعددية المذهبية, فلا خلافات مذهبية حقيقية بين المسلمين, ولكن يمكن أن نطلق عليها التعددية الحزبية. والحمد لله، لم نشهد أي خلاف أو تصارع بين مذاهبنا السنية، الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية, وهذه المذاهب الفقهية هي صورة محمودة ومطلوبة للتيسير على المسلمين. أما فكرة الأحزاب السياسية على أسس دينية تحتكر الحديث باسم الإسلام في مجال السياسة فهي الدمار الأكبر للدين والسياسة لأنها تخلط بين الاثنين، وهي في مجملها أحزاب هدامة.

هل ينطبق هذا الحديث على مواجهة الفتنة الطائفية في مجتمعاتنا؟

بالتأكيد، فاللعب على وتر الفتنة الطائفية بين المسلم وبين الآخر، سواء كان مسيحياً كما هي الحال في عالمنا العربي، أو هندوسياً كما في الهند، محاولات غربية لإثارة النعرات الطائفية داخل المجتمع الواحد، فمقابل ارتفاع النعرات الطائفية خفتت الأصوات المنادية بوحدة الصفوف تحت شعار أمة واحدة وشعب واحد ورب واحد. وأعتقد أن أولى خطوات ضرب وحدة العرب كانت بتقسيم العالم العربي إلى دول كل منها لديه جنسيته الخاصة، فهذا سوري وذلك مصري وذاك قطري إلخ... فضلاً عن أن الحدود الجغرافية التي وضعها المحتل الأوروبي بين بلداننا لأجل ضمان عدم وحدتنا بعد رحيله، قررنا نحن بعد الاستقلال الإبقاء عليها، فهذه العوامل مجتمعة شكلت منظومة الغرب في تفتيت وحدة المجتمع العربي، وللأسف نحن ساعدناه في ذلك إما عن غفلة أو بتواطؤ البعض.

لماذا وصم مؤرخو السلطة كل حركة اجتماعية بالفتنة وحاربوها؟

بسبب قربهم من السلطان, تعبِّر كتابات مؤرخي السلطة عن أفكار الحاكم, لأجل التقرب إليه واستمالته, لذا أصبحوا ناقلين لكلامه ويمجدون أفعاله وقراراته، ويصلون في كتاباتهم أحياناً إلى مرتبة تقديس الحاكم. ليس لهؤلاء التأثير الطاغي كما يعتقد البعض, حتى لو أنهم يملكون أدوات الاتصال أو الكتابة أو التأثير، فمعرفة الحقيقة باتت أيسر الآن مع ثورة الاتصالات. لكن مسلك رجال السلطان تجد ما يماثله في رهط من علماء يرفضون التجديد في المسائل الفقهية ويتمسكون بالقديم لأنه قديم، فقد حصر هؤلاء أنفسهم في قضايا فقهية قديمة لا تناسب العصر, لذلك يشككون في التجديد باعتباره سيضر بالفقه وصحيح الدين على حد زعمهم, وهذا أمر يدل على الفهم القاصر لحقيقة الدين الإسلامي القائم على اليسر لا العسر.

أطالب بأن يكون لكل دولة إسلامية مجمع فقهي رسمي يتولى إدارة الفتوى والمسائل المتعلقة بأمور الفقه، على غرار مجمع الفقه في المملكة العربية السعودية, شريطة أن يقوم على خدمة هذا المجمع علماء أجلاء لمحاربة الفكر المتشدد.

ركّز بعض المستشرقين دراساته على الفتنة في الإسلام، هل كان هذا لأجل البحث أم لأغراض أخرى؟

يتبع المستشرقون منهجية غاية في الذكاء, فالمستشرق عالم يأتي في ثوب الباحث النزيه, فيبدأ عمله بمعايشة المجتمع الإسلامي في إحدى الدول الإسلامية، لمعرفة حياتنا وطبيعتنا وتقاليدنا, ثم نقلها إلى بلده, ويبيِّن لحكامه وساسته طبيعة الشعوب العربية, مدى ثقافتها وخبراتها, مراكز القوة والضعف فيها, جهلها وثرواتها, طريقة الدخول إليها وكيفية اختراقها. هذا لا ينفي طبعاً أن بعض المستشرقين منصفاً للحضارة الإسلامية، لكن الاستخدام السياسي للاستشراق هو الغالب.

كيف نبني مجتمعاً إسلامياً لا يعرف الفتنة؟

تشكيل أي مجتمع يبدأ من الطفولة داخل الأسرة باعتبارها الحاضنة الأولى التي يتعلم فيها الطفل أبجديات الحياة, لذا يجب على الأب والأم تربية طفلهما على الصدق, لأن الكذب أساس شرور الفتنة. والتربية في الصغر تأخذ الشكل التدريجي الذي يراعي عمر الطفل، وزرع القيم النبيلة في نفسه أمر ضروري لوأد فكر الفتنة والاحتراب الأهلي. مثلاً، لا بد من محاربة عادات ضارة كالتجسس وإشاعة الأخبار الكاذبة والنميمة، فالتنشئة السليمة القائمة على المبادئ الإسلامية الرشيدة هي الضمانة الحقيقية لمحاربة الفتنة والتخلص منها، كذلك لا بد من إقامة نظام سياسي عادل يساوي بين جميع المواطنين ويعلي من شأن الكفاءة ويبعد عن الاعتماد على أهل الثقة، لأنه قلما تزور الفتنة المجتمعات التي تتبع قيم العدالة الاجتماعية والمساواة.

في سطور

ولد سعيد مغاوري محمد في عام 1956 في مدينة «زفتى» المصرية، حصل على درجة الماجستير من جامعة «القاهرة»، وعنوانها «الكتابة العربية في مصر في ضوء البرديات العربية والنقود الإسلامية»، ثم الدكتوراه من الجامعة ذاتها وموضوعها: «الألقاب وأسماء الحرف والوظائف في ضوء البرديات العربية»، ليدشن نفسه كأحد الخبراء في دراسة البرديات العربية على مستوى العالم.

درَّس مغاوري في جامعات عربية، وتولى عمادة كلية السياحة والفنادق جامعة المنوفية، ثم كلية السياحة والفنادق في العريش، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2012، فضلاً عن أنه رئيس لجنة البرديات في المجلس الأعلى للآثار، والمشرف على البرديات العربية في دار الكتب المصرية.

للمغاوري مؤلفات عدة تغطي جوانب الحضارة الإسلامية المختلفة، من بينها: «البرديات العربية في مصر الإسلامية»، «فهرس البرديات العربية بدار الكتب المصرية»، «بحوث ودراسات في البرديات العربية»، «أضواء على آثار وحضارة مصر في العصر الإسلامي»، و»قبس من التراث والحضارة الإسلامية».

back to top