ألمانيا... هل تختار الولايات المتحدة أم روسيا حليفاً؟ (2-2)

نشر في 16-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 16-07-2014 | 00:02
طوال عقود، بقيت مكانة ألمانيا في الغرب واضحة. لكن بعد تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية عليها ووقوع فضائح سياسية أخرى، يريد عدد كبير من الألمان أن يصبح بلدهم أقل تبعيّة للولايات المتحدة. لكن هل يعني ذلك التقرب من موسكو؟ “شبيغل” بحثت عن إجابة.
على عكس السفارة الأميركية المحصّنة، تعكس السفارة الروسية وطناً يجتاحه الحنين: حنين إلى العظمة، حنين إلى كسب الاحترام والإعجاب، حنين إلى إرضاء وإقناع الآخرين. لكنه وطن لا يحتاج إلى الأمن على ما يبدو.

كل من يصل إلى السفارة الروسية يكتفي بِرنّ جرس الباب وقول اسمه. سرعان ما يُفتَح الباب ويُسمَح للزائر بدخول المبنى. ما من نظام للتحقق من الهوية وما من حواجز أمنية ولا يتم تفتيش الحقائب. لا يُطلَب من الزوار أن يتركوا هواتفهم الخلوية وأجهزة التسجيل وسكاكين الجيب في مكتب الاستقبال. قد يعتبر البعض أن عمليات التفتيش الأمني مؤشر على انعدام الثقة في الزوار، وسيكون هذا السلوك غير لائق.

المساحة الداخلية شاسعة وفارغة، تماماً مثل روسيا. تتولى موظفة مرافقة الزوار إلى الطابق الأعلى عبر درج رخامي أسود ضخم كان المارشال الفنلندي كارل غوستاف مانهايم قد منحه لهتلر كي يُستعمَل في نصب النصر في موسكو. يتردد صدى الأصوات في القاعة التي تشبه بقبّتها الكاتدرائية، ويتسلل ضوء النهار عبر الفسيفساء الزجاجية التي ترصد برج «سباسكايا» التابع للكرملين. كل شيء ضخم وقاتم بعض الشيء، وهذا النوع من الهندسة يعطي الزوار انطباعاً بأنهم وسط أجواء دينية.

خرج السفير فلاديمير ميخائيلوفيتش غرينين لمقابلة ضيوفه في قاعة ضخمة. كانت الغرف مزينة بخشب ثمين ومواد ثقيلة وثريات مدهشة (تقليدية لكن راقية).

يرحب غرينين بضيوفه باللغة الألمانية التي لا تخلو من لكنة روسية خفيفة لأن الألمانية ليست لغته الأم. يجسد علاقة وثيقة بين ألمانيا وروسيا وقد تكلم عنها خلال محادثتنا. حارب أب غرينين ووالد زوجته على الجبهة خلال الحرب العالمية الثانية. إنه ثالث منصب دبلوماسي يتولاه في ألمانيا. كان متواجداً في بون خلال السبعينيات وفي شرق برلين خلال الفترة التي مهدت لسقوط جدار برلين. يعرف ألمانيا جيداً وقد أغفل عن سلوكيات بعض السياسيين البارزين اليوم، طوال عقود في بعض الحالات. يقول: «ألمانيا هي أقرب إلى الروس من أي دولة أخرى في أوروبا».

بالنسبة إليه، ما من تناقض بين الشرق والغرب. يقول إن العلاقة بين روسيا والغرب أشبه بمثلث يتألف من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي. كذلك يعتبر أن الاتحاد الأوروبي يتألف بشكل أساسي من ألمانيا. يقول غرينين: «من الإيجابي أن يستعمل الألمان موقعهم المميز لإرساء تفاهم أكبر داخل المثلث». يجب أن تؤدي ألمانيا دور الوساطة كونها تفهم الروس والأميركيين أكثر من أي طرف آخر، وذلك لضمان أن «يجد الجميع لغة مشتركة».

