مديحة يسري... سمراء النيل: أحمد سالم طاردني على شط إسكندرية (13)

نشر في 11-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 11-07-2014 | 00:02
وصلت علاقة الإعجاب بين الفنانة القديرة مديحة يسري، والنجم المحبوب في الأربعينيات من القرن الماضي، أحمد سالم، إلى مساحة من القلق، لم تعد تستطيع معها أن تخفي مشاعرها، ولم تتمكن بسببها من إعلان حبها للناس، فبقيت في منطقة رمادية، يطاردها فيها الحب، الذي تتمناه، رغم أنها دائمة الهروب منه.
مع الحب لا وجود لكلمة {لماذا} فقط كلمة {لأن}، المؤكد أن الحب لا يحتاج إلى مبررات ولا تفلح معه كل محاولات القمع والحصار التي قد نمارسها بأنفسنا قبل أن نرفع الراية ونستسلم.

{يا سلام لو نفضل كده علطول}...

انتبهت على صوته، لم تفهم هل كان يحدثها هي أم ينهي حواراً مع آخر قبل أن يدخل إلى المسرح، تلفتت حولها فلم تجد في المحيط غيرهما، فيما المصور ومساعده انتحيا جانباً خلف الكاميرا ينتظران إشارة البدء لتصوير أصعب مشهد في الفيلم، بل الأكثر صعوبة...

كان يقترب منها فيما نبضات قلبها كانت تتصاعد بقوة حتى خشيت أن يسمعها، فجأة التقط يدها بين يديه وجذبها نحوه، ثم همس في أذنها {أنت ساكته ليه؟}.

تلعثمت... فما قاله سالم كان {خارج النص}، وقبل أن تهم بسؤاله عن سر اقترابه منها على هذا النحو، أو أن حواره معها على عكس ما خطط له وتدربت عليه معه قبل دقائق، فوجئت به يدنو منها أكثر ليلتقط شفتيها بين شفتيه.

لم تفهم مديحة كم من الوقت استغرقته القبلة، أو من قال {استوب} إيذانا بانتهاء التصوير، أو كيف تم تصويرها أصلا ومن أي الزوايا، فهي لم تتحرك من مكانها كما طلب منها سلفاً، ولم تقل الحوار المطلوب قبلها، فقط غابت عن الوعي لدقائق لا تعرف عددها، فيما الكثير من المشاعر والأحاسيس التي لم تعهدها اقتحمتها قبل أن تجتهد ألا تتلاقى عيناها بسالم، ليس فقط في هذا اليوم، ولكن لأيام تالية.

ومن دون أن تدري وجدت مديحة نفسها تقارن بين قبلتها السينمائية الأولى مع زوجها السابق محمد أمين، وهذه القبلة التي جمعتها بالدونجوان، تأكدت أن هروبها السابق في أعقاب {القبلة الأولى} لم يكن إلا خجلاً، فيما هذه المرة كانت القبلة أقرب إلى حلم جميل تمنت ألا ينتهي وأن يطول ويطول، أدركت وبما لا يدع مجالاً للشك أن ما عاشته من مشاعر مع زوجها الأول المطرب محمد أمين يختلف تماماً عما تستشعره الآن.

أيقنت أنها في المرة الأولى كانت تحب الحب، رأت في زواجها من أمين فرصة ذهبية قدمت لها على طبق من ذهب، لتضمن لها العمل بحرية في الفن الذي عشقته، لذا رحبت ولم تمانع. أما هذه المرة فلا يمكنها إنكار ما شعرت به، إذ فجأة ذاب الزمان والمكان في لحظة، شعرت وكأنها استعادت طفولتها بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق. باختصار، كانت أشبه بمن تعرض لحالة {اختطاف} لم تعهدها، بل استسلمت لها بوعي ويقين والأهم بحب.

خضوع واقتراب

على الجانب الآخر، كان الشاب الوسيم أيضاً يتأمل مشاعره نحو السمراء الفاتنة، لم يكن بحاجة إلى أن يدخلها في مقارنات مع تجارب سابقة كما فعلت هي، أو البحث في مدى جديتها، مع الأيام كان يتأكد من صدقها ووضوحها، ورغم هذا كان يتراجع عن البوح بمشاعره في اللحظات الأخيرة حتى يتأكد من أن السمراء الفاتنة تبادله المشاعر نفسها.

