البنوك المركزية... هل تلاشت سلطتُها

نشر في 25-04-2014 | 00:02
آخر تحديث 25-04-2014 | 00:02
منذ وقوع الأزمة المالية، عمدت البنوك المركزية إلى تخفيض معدلات الفائدة وشراء كميات هائلة من السندات السيادية وتنفيذ خطط إنقاذ البنوك. لكن يبدو أن نفوذها بدأ يتلاشى الآن بما أن تدابيرها لا تعطي نتائج ملموسة. هل ما زالت تحتفظ بسيطرتها؟ هذا ما سيحاول مايكل سوجا وآن سيث من {شبيغل} الإجابة عنه
مرة كل ستة أسابيع، يجتمع أقوى اللاعبين في الاقتصاد العالمي في الطابق الثامن عشر من مبنى قبيح يقع بالقرب من محطة القطار في مدينة بازل السويسرية. تشمل المجموعة رئيسة الاحتياطي الفدرالي الأميركي جانيت يلين ونظيرها ماريو دراغي من البنك المركزي الأوروبي، فضلاً عن 16 مسؤولاً بارزاً في مجال السياسة النقدية من بكين وفرانكفورت وباريس وبلدان أخرى.

أمضى الحاضرون حوالى ساعتين وهم يتبادلون وجهات النظر، خلال جلسة نقاش برئاسة حاكم بنك المكسيك المركزي أوغستين كارستنز. راح النوادل يقدمون وجبات طعام فاخرة مع نبيذ مكلف، فيما كان محافظو البنوك المركزية يتحدثون عن الاقتصاد والنمو وأسعار السوق. لم يدوّن أحد محضر الاجتماع لكن يبدو أن معظم المدراء الماليين النافذين في العالم مقتنعون بأن تلك الاجتماعات ستساهم في توسيع معارفهم بطرق مهمة. قال أحد الحاضرين: {نحن نتعلم كيفية استخراج أفضل أداء من نظرائنا}.

تلك الاجتماعات التي تحصل مساء أيام الآحاد وراء الأبواب المغلقة لها تاريخ طويل. لكن منذ أن عمدت مجموعة واسعة من البنوك المركزية إلى تخفيض معدلات الفائدة إلى ما يقارب الصفر وشراء الديون السيادية وإنقاذ البنوك، تسللت نزعة نقدية جديدة إلى محادثات العشاء. يتذمر خبراء السياسات النقدية في الأنظمة الاقتصادية الناشئة من أن التدابير التي اتخذها الأوروبيون والأميركيون تدفع بأموال المضاربة غير المرغوب فيها باتجاههم. يقول محافظو البنوك المركزية الغربية إنهم يتعرضون لضغوط سياسية متنامية. وعندما ظهر، أخيراً، مضيف الاجتماعات خايمي كاروانا، رئيس بنك التسويات الدولية في بازل، خلال واحدة من إطلالاته العلنية النادرة، تكلم عن {الضعف المزمن في حقبة ما بعد الأزمة} وعن {المخاطر} المطروحة. يقول كاروانا إن المؤسسات النقدية معرضة {لخطر استنزاف فسحة المناورة في السياسات المقترحة مع مرور الوقت}.

إنها كلمات غير مألوفة، سيّما وأنّ محافظي البنوك المركزية العالمية أصبحوا اليوم أكثر نفوذاً من أي وقت مضى، بعد خمس سنوات على انهيار بنك ليمان. فهم يحددون معدلات الفائدة ويسيطرون على الإمدادات المالية ويشرفون على الحكومات والبنوك، ويتعامل معهم الناس مثل نجوم السينما تقريباً، منهم حاكم بنك إنكلترا المركزي مارك كارني.

