إنجيل فرانسيس

نشر في 25-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 25-04-2014 | 00:01
 بيتر ماكدونو إن المبادرات البابوية تخضع لقيود ثقافية ومؤسسية كبيرة، وفرانسيس هو الذي يحدد مدى هذه المبادرات، والواقع أن فرانسيس الذي وصف نفسها بأنه «ابن الكنيسة المطيع» من غير المرجح أن يفاجئ المؤمنين عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل الميول الجنسية ورسامة النساء في الكنيسة.

يُعَد البابا يوحنا الثالث والعشرون والبابا يوحنا بولس الثاني الثنائي المتنافر في الكاثوليكية الرومانية الحديثة، فيبدو أن يوحنا الثالث والعشرين العطوف الذي أراد التخفيف من جمود الكنيسة الضيقة الأفق، والمقاتل يوحنا بولس الثاني الذي ناضل لكبح جماح ما اعتبره تجاوزات المجمع الفاتيكاني الثاني الذي عقده يوحنا الثالث والعشرون، على طرفي النقيض إيديولوجيا، ورغم هذا فمن المقرر أن يطوب البابا فرانسيس الاثنين هذا الشهر، وهي خطوة مفاجئة قد تقدم لمحة من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها لمصلحة الكنيسة.

والمغزى الضمني الأكثر وضوحاً هنا هو أن البابا فرانسيس سئم الاستقطاب، ويأمل أن يساعد التطويب المزدوج في دفع التحول نحو كاثوليكية "الخيمة الكبيرة" التي تجتذب نطاقاً أوسع من الناس. ومن المؤكد أن فرانسيس في موقع قوي يسمح له بإطلاق مثل هذا التحول؛ فرأسماله السياسي مرتفع إلى حد غير عادي، بل يتفوق حتى على رأسمال الرئيس الأميركي باراك أوباما السياسي في أيامه المبكرة في منصبه، ويبدو أن الناس يقدرون له تفضيله للتعليم بالقدوة- وهو ما تجسد في تطويب النجمين المتنافسين في المجمع الفاتيكاني الثاني- وليس من خلال الرسائل البابوية.

ولكن هل تكون هذه الاستراتيجية كافية لإعادة الكاثوليك المرتدين إلى الحظيرة، أو لتضييق الفجوة بين المحافظ إلى حد كبير من قساوسة يوحنا بولس الثاني والكاثوليك الأكثر شباباً وليبرالية؟ وهل تتقبل العناصر المتمردة في المؤسسة الكَنَسية تغييرات فرانسيس بسهولة؟

كانت عملية التحديث التي بدأها يوحنا الثالث والعشرون متماشية مع حماسة وغليان أوائل ستينيات القرن العشرين، وكان يوحنا بولس الثاني ينظر إلى ولايته الطويلة من 1978 إلى 2005 باعتبارها تصحيحاً لمسار الرخصة الأخلاقية والتجريب الجنسي في عقد الستينيات. وقد وضع فرانسيس منصبه البابوي في إطار أشبه بتوليفه من هذا التوتر الجدلي.

حتى الآن، لم تشعل تصرفات فرانسيس شرارة ذلك النوع من الاستجابة القائمة على المواجهة أو التعبئة الجماهيرية الذي ارتبط غالباً بتغيير النظام في أشكال الحكم الاستبدادية، ولكن هذا لا يعني أنها ستكون مناورة سلسة، ذلك أن فرانسيس لا يزال يواجه قدراً واسع النطاق من عدم الاكتراث بين المؤمنين، خصوصاً في المجتمعات الصناعية المتقدمة، حيث يشكك الكاثوليك النافرون على نحو متزايد في الجدوى من التزامهم أو يختارون الانسحاب ببساطة. وفي حين يبدو أن أسلوب فرانسيس الهادئ المريح يساعد في إبطاء هذا التآكل، فإن قدرته على عكس هذا الاتجاه تظل غير مؤكدة على الإطلاق.

فبادئ ذي بدء، سوف يكون حشد التأييد لأجندة إيجابية أصعب من بناء التضامن من خلال معارضة الأعداء المفترضين، وبدلاً من توظيف الإدانات الكئيبة للنسبية والعلمانية والعدمية، وغير ذلك من المذاهب التي استخدمها يوحنا بولس الثاني وخلفه البابا بنيديكت السادس عشر لحشد قواعدهما، بادر فرانسيس إلى صياغة أجندة إيجابية تركز على العدالة الاجتماعية. ورغم أن المخاوف العالمية المتزايدة بشأن التفاوت في الدخل بين الناس أعطت دفعة لفرانسيس، فإن أجندته لم تخلف بعد تأثيراً ملموساً على صناع السياسات الكاثوليك من أمثال بول ريان وجون بونر من الجمهوريين في الكونغرس الأميركي أو الشخصيات القوية في الكنيسة.