لا لحرب جديدة مع روسيا

اعتبر غيرهارد شرودر خلال عهده أن هذا الدور هو مصير ألمانيا. كان يظن أن موقع البلد الجغرافي في قلب أوروبا يمنحه مسؤولية خاصة. يقول العالِم السياسي هيرفريد مونكلر: «لطالما كانت ألمانيا مع الطرفين، بما أنها تقع في وسط أوروبا. ولطالما كانت مهمتها تقضي بتجاوز التوتر الحضاري في أوروبا».

بالنسبة إلى عدد كبير من الألمان، تُعتبر العلاقة الوثيقة التي يتحدث عنها السفير غرينين مع روسيا جزءاً من الهوية التي تطورت مع مرور الوقت، ولا يقتصر الأمر على الجزء الشرقي من البلد. أصبحت عبارة «لا لحرب جديدة» جزءاً من الحمض النووي الألماني. لكن ثمة نسخة أخرى من هذه العبارة: «لا لحرب جديدة مع روسيا». لكنّ نجاح الألمان في فهم الروس لا يشتق بكل بساطة من المقاربة السلمية الشاملة أو نفور ألمانيا من الصراعات بعد عام 1945.

ينظم نادي الرقص، «الديسكو الروسي»، الواقع في مقاطعة ميتي في برلين منذ 15 عاماً حدثاً صاخباً حيث تُقدَّم المشروبات مجاناً. مؤسّس النادي الكاتب فلاديمير كامينر الذي حقق أعلى المبيعات، وهو يؤلف كتباً فكاهية عن ألمانيا من وجهة نظر شخص أجنبي. كان يتناول السلطة مع لحم الماعز في ذلك اليوم وأكد على أن روسيا لطالما كانت حلماً بالنسبة إلى الألمان.

ثم اقتبس كلام المؤرخ الألماني كارل شلوغل الذي قال: «الألمان يرون جانباً روحانياً في المشهد السيبيري»، معتبراً أن كلمات شلوغل فيها شيء من الواقع. يسأل كامينر مبتسماً: لماذا تبث شبكات التلفزة الألمانية قصصاً كثيرة من سيبيريا كل سنة بعد عيد الميلاد؟ وفق كامينر، لا يخصص أي بلد آخر في العالم هذه المساحة من التغطية التلفزيونية لسيبيريا بقدر ألمانيا.

جاء كامينر إلى برلين من موسكو في عام 1990 وكان حينها في الثالثة والعشرين من عمره وأقام هناك. حصدت كتبه شعبية واسعة لأنه يجيد الغوص في عمق العلاقة الألمانية الروسية. صحيح أن أسلوبه في النثر يبدو أخرقاً على نحو طفولي، لكنه يبقى أذكى وأكثر تأثيراً من بعض الأطروحات الأكاديمية.

«بالنسبة إلى الألمان، الولايات المتحدة هي مصدر الشر ولا بد من مجابهتها. في المقابل، تشبه روسيا الأخ الأصغر للألمان ولا بد من تدليلها». يقول كامينر إن الألمان والروس «يتشاركون الكثير. لدينا تاريخ مشترك وقد ارتكبنا الأخطاء الفادحة نفسها مراراً وتكراراً». هو يشير إلى أن القيصر بطرس الأكبر طلب من الألمان مساعدة روسيا على تحديث نفسها: «ستتابع ألمانيا وروسيا الاعتماد على بعضهما».

انقسام في شأن روسيا

في السنوات الأخيرة، كان يسهل أن نصدّق حسن نوايا روسيا. لا سبب يدعو إلى الخوف: كانت ألمانيا تشعر بالامتنان بعد توحيد البلد، ثم توسعت روابطهما الاقتصادية، وبدا وكأنّ موسكو اندمجت ضمن البنى الغربية عبر مجموعة الثماني ومجلس «روسيا-حلف الأطلسي». ورغم مختلف المصاعب القائمة، بدا وكأن روسيا تسير نحو مستقبل ديمقراطي. ظن كثيرون أن الانقسامات داخل أوروبا تلاشت.