تحدد الرقابة النقدية ما يحدث في السياسة وفي الأسواق بدرجة غير مسبوقة، في حقبة ما بعد الحرب، علماً أن أعضاءها لا يُنتخَبون بل يكونون مستقلين عن حكومات بلدانهم عموماً. إنهم {أسياد الكون} الجدد. لكن لا تعطي نقاشاتهم الداخلية حول آثار نفوذهم انطباعاً بتحقيق نجاح باهر. بدأ النمو يتخبط في أبرز اقتصادات العالم، وأصبحت البنوك والأسر والحكومات مديونة جداً، وباتت سياسات المحافظين النقدية {غير التقليدية} تصطدم بالضوابط المفروضة عليها في كل مكان.

المغامر

إذا أردنا رصد رجل شجاع بين محافظي البنوك المركزية، فهو ريتشارد فيشر، رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي في دالاس، يضع شعره أعلى من ياقته ببضع سنتيمترات، وتبدو أزرار أكمامه الحمراء مزينة بعلامات الدولار الذهبية. وحين يتحدث عن السياسة النقدية، يقتبس، في أغلب الأحيان، كلام أسطورة الموسيقى الريفية دولي بارتون أو ينحرف عن الموضوع ويبدي ملاحظات عن كمية الجعة التي يشربها الأميركيون.

بطله هو بول فولكر، رئيس الاحتياطي الفدرالي الصارم منذ الثمانينيات الذي طرد شبح التضخم من الولايات المتحدة، رغم رفض الرئيس جيمي كارتر، ومعظم فئات الرأي العام في تلك الحقبة، رفع سعر الفائدة الأساسي إلى مستويات قياسية. أدت هذه الخطوة إلى ركود حاد لكنها أنهت، في الوقت نفسه، التضخم الذي فاق العشرة بالمئة. بالنسبة إلى فيشر، يبقى فولكر {عملاق السياسة النقدية}.

تتعلق المشكلة الوحيدة بواقع أن السيناريوهات التي يطبقها محافظو البنوك المركزية، منذ وقوع الأزمة المالية، لم تعد تتضمن عناصر من الأفلام الغربية، بل باتت تشبه المسلسل التلفزيوني الأميركي {غرفة الطوارئ} (Emergency Room). لا أحد يدرك هذا الواقع أكثر من فيشر الذي كان حاضراً في وحدة العناية المركزة بعد انهيار بنك ليمان، حين اضطرت الحكومة إلى الاستيلاء على بنوك أميركية كبرى وحماية القطاع المالي من الانهيار. فتراجعت معدلات الفائدة لتصبح شبه معدومة واشترت الحكومة سندات الخزينة على نطاق واسع.

نجحت جهود الإنقاذ في نهاية المطاف لكن {المريض} لم يتعافَ بالكامل بعد. بدأ الاقتصاد يستعيد زخمه لكن بوتيرة بطيئة، ولم تعد بعض المصانع تعمل بكامل طاقتها، ما دفع نظراء فيشر في مجلس محافظي الاحتياطي الفدرالي إلى الدفاع عن خطة ضخ أموال إضافية في الاقتصاد. يشعر فيشر، من جهته، بالقلق من إقدام الاحتياطي الفدرالي على شراء سندات سيادية وأوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري بقيمة 18 تريليون دولار (يساوي هذا المبلغ حوالى ربع مجموع ديون الحكومة الأميركية) لكن من دون أي منفعة حقيقية.

وحيدون في المعركة

حصل ذلك لأن معظم التدفقات المالية في القطاع المالي لم تصل إلى القطاع الخاص على شكل ائتمانات، كما توقع محافظو البنوك المركزية. بل إن البنوك تضخ الأموال في البورصة حيث بلغت الأسعار مستويات خيالية في الأشهر الأخيرة. بدأت القيم تقارب الآن المستويات المسجلة قبل يوم الجمعة الأسود سنة 1929 وانفجار فقاعة الإنترنت بعد 70 سنة.

يقع جزء من اللوم على السياسيين في واشنطن، كونهم يعجزون عن التوافق على الموازنة الفدرالية. لا تستثمر الشركات طالما تجهل مسار الأعباء الضريبية التي ستواجهها خلال السنوات اللاحقة. وطالما تمتنع عن الاستثمار، سيبقى الاقتصاد متباطئاً. يحذر فيشر من أن وقود البنك المركزي لا يصل إلى المحرك، بل يتدفق في مخزون عملاق للغاز ويمكن أن ينفجر في أي لحظة.