بتعبير أوضح حسمت «القبلة» هواجسه وأكدت له ما كان يتمناه ويحلم به، وأن محاولات مديحة للابتعاد عنه ليست إلا رد فعل طبيعي لكونها خارجة للتو من تجربة زواج فاشلة، ومن ثم فضلت أن تمنح مشاعرها فرصة لتهدأ. وربما أيضاً تخوفت منه لكونه هو أيضاً كان أنهى علاقة زواج لم تستمر طويلاً. المؤكد أنه أصبح على يقين من أنها تبادله ذات المشاعر، فما قالته عيناها ونبضات قلبها وإحساسها عندما تلامست شفتاهما كان حاسماً قاطعاً.

وعلى طريقة طرق الحديد وهو ساخن، قرر سالم ألا يضيع لحظة قادمة لا يعبر فيها عن حبه لمديحة، كان مهموماً بأن يرسل إليها رسائل طمأنة تزيح عن ذاكرتها فكرة «الدونجوان» والتي ألمحت إليها أكثر من مرة في حوارات سابقة، كذلك بدأ يقتنص أي فرصة ليؤكد لها أن ما بينهما ليس زمالة ولا صداقة ولكنه حب جارف وحقيقي، ورغبة أكيدة في الاقتران بها، كان يشعر أنها هدية ربانية منحها له القدر ليستكمل معها ما تبقى من أيامه.

سالم: إيه رأيك يا مديحة أنا ومجموعة من الأصدقاء حنروح نقضي يومين في «أوبرج الفيوم»، إيه رأيك تيجي معانا؟

مديحة: طيب والتصوير؟

سالم ضاحكاً: أنت ناسيه أني أنا المخرج والمنتج ولا إيه؟ يعني لما أقول نأخد إجازة الكل يقول «علم و ينفذ».

ضحكت مديحة قائلة: طيب مسموح لي أعرف مين الأصدقاء اللي طالعين؟

سالم مبتسماً: مفيش حد غريب، كلهم تقريباً تعرفيهم هاجر حمدي، (راقصة وممثلة لمعت في سينما الأربعينيات قبل أن تتزوج من الفنان كمال الشناوي وتنجب له ابنه الوحيد) وفؤاد شفيق (شقيق الفنان حسين رياض الذي اشتهر كممثل مسرحي قبل أن ينتقل إلى السينما)، أحمد سامي (أشهر أدواره بائع الفول في فيلم «الكيت كات»)، وروحية خالد (كانت أول زوجات المخرج أحمد بدرخان ومن أبرز نجمات مسرح يوسف وهبي)، والفنان محسن سرحان وتحية كاريوكا.

بدهشة سألته: تحية؟

ابتسم قائلاً: على فكرة تحية ست جدعة جداً وكانت صديقتي قبل الجواز، وحتفضل برضه صديقتي، إحنا زي ما اتجوزنا في هدوء، برضه انفصلنا في هدوء وحيفضل بينا الاحترام والود.

مشاعر

سافرت مديحة مع سالم ومجموعة الأصدقاء إلى أوبرج الفيوم، الذي شيد عام 1937 على بعد نحو 70 كيلومتراً جنوب غربي العاصمة  المصرية القاهرة، وهو يطل على بحيرة قارون، وقد استخدمه الملك فاروق كاستراحة شتوية يمارس فيها هواية صيد الأسماك، نظراً إلى موقعه الفريد وجمال وهدوء الطبيعة من حوله، وبعد انتهاء عصر الملك ظل الأوبرج لسنوات عدة محطة الاستجمام الخاصة لكثير من الشخصيات والرموز السياسية والفنية. وبين جلسات السمر وصيد السمك والبط وحفلات الشواء والرقص على نغمات الموسيقى الساحرة، انتهت سريعاً الإجازة التي كانت مديحة تحلم بأن تمتد إلى أيام أخرى.

في الرحلة كان سالم حريصاً على الاهتمام بمديحة بما لا تخطئه عين، وبصورة تظهر الاختلاف في علاقته بها وعلاقته بالأخريات. مثلاً، كان حريصاً على أن يجلس دوماً إلى جوارها، أو أن تركب إلى جواره في سيارته، فضلاً عن مد حبل الحوار معها، والاطمئنان إلى أنها تناولت الطعام، و... صحيح كان سالم كعادته ودوداً مع الجميع، إلا أنه كان حريصاً على منح مديحة خصوصية ما لفتت بالتأكيد أنظار الجميع  وأكدت لهم أن ثمة المشاعر تولدت بين السمراء الفاتنة والدونجوان.