لكن جاءت الأزمة الأوكرانية لتشكك في كل شيء. صرحت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين حديثاً لصحيفة «شبيغل»: «في الوقت الراهن، روسيا ليست شريكة لنا». باتت برلين مضطرة الآن إلى بناء الجسور مع روسيا التي أصبحت مصدر خطاب قومي مُعادٍ للغرب وما عادت تتحمل الأقليات الوطنية والدينية والجنسية بل تتحرك بدافع الرغبة في استعادة هيبتها السابقة.

ينقسم الألمان في شأن علاقتهم مع روسيا. كل من لا يثق بروسيا يشعر الآن بأن موقفه مبرر، وكل من يتعاطف مع المواقف الروسية بدأ يدعو الآن إلى تفهّمها. في استطلاع «شبيغل»، أشار ثلاثة أرباع الألمان إلى أن ثقتهم في روسيا «تميل إلى التراجع». لكن اعتبر 40% من المشاركين أنهم يريدون أن تتعاون ألمانيا عن قرب مع روسيا مستقبلاً.

بالنسبة إلى السياسة الخارجية الألمانية التي كانت تتفاخر بتقرّبها المميز من روسيا، أصبحت سلوكيات موسكو غير متوقعة. لا أحد يعلم نوايا بوتين الحقيقية. هل يحاول منع حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي من التوسع شرقاً؟ أم أنه يريد أن يعيد بناء الاتحاد السوفياتي علماً أنه اعتبر انهياره في إحدى المناسبات «أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»؟

اتضحت معالم روسيا الجديدة والصعبة في برلين في منتصف شهر مايو حين حضر المسؤول الروسي فلاديمير ياكونين المقرّب من بوتين اجتماعاً للمنتدى الألماني الروسي (مجموعة ضغط تشبه «الجسر الأطلسي»).

حمل الحدث اسم «أوروبا: ضائعة في الترجمة؟». ياكونين هو رجل طويل وضخم ورأسه كبير. يعتبر نفسه ممثل النزعة القومية الروسية الجديدة. بدأ خطابه قائلاً: «أنا روسي وفخور بذلك». لكنّ القيم الغربية التي يريد أن تتقاسمها روسيا وأوروبا ليست من النوع التي تحبذها المجتمعات المسيحية المتحضّرة: معاداة الأميركيين، رهاب المثلية الجنسية، عقلية رجعية.

أضاف ساخراً: «الأميركيون لا يعلمون أين تقع شبه جزيرة القرم!». ثم دعا الأوروبيين إلى الانضمام إلى روسيا في معركة مشتركة ضد «الليبرالية التوتاليتارية». كذلك، تحدث ياكونين عن مسابقة الأغنية الأوروبية والمغنية النمساوية المتحولة جنسياً كونشيتا ورست التي فازت بالمسابقة لعام 2014: «جوهر الديمقراطية ليس امرأة ملتحية بل حكم الشعب».

هل يمكن أن تصبح روسيا ديمقراطية؟ هذا السؤال يبقى مطروحاً ولو بشكل ضمني حين تفكر ألمانيا بعلاقتها مع موسكو. في السنوات الأخيرة، لم يجذب أي تصريح انتباهاً أكثر من توصيف المستشار السابق شرودر لبوتين بـ«الديمقراطي المثالي»، فأنكر بذلك ميوله الاستبدادية. يُقال أيضاً إن الألمان الذين يؤيدون روسيا لديهم ميول استبدادية. في مقالة نُشرت في صحيفة «شبيغل»، ذهب المؤرخ هاينريش أوغست وينكلر إلى حد اتهامهم بأنهم يشبهون بعقليتهم النازيين ورئيس حملتهم السياسية جوزيف غوبلز.

