بابا أمين

نشر في 21-07-2014
آخر تحديث 21-07-2014 | 00:01
 مجدي الطيب يضطر المخرج في مقتبل حياته إلى التنازل عن بعض أفكاره غالباً، وجزء من طموحاته، لأجل الفوز بفرصة تقديم نفسه للمرة الأولى إلى الساحة الفنية والجمهور، وبعد أن ينتزع الفرصة ويحقق الهدف، يفرض أسلوبه بعيداً عن سطوة المنتجين، وهيمنة السوق.

هكذا فعل خيري بشارة في {الأقدار الدامية}، محمد خان في {الرغبة} وعاطف الطيب في {الغيرة القاتلة}، وكثيرون غيرهم. وأزعم أن يوسف شاهين فعل الأمر نفسه في تجربته الأولى {بابا أمين}؛ فالفيلم،الذي أخرجه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، يحمل بذور التمرد الذي أطل برأسه في {السينما الشاهينية}، كما عرفناها في ما بعد، لكنه لم ينفصل كثيراً عن السينما السائدة في تلك الفترة (1950)؛ حيث الأغاني المُقحمة (ثلاث)، والرسالة الأخلاقية ذات النبرة الخطابية، فضلاً عن النهاية السعيدة، التي ينتصر فيها الخير على الشر، ويلتئم شمل الأهل والأحباب!

على الوجه الآخر، لا يمكن لقارئ فيلم {بابا أمين} أن يتجاهل بصمة يوسف شاهين، الذي كان يحلو للبعض، في ما بعد، اتهامه بالجنون؛ فالخيال الجامح موجود، كذلك زوايا التصوير غير التقليدية، وحبه للاستعانة بأبناء الجنوب (طفل نوبي) ولعثمة الممثلين (كمال الشناوي) والتعرض لما يجري في كواليس الفن، وازدراء الناس للمشتغلين به؛ فالمغنية تخشى رد فعل أهالي الحارة التي تعيش فيها فتزعم أنها ممرضة، والأب يتوجس خيفة لأن ابنته ستعمل في {تياترو}!

انطلق يوسف شاهين في {بابا أمين} من منطقة {الفانتازيا} غير المأهولة في تلك الحقبة؛ حيث تدور الأحداث حول {أمين} (حسين رياض) الذي قاده جشعه ونهمه للمال إلى التورط في مشروع وهمي اقترحه عليه صديقه {مبروك} (حسن كامل)، بعد أن أغراه بأرباح طائلة (على غرار ما رأيناه في ما بعد على أيدي شركات توظيف الأموال)، لكن الموت يُغيب {أمين} من دون أن يحصل على الإيصال الذي يضمن حقه لدى صديقه، وتتورط العائلة المكونة من الأم {زهيرة} (ماري منيب) والابنة {هدى} (فاتن حمامة) والابن الصغير {نبيل} (الطفل عصام) في متاعب لا حصر لها مع المقاول، الذي ينتظر قسط البيت الذي بناه، وأعباء المعيشة اليومية لأسرة من دون عائل، والذئاب التي تتربص بالفتاة الناضجة أملاً في الإيقاع بها!

حبكة ميلودرامية تقليدية في حال نظرنا إليها بهذه الصورة، لكن يوسف شاهين، الذي كتب القصة وأسند كتابة السيناريو إلى حسين حلمي المهندس والحوار إلى علي الزرقاني، نسف التوقعات من خلال رؤية خيالية ممتعة غادر فيها الأب {أمين} السماء ليرصد عن قرب ما أصاب أفراد عائلته على الأرض، وسعى جاهداً إلى الحيلولة بينهم والوقوع في براثن الأشرار؛ مثل {رشدي} (فريد شوقي) صاحب {التياترو} الذي أغوى {هدى}، و}مبروك} الذي خان الصداقة وأخفى أمر المبلغ الذي تسلمه، والمقاول الذي هدد بالحجز على البيت في حال عدم سداد القسط الأخير، ما دفع الأم إلى بيع قطع الأثاث، لكن نظراً إلى أن {أمين} غير مرئي فالأزمة تتفاقم، ويعجز عن إيقاف الكوارث التي تسقط على عائلته، ويلقي باللائمة على نفسه، كون الجشع أعماه عن الحقيقة، ولم تتسم قراراته بشيء من تحمل المسؤولية!

في تلك اللحظة التي يتطهر فيها «أمين» من آثامه وأخطائه في حق نفسه وأهله، يطرح «شاهين» الحل الدرامي العبقري، حسب مقاييس تلك الفترة، بعد أن يكتشف البطل، ونحن معه، أن كل ما رآه مجرد «كابوس»، وفور أن يستيقظ من نومه يعود إلى صوابه، كما يعيد رسم حاضر العائلة ومستقبلها، التي تتملكها الدهشة لما أصابه من تغيير، لكن صورة أبيه على جدار الغرفة وهو يغمز له (يُحركَ حَاجِبِه مَعَ عَيْنهِ) تثير خوفه، وتستدعي قلقه خشية أن تخبئ له الأقدار أمراً جديداً!

أحسن {الشاب} يوسف شاهين توظيف ممثليه كلٌ في الدور المناسب، وحطم الأعراف المتبعة في سينما تلك الفترة عندما نصَب المخضرم حسين رياض بطلاً للفيلم، وليس فاتن حمامة أو كمال الشناوي، وفاجأنا، في هذا الوقت المبكر، بتقنية اللقطة الواحدة One Shot، لكنه عجز عن إتقان الحيل المعملية؛ خصوصاً في اللقطات التي تجمع حسين رياض مع أبيه، رغم النتيجة المبهرة التي وصل إليها المخرج نيازي مصطفى قبله بست سنوات في فيلم {طاقية الإخفاء}. ولا أدري لماذا اختار أن تجري الأحداث في شهر رمضان، وليلة القدر، من دون أن يرصد طقوس هذا الشهر، ويتجاهل حقيقة مهمة تتمثل في أن الملاهي الليلية تُغلق أبوابها طوال أيام الشهر الفضيل، ومن ثم فالقول إن {هدى} وقعت في براثن {رشدي}  صاحب {جوكي كلوب} يعكس عدم إلمامه بالتقاليد المعمول بها، في حين جاء حوار علي الزرقاني مغلفاً بكثير من الجرأة والطرافة! 

back to top