يسأل فيشر كيف يمكن تجنب التضخم إذا حصل ذلك؟ كيف يمكن أن تردّ الرقابة النقدية إذا انهارت الأسواق؟ وكيف سيردّ المواطنون على الخسائر التي سيتكبدها البنك المركزي، حتماً، إذا خسرت سندات الخزينة قيمتها؟ هل سيقبلون بذلك من دون تذمر أم سيرضخون لإرادة السياسيين على هامش المعسكرَين اليساري واليميني، علماً أنّ هؤلاء اعتبروا، خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أن الاحتياطي الفدرالي يجب أن يخضع لسيطرة الحكومة؟

في الماضي، شعر محافظو البنوك المركزية بأنهم وحيدون في هذه المعركة وتقضي مهمتهم الأولية برفض مطالب السياسيين بكل قوة في اللحظة المناسبة. أما اليوم، فيقيمون على الأرجح مقارنة مع مستكشفين من أمثال فاسكو دا غاما الذي اكتشف الطريق البحري حول {رأس الرجاء الصالح} في القرن الخامس عشر. نحن نبحر في مياه غير مألوفة، بحسب قول فيشر، ولا نعلم إذا كنا سنغرق في النهاية.

النجم

يحتاج مارك كارني إلى أقل من ثماني دقائق ليشرح كيف ينوي هو ونظراؤه إنقاذ العالم. عشية أحد أيام الاثنين من شهر مارس، جلس الصحافيون الماليون في غرفة من دون نوافذ في بنك إنكلترا. كان الهواء ساخناً وخانقاً. لكن حين دخل كارني إلى الغرفة، بدا كأنه ممثل خرج لتوه من غرفة الماكياج ببذلته المرتبة وربطة عنقه الأنيقة ومَشيته المسترخية.

بالإضافة إلى عمله كحاكم للبنك المركزي البريطاني، يرأس كارني مجلس الاستقرار المالي العالمي حيث يحاول أعضاء الرقابة المالية والمنظمون والخبراء من أنحاء العالم إصلاح القطاع المالي الواسع، بكل ما يشمل من بنوك وأموال ووكالات تصنيف. أنشأت دول مجموعة العشرين مجلس الاستقرار المالي بعد الأزمة المالية ليكون بمثابة مركز بحثي لحل الأزمات في العالم المالي.

حين عرض كارني، بنبرته السلسة لكن الجدية، أحدث مشروع لمجلس الاستقرار المالي (لتنظيم الأسواق المشتقة وحل مشكلة البنوك الضخمة التي تبدو كبيرة بشكل مفرط)، بدا شبيهاً بالمصرفي الاستثماري المتعجرف الذي كان عليه في بنك {غولدمان ساكس} طوال 13 سنة. من الواضح أن كارني هو نوع جديد من محافظي البنوك المركزية، ربما بسبب ابتسامته الماكرة التي تجعله يشبه جورج كلوني قليلاً أو لأن المجلة الرجالية GQ اعتبرته رمزاً للأناقة، فهو ليس مجرد رئيس جدّي لبيروقراطية حكومية بل مدير مالي عالمي، وقد أنشأ قطاعاً مهنياً جديداً، أي سوق الانتقالات لرؤساء البنوك المركزية.

عمل كارني كحاكم لبنك كندا طوال سنوات. وبما أن كندا صمدت في وجه الأزمة المالية من دون أن تتأذى، جلب وزير الخزانة البريطاني جورج أوزبورن كارني إلى بنك إنكلترا، منذ سنة، على أمل أن يحقق معجزات مماثلة في بريطانيا. ارتفع راتبه السنوي، بما في ذلك بدل السكن، ليبلغ مليون يورو (سبعة أضعاف راتب رئيسة الاحتياطي الفدرالي الأميركي جانيت يلين). وافق أوزبورن على طلب كارني لفترة قصيرة، فتوسعت ولاية بنك إنكلترا وأصبح الإشراف على البنوك البريطانية جزءاً من واجباته.