هاجر: واضح إن أحمد سالم مهتم بيك جدا يا مديحة؟

مديحة باستنكار: أنا؟

هاجر بحسم: أيوه، أنت مش واخده بالك ولا إيه؟

مديحة: لا أبدا... بيعاملني زي أي حد، ليه بتقولي كده.

ضحكت هاجر وواصلت: يا مديحة ده كلنا ملاحظين كده مش أنا بس، عموماً أحمد ابن حلال وأنت كمان، ربنا يسعدكم.

شعرت مديحة بإحراج وخجل رهيب من كلمات هاجر، وباتت تتخيل أن نظرات الجميع تحاصرها، خصوصاً كلما تحدث إليها سالم أو جلس إلى جوارها.

الإحساس نفسه تملكها بعد عودتها من الرحلة، شعرت أنها تحت المجهر، وأن كل العاملين في البلاتوه يتهامسون في ما بينهم حول علاقتها بسالم، الأمر الذي بات يهدد سمعتها ويجعلها بطلة جلسات النميمة في الوسط الفني، وهو ما لم تكن تحبه ولا ترضاه لنفسها.

 لذا بدأت مديحة تحرص على الجلوس في حجرتها أطول وقت ممكن، تقتصر في حوارها معه، تختفي من البلاتوه فور انتهاء التصوير، تعتذر لسالم عن مشاركته حضور أي حفلات أو سهرات مبررة ذلك بأعذار مختلفة، ما أثار استغراب سالم فسألها:

سالم: مالك يا مديحة؟ بقالك فترة متغيرة من ساعة ما رجعنا من الفيوم، في حاجة حصلت مضايقاك؟

مديحة: لا أبدا مفيش حاجة.

سالم بإصرار: بس أنا حاسس أنك متغيرة، أرجوك متخبيش عني.

صمتت مديحة ولم ترد عليه، لم تعرف هل تبوح له بما يجول في خاطرها وأحساسها بأنها باتت حديث الوسط الفني بسبب علاقتها بسالم، أم تتجاهل ذلك تماماً وتبرر ابتعادها عنه بأسباب أخرى، كانت تخشى أن تجرحه بكلماتها وربما يتصور أنها تورطه في علاقة ما، خصوصاً أنها لم تكن متأكدة من حقيقة مشاعره تجاهها، ربما كانت تتمنى ولكنها لم تملك الحقيقة بعد، وأمام حصاره لها بررت انصرافها عنه لانشغالها بقراءة سيناريوهات جديدة لم تحسم قرارها في شأنها.

 خطة

تكرر هروب مديحة واعتذارها، ليس فحسب عن المشاركة في أي سهرات فنية يدعوها إليها سالم، أو أخرى تدعى إليها، بل أيضاً كانت تعتذر عن مشاركة أبطال الفيلم تجمعاتهم، الأمر الذي أثار استغراب الجميع نظراً إلى ما عرف عنها من تمتعها بروح ودودة وأنها شخصية اجتماعية جداً، ما دفع الفنان بشارة واكيم والذي كان يشاركها بطولة «رجل المستقبل» إلى أن يفاتحها في سر عزوفها عن الجميع. كان بشارة ممثلاً ومخرجاً ويعد أحد رواد الكوميديا في مصر، بدأ عمله عضواً في فرقة عبد الرحمن رشدي، ثم عضواً في فرقة جورج أبيض ثم فرقة رمسيس مع الفنان المصري يوسف وهبي ثم كون فرقة في ما بعد، كما كان من أوائل الذين شاركوا في التجارب الأولى للسينما حين شارك أمين عطا الله في بطولة فيلم الباشكاتب عام 1923، وعام 1934 أنتج بشارة ومثَّل أول أفلامه «ابن الشعب».

بشارة: أنت ليه مش بتشاركينا يا مديحة زي الأول؟

مديحة: مش بشارككم في إيه يا أستاذ بشارة؟

بشارة: دايماً قاعدة في أوضتك ومش بتشاركيني حتى الغداء، هو إحنا مزعلينك في حاجة؟

مديحة: لا أبداً يا أستاذ أنا مقدرش أزعل منكم أبداً، أنت عارف أنا بحب الناس قد إيه وبحترم الجميع.

واصل بشارة حصارها قائلاً: أنت زعلانة من سالم في حاجة؟

مديحة: لا أبداً، بالعكس أنا بحترمه وبقدره وبعزه جداً.

بخبث سألها بشارة: معزه فقط.

ارتبكت مديحة وقالت: أيوه طبعاً بعزكم كلكم ومش سالم بس.

ضحك بشارة قائلا: ومالك متوترة كده، أكيد طبعاً بتعزينا كلنا بس أكيد مش زي بعض.