حذر عالم الاجتماع والفيلسوف يورغن هابرماس حديثاً من أن ألمانيا بدأت تنزلق مجدداً نحو «موقع خطير وشبه تسلّطي». لكنّ مخاوفه ليست مبررة. لا داعي كي تخاف ألمانيا من نفسها بعد الآن. وفق الاستطلاعات الدولية، يعتبر كثيرون الآن أن ألمانيا هي الدولة الأكثر شعبية في العالم. وثمة إجماع شبه تام في الخارج على دعوة ألمانيا إلى تحمّل مسؤوليات إضافية. خلال أزمة اليورو، تحملت ألمانيا العبء الأكبر في السياسة المالية والاقتصادية، وكأي قوة رائدة، تعرضت للهجوم بسبب ما فعلته. إنه أمر متوقع في ظل الظروف السائدة.

لن يكون الانسلاخ من التحالف الغربي خياراً وارداً بالنسبة إلى ألمانيا. كان انتساب ألمانيا إلى حلف الأطلسي كفيلاً بتوفير الأمن والسلام لأكثر من نصف قرن، ويبدو أن ثلاثة أرباع الألمان باتوا مقتنعين بأهمية ذلك التحالف الآن وقد انتهت الحرب الباردة. لا يشكك معظم الألمان بروابط بلدهم مع الغرب.

دور ألماني مميز

يمكن أن تخفف ألمانيا اعتمادها على الولايات المتحدة. كان رفض شرودر التورط في حرب العراق قراراً صائباً: كان ذلك الموقف مؤشراً على عدم استعداد ألمانيا، رغم التزامها بتحالفاتها، للمشاركة في سياسة مضلِّلة ترتكز على الأكاذيب، وهي التي أغرقت البلد كله في الفوضى كما أصبح واضحاً اليوم. تخلى أوباما عن سياسة الحرب التي طبّقها بوش، لكنه لم يغير أساليب جمع المعلومات الاستخبارية.

يمكن أن توضح ميركل صراحةً للولايات المتحدة أنها ليست مستعدة لتقبّل مؤامرات وكالة الأمن القومي. حتى الآن، لم تؤثر التحذيرات الخفيفة التي أطلقتها المستشارة الألمانية بأوباما، وقد اتضح ذلك في أحدث فضيحة تجسس. لذا سيكون من المناسب منح حق اللجوء إلى المخبر إدوارد سنودن.

لكن سيحصل ذلك مقابل ثمن باهظ طبعاً. سيعني ذلك التحرك أن العلاقات مع واشنطن ستصبح باردة جداً لفترة. لكن لا يمكن ألا تنتقد ألمانيا سياسات بوتين إذا تحدثت عن شوائب التحالف الغربي. في الوقت الراهن، يشتق جزء من التعاطف الألماني مع بوتين من الشعور بأن الولايات المتحدة ليست أفضل منه بكثير، بل إنها مستعدة لانتهاك القانون الدولي لتحقيق غاياتها السياسية.

بدأت ألمانيا مساراً جديداً خلال العشرين سنة الماضية. لكنها لم تعد تستطيع الاختباء وراء الآخرين. بل يمكن أن تقود ألمانيا أوروبا كي تؤدي دوراً سياسياً مستقلاً. ويجب أن تكون قدوة لروسيا من خلال رغبتها في أن تصبح جزءاً من الغرب. لكن يجب أن ترسم حدوداً واضحة أيضاً إذا استعملت موسكو العنف مجدداً كأداة سياسية لتهديد الحلفاء. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، قد لا تكون ألمانيا التي تضطلع بهذا الدور شريكة مناسبة. لكنها تبقى في النهاية مصدر ارتياح لها.

ألمانيا... هل تختار الولايات المتحدة أم روسيا حليفاً؟ (1-2)

back to top