تلاشي الهيبة

منذ ذلك الحين، بذل كارني قصارى جهده ليتصرف كنجم كبير، كما يعتبره كثر. لذا جلب مستشارين إداريين إلى مقر بنك إنكلترا الذي يشبه الكاتدرائية بهدف تحسين ممارسات العمل. يحب أن يدعوه الجميع {مارك} أنه يأكل في الكافيتيريا ويركب قطار الأنفاق أحياناً.

لكن لم يتأثر زملاؤه الجدد في بريطانيا بعرض كارني المبهر. أعاق بعض صانعي السياسات النقدية المخضرمين جهود هذا الكندي لنشر ابتكاراته في أنحاء الأطلسي. أراد كارني إنهاء السرية التي تحيط بالقرارات المتعلقة بمعدلات الفائدة وإصدار دليل دوري يصف بدقة ما يخطط البنك لفعله مستقبلاً.

في كندا، ساهمت مقاربته في الحفاظ على مزاج هادئ خلال الأزمة. لكن يبدو زملاء كارني الجدد غير مستعدين للرضوخ له. في أغسطس، تعهد البنك المركزي بإبقاء معدلات الإقراض الأساسية منخفضة حتى يتراجع معدل البطالة إلى 7%. لكن كانت المحاذير كثيرة لذا لم تأخذ الأسواق ذلك الوعد على محمل الجد.

في منتصف فبراير، أُجبر حاكم بنك إنكلترا الجديد على التراجع عن التصريح الذي أعلن عنه بنفسه. تحسن معدل العمل بقوة لدرجة أن عتبة السبعة بالمئة أصبحت ممكنة سريعاً. حاول كارني الحفاظ على تماسكه، فأعلن أن معدل البطالة ليس {كبسة زر} تمهّد لرفع معدلات الفائدة تلقائياً. في النهاية، سيؤدي ذلك الارتفاع إلى إعاقة التحسن الذي ينتظره الجميع بفارغ الصبر.

منذ ذلك الحين، تلاشت هيبة الوافد الجديد بنسبة كبيرة. مع زيادة قوة النفوذ البريطاني وارتفاع أسعار العقارات إلى مستويات مقلقة في مناطق عدة، يتعرض كارني لانتقادات متزايدة. بدأ كثر يلحظون أن الموازنة  العمومية في بنك إنكلترا ما زالت متضخمة بالكامل، لأن الرقابة النقدية في إنكلترا اشترت كميات من ديون الحكومة خلال الأزمة.

يقول مارتن ويل، عضو في لجنة السياسة النقدية في إنكلترا: {أظن أن الناس ربما يتوقعون إنجازات مفرطة من البنوك المركزية. لكن في النهاية يملك البنك المركزي أداة مركزية واحدة فقط: معدلات الفائدة. لا يمكن تحقيق أربعة أو خمسة أمور بفضلها}.

العميد

يدرك ماريو دراغي أن عبارة واحدة يمكن أن تصنع المعجزات، أحياناً، لكنها قد تنتج الكوارث أيضاً، لا سيما في مجال السياسة النقدية. حين راح يشرح أحدث قرارات البنك المركزي الأوروبي أمام الصحافيين في ذلك اليوم من شهر أبريل، انحنى فوق مخطوطته وأعاد، بكل بساطة، قراءة الجملة الأساسية في خطابه الأولي، وكأنه أستاذ لا يثق بأن طلابه كانوا يصغون إليه.

بدأ دراغي كلامه بعبارة {مجلس الإدارة يُجمع على التمسك باستعمال...}، ثم أمعن النظر بجمهوره وشدد على كلمة {أيضاً}، قبل أن يتوقف مجدداً ويتابع قائلاً: {الأدوات غير التقليدية ضمن صلاحيته من أجل التكيف بفاعلية مع مخاطر انخفاض التضخم خلال فترة مطولة}.