والعقبة الثانية المحتملة التي تواجه فرانسيس هي أنه، مثل أسلافه، يروج لثورة من الأعلى، فإصلاحات المجمع الفاتيكاني الثاني على سبيل المثال لم تنشأ عن موجة شعبية قوية، بل انبثقت عن تفضيلات اللاهوتيين والأساقفة التقدميين، وهذا النهج الهرمي، حيث المشاهدة تفوق المشاركة بين الأفراد العاديين، من الأسباب الرئيسة وراء عدم الاكتراث بين الكاثوليك العاديين اليوم.

ويتلخص التحدي الرئيس الآخر الذي يواجه فرانسيس في استقلال العوام على نحو متزايد عن السلطة الكهنوتية، ففي العقود الأخيرة، حَلّ المديرون والعاملون العاديون في شبكة المدارس والمستشفيات والخدمات الاجتماعية التابعة للكنيسة محل القساوسة والراهبات إلى حد كبير، ونتيجة لهذا فقد تضاءل تدريجياً النفوذ الأسقفي- وفي نهاية المطاف نفوذ الفاتيكان- على الوزراء المرتبطين بالكنيسة منذ المجمع الفاتيكاني الثاني. فعلى سبيل المثال، يأتي نحو نصف ميزانية الجمعيات الخيرية الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأميركية من الحكومة. وعملياً، لا يشكل أي من هذه العمليات تمرداً مفتوحاً ضد روما؛ فكثير منها يمر بهدوء.

وهكذا يفعل كثيرون من الكاثوليك العاديين، فهم بحكم تدينهم إلى درجة ما، يتبعون ضمائرهم أو ما يلائمهم، فحياتهم أقرب إلى مواجهة هادئة بين المحظورات العقائدية والممارسات العامية، وكما لاحظ الكوميدي بوب نيوهارت "فالبابا يتركنا لحالنا؛ ونحن نترك البابا لحاله".

وبالتالي فإن المبادرات البابوية تخضع لقيود ثقافية ومؤسسية كبيرة، وفرانسيس هو الذي يحدد مدى هذه المبادرات، والواقع أن فرانسيس الذي وصف نفسها بأنه "ابن الكنيسة المطيع" من غير المرجح أن يفاجئ المؤمنين عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل الميول الجنسية ورسامة النساء في الكنيسة.

ومن ناحية أخرى، غرست خلفية فرانسيس اليسوعية في نفسه قدراً من الاستقلالية والميل إلى سلوكيات مستغربة (مثل تطويب يوحنا الثالث والعشرين ويوحنا بولس الثاني بضربة واحدة). وقد أقامت الرهبنة اليسوعية- التي تستند روحانيتها إلى مزيج يبدو متنافراً ولكنه ثابت رغم ذلك من التصوف والسياسة الواقعية- تحالفاً متناقضاً بين الولاء للهيئة المؤسسية والرغبة في إعطاء المواهب الفردية ما تستحقه من رعاية.

إن الهيئة الكهنوتية التي تتسم بالتراتب المتسلسل تغرس ميولاً غريبة الأطوار كزخارف غير ضارة لنظامها الصارم، وقد حظيت الكاثوليكية ببابوات طائشين وآخرين رديئين وفي بعض الأحيان بابوات صالحين، وقد أصبحت معتادة على رؤية العالم ينقلب رأساً على عقب بضعة أيام خلال كرنفال ما، ثم يعود إلى طبيعته.

ولكن هناك ما لابد أن يُقال عن كون فرانسيس رجلاً مستقل القرار في نهاية المطاف. فالآن يبدأ ما أطلق عليه ماكس فيبر وصف الكدح البطيء، بفرض برنامج راسخ من الإصلاح البنيوي على شخصية كاريزمية، وإلا فإن المؤسسة سوف تظل باقية على حالها التي تبدو عليها غالباً: دخان ومرايا في الأغلب، وهم كبير.

* مؤلف كتاب "المتاهة الكاثولويكية"، وأستاذ العلوم السياسية الفخري في جامعة ولاية أريزونا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top