اذهب حيث يقودك قلبك

نشر في 22-04-2014
آخر تحديث 22-04-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس يظل الحوار الحميم (للآباء / الأمهات) مع الأبناء مكتنَفاً غالباً بالصعوبة أو التحفّظ أو الارتباك شئنا أم أبينا، مهما تقاربت الأجيال أو ضاقت الفجوة الثقافية والعلمية. هناك دائماً تلك الجمل المبتورة، والمشاهد المقتَطعة، وأنصاف الحقائق، وبعض الفجوات المسكوت عنها، والكثير من الصمت. ذلك مسلك يكاد يكون طبيعياً، فما كل ما يُعرف يُقال، ولا كل الذكريات والوقائع في العلاقات الأسرية والإنسانية قابلة للنقل والتداول عبر الأجيال. وربما يفعل الآباء ذلك مدفوعين بالشفقة أو الرغبة في الحماية، أو ببساطة شاعرين بقدسية خصوصيتهم وأسرارهم الصغيرة أو الكبيرة التي عادة ما تذهب معهم إلى القبر.

قد لا يكون أمر الحوار مع الأبناء، والذي يلاقي هذه التحفظات، يخصّ إشراكهم في الذكريات والأحداث فقط، وإنما ربما ينسحب الأمر على صعوبة التعبير عن المشاعر العميقة والملتبسة، كالشعور بالندم أو الرغبة في الاعتذار أو التعبير عن الحبّ أو الضيق أو الضعف واليأس. هذه المشاعر القوية تحتاج إلى شجاعة وجسارة قلب حين البوح بها للأبناء، لأنها ببساطة تمسّ الصورة النمطية المتعارف عليها للأب أو الأم، وكونهما الصخرة التي يحتمي بها الأبناء ويلوذون.

هناك كثير من حكمة العمر وتجارب الحياة قد تضيع هباءً منثوراً بسبب ذلك التحفّظ، وتضيع معهما أيضاً تلك الرؤى الشخصية للقيم الإنسانية التي يتبناها الوالدان، وقد تكون رؤىً ملونة بالخصوصية والخصوبة مما يصعب اقتناصه شفاهة أو عبر الأحاديث المرتجلة العابرة. ثم يأتي فارق الأجيال واختلاف الاهتمامات وتعاكس أنماط التفكير، ليجعل مهمة التواصل أكثر صعوبة.

تطرح رواية «اذهب حيث يقودك قلبك» للروائية الإيطالية سوزانا تامارو، هذه الإشكالية حول صعوبة التواصل بين الأجيال، وصعوبة التفاهم ونقل التجارب بين الأجداد والأبناء والأحفاد بشكل سلس وحميم. وقد اختارت الكاتبة أن تجعل الجدة المسنة، وهي الشخصية الأساسية في الرواية، تلجأ إلى حيلة الكتابة والتدوين لذكرياتها ومراحل حياتها وتجاربها، وتضمّنها في سجل ورقي على أمل أن تقرأها حفيدتها المراهقة التي سافرت إلى أميركا للدراسة. ويبدو أن اللجوء إلى الكتابة جاء كلون من التكفير عن ذنب الصمت الطويل والتحفّظ، إزاء جملة من الأحداث والحقائق التي ظلّت حبيسة الصدور وحبيسة المشاعر.

الكتابة، ودائماً الكتابة تكون البديل الأمثل للمواجهة! كأنها النقاب الأكثر شفافية ونقاءً، والرسول الأرق والأصدق للوصال والبوح! لم تجد «أولجا» بديلاً عن الكتابة منذ أدركت وعورة الطريق بينها وبين ابنتها  في البدء، حين كان الصِدام والنفور والكلمات المبتورة والمشاعر الملتبسة هي الزاد اليومي لكلتيهما، ثم ازداد الطريق وعورة مع الحفيدة المراهقة التي غيّرتها طبيعة المرحلة وزادتها شراسة ولامبالاة.

لم تكن الجدة، بكل ما كانت تمتلكه من رهافة الفكر والتجارب المموّهة بالمرارات والخيبة، بمعزل عن اللوم الذاتي، أو الإدراك لثنائية (الحب/الكره) التي تأتي كمتلازمة نفسية لعلاقة (الأم/البنت). ولكنها في أوراقها المهداة إلى الحفيدة تحاول أن تفكك طبيعة هذه العلاقة، وما يكتنفها من فوضى وارتباك ومشاعر متناقضة. وتحاول أيضاً أن تحلل وتفسّر الدوافع وطبيعة الظروف التي ألجأتها إلى التكتّم والمواربة، وبناء ذلك السور الهشّ من قلة الثقة.

في الرواية كثير من التأمل حول الأقدار الإنسانية، والبحث عن الذات، والإيمان، والتحرر من الأعراف الجاهزة والتقليدية اجتماعية كانت أم تربوية. وفيها أيضاً اقتراب حميم من عالم كبار السن وتفاصيلهم اليومية، وتأقلمهم مع أعراض الوهن والمرض وفكرة الفناء الوشيك.

تقول الجدة في مفتتح يومياتها مخاطبة حفيدتها: «لا تخشي شيئاً، لا أريد أن أعظك ولا أن أحزنك. أريد فقط أن أتحدث قليلاً بالألفة التي كانت تربطنا يوماً ما، والتي فقدناها في الفترة الأخيرة. ونظراً إلى أنني عشتُ طويلاً وأنني تركتُ خلفي أشخاصاً كثيرين، أعلمُ الآن أن الأموات يثقلون ليس فقط لغيابهم، ولكن بالأحرى بسبب كل ما لم يُقل بيننا وبينهم».

«الكتاب من منشورات إبداعات عالمية، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ترجمة د . أماني فوزي حبشي».

back to top