يعني ذلك، بحسب قوله، أن التدابير التقليدية لم يتم استغلالها بالكامل بعد.

هل فهمتم قصده؟ طور دراغي ميلاً لاستمالة الأسواق بتعابير غامضة. جاء ابتكاره الأخير رداً على معدل مقلق: 0.5%. هكذا كان مستوى التضخم في منطقة اليورو في مارس. وفق معايير البنك المركزي الأوروبي، يُعتبر معدل التضخم الذي يبلغ 2% صحياً. حتى محافظو البنوك المركزية لم يتوقعوا تراجعاً حاداً لهذه الدرجة.

على صعيد آخر، تم استنزاف السلاح التقليدي الذي يُستعمَل، عموماً، في ظروف مماثلة، وذلك بعدما بلغ معدل الفائدة الأساسي في البنك المركزي الأوروبي مستوى منخفضاً تاريخياً: 0.25%.

أثر ضئيل؟

تتعلق إحدى المفارقات في التاريخ النقدي الحديث بواقع أن هذه المعضلة تولّد قواسم مشتركة بين دراغي وأبرز خصومه في مجلس البنك المركزي الأوروبي. طوال سنوات، كان محافظ البنك المركزي الألماني ينس ويدمان يثير غضب دراغي بتحذيراته العلنية المتكررة من رمي مبالغ مالية كبيرة لمساعدة الدول المريضة في منطقة اليورو.

لكن ماذا حصل الآن؟ يبدو أن الرجلين توصلا إلى إجماع حول التضخم في منطقة اليورو. فشددا أولاً على وجوب وصف الوضع الراهن بالتضخم المنخفض وليس الانكماش. ثم أعلنا، بشكل شبه متزامن، أنهما مستعدان للتحرك إذا تابع التضخم تراجعه.

يأمل دراغي وويدمان، على ما يبدو، أن تكون كلماتهما كافية للتخلص من الحاجة إلى تدخل فعلي. يدرك الرجلان، في نهاية المطاف، أن تلك التدابير، مثل برامج شراء السندات المالية، تبقى مكلفة لكن سيكون لها أثر ضئيل. وفق حسابات الخبراء في البنك المركزي الأوروبي، حتى لو اشترى البنك المركزي سندات مالية مقابل تريليون يورو، فلن يرتفع معدل التضخم إلا بنقاط تتراوح بين 0.2 و0.8%. هذا الوضع يطرح معضلة بالنسبة إلى ويدمان ودراغي. الآن وقد تم استنزاف الحلول التقليدية كلها، يحاولان السيطرة على الأسواق بالكلمات. ربما ستعطي كلماتهما الأثر المنشود. لكن يمكن أن تفشل هذه الخدعة بالكامل، ما سيُجبرهما على اتخاذ تدابير لا يؤيدانها بالضرورة بل يمكن أن تترافق مع مخاطر وآثار جانبية يسهل توقعها.

الباحث

لماذا يجد محافظو البنوك المركزية صعوبة في اتخاذ قراراتهم في هذه الأيام؟ ربما لا أحد يعلم حقيقة الوضع أكثر من الإيطالي القصير والأشيب الذي يخرج من مكتبه فاتح الذراعين. كلاوديو بوريو، كبير الاقتصاديين في بنك التسويات الدولية، أي المؤسسة المالية النافذة التي تؤدي دور عراب البنوك المركزية ومنظمتها البحثية.

هذا الاقتصادي ليس معروفاً جداً خارج العالم المعزول الذي يعيش فيه خبراء السياسات النقدية. لكن داخل عالمهم، يُعتبر بوريو رجلاً محترماً، وهو كذلك كونه أحد الخبراء الاقتصاديين القلائل الذين توقعوا الأزمة المالية بشكل صحيح.