مديحة بمزيد من الارتباك والاستغراب: تقصد إيه يا أستاذ بشارة أنا مش فاهمة.

واصل ضحكاته: لا أبداً مقصدش أي حاجة، حاولي بس متبعديش عننا وخليك معانا.

شكرته مديحة على اهتمامه بها وحرصه على أن تشاركهم دوماً لحظات الفرح، وأدركت أن ابتعادها بهذا الشكل أثار تساؤلات البعض أكثر من تواجدها وتعاملها بتلقائية، قررت أن تكسر حالة العزوف طوعاً واختياراً، وتتواجد وسط الجميع بشكل طبيعي كي لا تثير تساؤلات أكثر.

كانت إجازة عيد الأضحى على الأبواب وكان طبيعياً أن يتوقف التصوير لبضعة أيام.

سالم: كل سنة وأنت طيبة يا مديحة.

مديحة: وأنت طيب وعيد سعيد عليك.

سالم: ها حتقضي إجازة العيد فين؟

مديحة: طبعاً مع أهلي وصحباتي، أنت عارف الواحد منا مبيصدق ياخد إجازة علشان يقضيها مع أهله...

وأضافت وهي تضحك: فرصة طبعاً.

سالم في استسلام: آه طبعاً... بس كنت فاكر إن عندك خطط تانية، عموماً، إجازة سعيدة عليك وكل سنة وأنت طيبة.

مديحة: وأنت طيب.

لم تفهم مديحة لماذا أخفت عن سالم نيتها السفر إلى معشوقتها الإسكندرية في جزء من إجازتها، والأغرب أنها حزنت وندمت أيضاً لأنها لم تخبره بالحقيقة، وظلت مديحة حائرة لا تفهم سر ندمها وحزنها، وفي النهاية أرجعت الأمر إلى نظرة الحزن التي لمحتها في عيني سالم عندما أخبرته بخطتها في الإجازة، فربما كان يخطط لدعوتها لتمضية الإجازة على بحيرة قارون في الفيوم أو في الإسكندرية، خصوصاً أنه يعلم مدى عشقها لهذه المدينة الساحرة سواء صيفاً أو شتاءً.

كانت خطة مديحة تمضية الأيام الأولى فقط من الإجازة في صحبة عائلتها وأقاربها ومع صديقاتها أيضا، خصوصاً أن معظمهن تزوج وبات ترتيب لقاء يجمعهن مسألة ليست سهلة، لذا كانت تتحين دوماً الفرصة لرؤيتهن، وكالعادة كانت أحاديثهن تدور حول أعمال مديحة الفنية، وأهم أخبار النجوم آنذاك، خصوصاً «الدونجوان» الذي تشاركه السمراء أحدث أفلامه.

صديقة: احكي لنا بقى يا مديحة عن سالم.

صديقة أخرى: ياختي عليه... هو فعلا كده وسيم زي ما بنشوفه في الأفلام.

صديقة ثالثة: ألاصحيح الكلام اللي بنقراه عليكم ده يا مديحة؟

مديحة منزعجة: كلام أيه؟

الصديقة: في مجلة «الكواكب»، مجلة فنية أسبوعية مصرية صدر العدد الأول منها في 28 مارس 1932 - كاتبين أن بينكما قصة حب.

قاطعتها صديقة أخرى: خدي بالك يا مديحة ده بيقولوا عليه «زير نساء»، كل يوم بيعرف واحدة ويسيب التانية.

أزعجها كلام صديقاتها، وعبثاً حاولت إقناعهن بأن ما بينها وبين سالم مجرد زمالة تطورت إلى صداقة بريئة، ولكن في ما يبدو لم تستطع إقناعهن، ربما لأنها هي نفسها غير مقتنعة، ففي داخلها مشاعر وأحاسيس لا يمكنها تجاهلها، ولكنها فضلت ألا تبوح بها إلا بعد أن تتأكد منها، والأهم أن تطمئن إلى أنه إحساس سالم نفسه.

حزمت حقيبتها وانطلقت نحو أجمل مدينة، ومن دون تفكير طلبت من سائق السيارة الأجرة أن ينطلق بها نحو الفندق نفسه الذي أمضت فيه زيارتها الأخيرة.

وبينما موظف الاستقبال يرحب بها، فوجئت بصوته الدافئ يأتيها من الخلف مرحباً: حمد الله على السلامة... نورت إسكندرية... همت بالالتفات... فيما ضربات قلبها تتصاعد.

back to top