تابع بوريو أبحاثه، منذ ذلك الحين، فحلل بيانات لا تُعَدّ ولا تُحصى عن أسعار الفائدة ونزعات التضخم ومعدلات النمو، وحرص على صقل نظرياته. وفق رسالته المحورية، يبدو أن القوى نفسها التي سببت الأزمة المالية ما زالت ناشطة اليوم. لذا تبقى التدابير التي يتخذها محافظو البنوك المركزية غير فاعلة، وقد رسخت نماذج اقتصادية عقيمة كما يقول: {من سلبيات نماذج الاقتصاد الكلي أنها تتجاهل الدورة المالية}.

أشار بوريو إلى رسم بياني على طاولة المؤتمر الزجاجية، يعرض منحنيَين يعكسان تاريخ الاقتصاد الأميركي طوال نصف قرن.

يصوّر الرسم البياني الأزرق نزعات اقتصادية فضلاً عن نقاط التحول المعروفة: أزمتا النفط خلال السبعينيات والثمانينيات، وفقاعة الإنترنت في مطلع الألفية الثالثة، والركود الاقتصادي الحاد غداة إفلاس بنك ليمان. المنحنى الأحمر ليس معروفاً جداً لكنه مهم بالقدر نفسه على الأقل. يعكس التقلبات في القطاع المالي، ويستعمل بوريو نمو القروض وأسعار العقارات كمؤشر لها. حصلت تقلبات طفيفة في الدورة المالية حتى حقبة الثمانينيات لأن أسواق الرساميل كانت معزولة وطنياً وعلى درجة عالية من التنظيم حتى تلك الفترة.

الإمساك بعجلة الاقتصاد

في الولايات المتحدة، يتخبط أعضاء مجلس المحافظين في الاحتياطي الفدرالي لتحديد التوقيت المناسب لإنفاق التريليونات على شراء سندات الخزينة. في المملكة المتحدة، بدأ البنك المركزي يربك الرأي العام بتصريحاته المتناقضة عن القرارات المستقبلية بشأن معدلات الفائدة. وفي أوروبا، تبحث الرقابة النقدية في مجلس البنك المركزي الأوروبي عن طريقة لمحاربة معدلات التضخم المنخفضة.

خلال أحدث اجتماع لصندوق النقد الدولي في واشنطن، حث خبراء السياسة المالية والمدراء التنفيذيون في القطاع المصرفي حكام البنوك المركزية على متابعة سياسة الأموال الرخيصة. تمت مناقشة مسألة شراء سندات إضافية، فضلاً عن معدلات الفائدة السلبية وصفقات البنك المركزي التي تشمل سندات الدين المضمونة. يبدو كأن المسؤولين عن السياسة النقدية باتوا مضطرين الآن لاختراع أكبر قدر ممكن من الابتكارات المالية كما فعل المصرفيون الاستثماريون سابقاً.

لا يشعر محافظو البنوك المركزية بالرضى الشديد على ما يحصل. بل يميلون إلى الاقتناع بأنهم بذلوا ما يكفي من الجهود، لكنهم يتساءلون عما إذا كانت تحركاتهم ستسبب الآن الأضرار بدل المنافع. تترك المقابلات مع محافظي البنوك المركزية وواضعي النظريات النقدية انطباعاً بوجود انقسام معرفي كبير: يرغب الرأي العام في أن تتابع البنوك المركزية تحريك الاقتصاد، لكن يشعر رؤساء البنوك بأنهم ما عادوا يمسكون بعجلة الاقتصاد.

تأثيرات غير مقصودة

مع ترسخ ظاهرة العولمة والتحرر من القيود، يصبح القطاع المالي منفصلاً، بشكل متزايد، عن الاقتصاد الحقيقي، غداة شيوع منطق المضاربة الذي ينص على أن تتغذى السوق الصاعدة من الأسواق الصاعدة والسوق الهابطة من الأسواق الهابطة.

بلغت التقلبات الحاصلة في هذا الكون الاقتصادي الموازي أبعاداً هائلة، خلال التسعينيات. تتعلق المشكلة الوحيدة بواقع أن الرقابة النقدية لا تراقب الوضع فعلياً. تميل، حصراً، إلى رصد تقلبات الاقتصاد الحقيقي تماشياً مع العقيدة الجيوسياسية السائدة: حين ترتفع الأسعار خلال مرحلة التعافي، ترفع البنوك المركزية معدلات الفائدة لتجنب التضخم. وحين يتراجع الاقتصاد، تعمد إلى تقليص كلفة الاقتراض.

لكنها تغفل عن التأثيرات غير المقصودة على الأسواق المالية نتيحة قراراتها. في 1987 مثلاً، خفض الاحتياطي الفدرالي معدلات الفائدة غداة انهيار السوق. كان يهدف إلى تجنب الركود لكنه حفّز بذلك على نشوء طفرة غير صحية في سوق الإسكان، ما أدى إلى تراجع حاد في الأسعار، بعد فترة قصيرة، فضلاً عن انهيار مئات بنوك الادخار.

بعد مرور عقد من الزمن، وقعت الاعتداءات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، وقد دفعت الاحتياطي الفدرالي إلى إغراق الأسواق بالمال. لكن لم تنشأ الفقاعة هذه المرة في سوق العقارات فحسب، بل في مجال الإقراض والقطاع المصرفي أيضاً، ما أدى، في نهاية المطاف، إلى أكبر انهيار شهده القرن كله وإلى نشوء الأزمة المالية اللاحقة. في محاولةٍ للسيطرة على الاقتصاد، أنشأ محافظو البنوك المركزية {وحشاً}، كما وصفه الرئيس الألماني السابق هورست كولر في إحدى المناسبات. لقد أصبحوا رهينة القطاع المالي.

وصل بوريو إلى نهاية قصته الصغيرة عن المال. لقد كوّن صورة واضحة عن المشكلة لكن لا وجود لأي حلول بسيطة.

كانت البنوك المركزية تقوم بما يجب فعله، طبعاً، حين بذلت كل ما بوسعها لمنع الانهيار، لكنها استنزفت خياراتها كلها الآن. في الولايات المتحدة، اشترى الاحتياطي الفدرالي سندات خزينة بقيمة التريليونات، لكنه لا يستطيع إجبار السياسيين في واشنطن على التوافق في خضم الصراع القائم على الموازنة. في أوروبا، أغرق البنك المركزي الأوروبي البنوك بالسيولة لكنه يعجز عن إعادة هيكلة المؤسسات. وفي بريطانيا، تعهد بنك إنكلترا بإبقاء معدلات الفائدة منخفضة في المستقبل المنظور، لكنه يعجز عن خلق فرص عمل بنفسه. يقول بوريو: {السياسة النقدية أصبحت مثقلة بالأعباء}.

مسألة مختلفة

بغض النظر عما يفعله محافظو البنوك المركزية، يبدو أن التقلبات التي تطاول قطاع الائتمان الحر ستجعل دوافعهم غير فاعلة أو ستضخّمها لدرجة أن تطرح تهديداً. يقول بوريو: {يجب أن تحرص السياسات على عدم إعاقة الدورة المالية}.

لهذا السبب يجب أن تشدد الحكومات رقابتها على البنوك والمؤسسات المالية، بحسب رأيه، لكن يؤدي خبراء السياسة النقدية دوراً في هذا المجال. يجب ألا يركزوا حصراً على الاقتصاد بل أن يتنبهوا إلى الدورة المالية أيضاً. يعني ذلك رفع معدلات الفائدة حين تصبح مرحلة التعافي مفرطة، وإلا يجب أن يذكّروا أنفسهم بفضيلة كانوا يمارسونها بحذر أكبر: عدم القيام بشيء وتشجيع كل من يستطيع إحداث تغيير فعلي على التحرك، مثل صانعي السياسة والمصرفيين وأصحاب الشركات.

تحليل بوريو مألوف بالنسبة إلى محافظي البنوك المركزية، ويوافقه كثر الرأي. لكن يعلم الناس أنه ليس شائعاً في الوقت الراهن. يقول عالِم الاقتصاد: {بدأ محافظو البنوك المركزية يعترفون بأهمية الدورات المالية. لكنّ درجة استعدادهم للتحرك تبقى مسألة مختلفة}.

back to top